شطحات أدبية ... / عدنان الظاهر
عدنان الظاهر نيسان 2014
شطحات أدبية
شطحات شوقي
أفتتحُ موضوع الشطحات الأدبية بشطحات قصيدة مُغنّاة من قصائد الشاعر المصري المعروف أحمد شوقي. كانت هذه القصيدة قد ذاعت أواخر أربعينيات القرن الماضي وبالتحديد في عام 1948 وشَهُرت على نطاق واسع وذاع صيتها بعد أنْ لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب. عرفناها من مطلعها الجيّد الذي يقول :
مُضناكَ جفاهُ مرقدُهُ
وبكاهُ ورحّمَ عوّدُهُ
وكان أحمد شوقي قد جارى فيها قصيدة قديمة لها قيمتها الأدبية والتاريخية للشاعر الحِصري البوصيري القيرواني ومطلعها :
يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ
أقيامُ الساعةِ موعِدُهُ
رقدَ السُمّارُ فأرّقهُ
أثرٌ للبينِ يُرددُهُ
ملاحظة : للبيت الأول قراءة ثانية هي الأخرى صحيحة نحويّاً :
يا ليلَ الصبِّ متى غدُهُ
أقيامُ الساعةِ موعدُهُ ؟
أين الشطحات في قصيدة [ أمير الشعراء ] أحمد بيك شوقي ؟
أسوق الأمثلة والشواهد وطبيعي أنْ يختلف بعض القرّاء معي في الإجتهادات والتفسيرات والتحليلات لأني من حيثُ الأساس أحتكم للذائقة الأدبية والشخصية وليس للعقل والقياس والأنموذج المتداول . وطبيعي أنْ أختلف مع أحمد شوقي لأننا ننتمي لجيلين مختلفين ولا من جامع يجمعنا إلاّ حب الشعر وتقريضه ومتابعة تطور مدارسه على مرِّ العصور.
المثال الأول على الشطح في هذه القصيدة :
1ـ
الحُسنُ حلفتُ بيوسفهِ
والصورةِ أنكَ مفردُهُ
إعتمد شوقي في هذا البيت على قصة أو أسطورة يوسف بن يعقوب الذي غدر به إخوته ورموه في غيابة الجب واشترته السيارة بثمن بخسٍ دراهمَ معدوداتٍ وباعوه في مصر لعزيز مصر الذي اتخذ منه ولداً كما قرأنا في كتب الديانات ومنها القرآن الكريم . قصة يوسف هذا معروفة مع زُليخا البربرية زوج عزيز مصر التي راودته عن نفسها فأبى واستعصم بعد أنْ " رأى برهانَ ربّهِ " وقال " معاذَ اللهِ إنه ربّي أحسنَ مثوايَ ".
قامت أسطورة يوسف على ثلاثة أمور هي قدرته على تأويل الأحاديث وعفّته وجمال وجهه : " ... فلّما رأينهُ أكبرنهُ وقطّعنَ أيديهنَّ وقُلنَ حاشى للّهِ ما هذا بشراً إنْ هذا إلاّ مَلَكٌ كريم " حسب سورة يوسف في القرآن الكريم الآية 31 .
كان شوقي في قصيدته هذه يخاطب ذَكَراً بأساليب غزلية أفلاطونية فبالغ في إطرائه مستعيراً بعض ما ذكرت كتب الدين عنه من مبالغات وأقاصيص ليست ببعيدة عن الخرافات. وتأسيساً على هذه التخاريف قال شوقي :
2ـ
ناقوسُ القلبِ يدُقٌّ لهُ
وحنايا الأضلعِ معبَدُهُ
هنا مفارقة بيّنة وخطأ ديني فالنواقيس في كنائس المسيحيين لكنَّ يوسفَ يهودي إبن يهودي ! المبالغة هنا فجّة والصورة مُصطنعة غارقة بالمبالغة والشطط. سبق وأنْ أقسم الشاعر بحسن يوسفَ وقررَ أنْ لا من ثانٍ لهذا الحسن ، إنه حسنٌ مفرد ! هل رأى شوقي هذا الوجه الخارق في حسنه وهل نادم صاحبه على ضفاف نهر النيل أو في بارات شارع الهرم ؟
ثمَّ /
3ـ يتخذ من يوسف إبن يعقوب مولى وقد عبده كما رأينا في البيت
السابق :
مولايَ وروحي في يدهِ
قد ضيّعها سلمتْ يدُهُ
أهذا غزلٌ أمْ تعبّد لبشر ؟
ثم كيف يدعو شوقي بالسلامة لليد التي أضاعت روحه وأطارت بعقله فغدا بالحب مجنوناً ؟ صناعة وتصنّع كبيران في هذا البيت لكنها صناعة فقيرة وجافّة لا يتقبلها الذوق السليم.
للجواهري شئ من هذا القبيل ولكنْ شتّان ما بين المثالين. قال
الجواهري :
المنايا علّمني / سامحَ اللهُ المنايا
أجهلُ تفاصيل قصيدة الجواهري هذه وأجهلُ مناسبتها لكني سمعتُ هذا الجزء خلال أمسية أدبية في ديوان الكوفة في لندن عام 2000 قرأته المذيعة في هيئة الإذاعة البريطانية يومذاك السيّدة هُدى الرشيد وهي التي قدّمت تلك الأمسية.
4ـ وثمّةَ خطأ لا ريبَ أكبر من الشطح يتناقض مع المنطق اللغوي حيث قال :
ما بالُ العاذلِ يفتحُ لي
بابَ السُلوانِ وأوصِدُهُ
نواجه هنا إشكالية لغوية تختصُّ بمعنى العذل والعاذل إذْ متى كان العاذل مصدراً للسلوِّ ؟ ناقشتُ هذه المسألة قبل فترة حين تعرّضت إلى أغنية عفيفة اسكندر " حركت الروح لمّنْ فاركتهم " ووقفت عند البيت القائل " أودّعهم وعُذّالي يشوفوني / أجو لا للشماتة ولا يلوموني / أجو بفراك أحبابي يسلّوني " ... أصحيحٌ أنَّ العاذل يُسلّي ؟ فلماذا هو عاذل وبمَ يعذلُ ؟ قصيدة شوقي سبقت أغنية عفيفة بكثير.
يستطرد أحمد شوقي مع العاذل ويمضي في هيمانه في محبوبه :
ويقولُ تكادُ تُجنُّ بهِ
فأقولُ وأوشكُ أعبدُهُ
مرة أخرى عبادة ثم جنون وهو خبير بموضوع جنون العاشقين فقد كتب أوبريت مجنون ليلى لحّنه وغنّاه صديقُهُ أو ربيبهُ محمد عبد الوهاب سويةً مع أسمهان. ذاع صيت هذا الأوبريت في العراق حتى مثّلته فرقة من تلاميذ متوسطة وثانوية الحلة للبنين ربيع عام 1950 .. قام بدور قيس المجنون بليلى الصديق المرحوم صبري مُصلح الدين صالح الدرّاجي تمثيلاً وغِناءً وقامت شقيقته " ليلى " بدور عفراء خادم ليلى إبنة عم قيس المهووس بالحب.
هذا هو أحمد شوقي والحب عنده معبدٌ وتعبّدٌ وعبادة فهل عرف العربُ قبله عبادة مَنْ أحبّوا ؟ لم أجدْ مثلَ هذا الكلام فيما قرأتُ وعرفتُ من أشعار الأولين في الجاهلية والإسلام فما تفسير هذه الظاهرة ؟
نجح شوقي وأبدع في قصيدته " سلامٌ من بَردى أرقُّ / ودمعٌ لا يُكفكَفُ يا دِمشقُ " لكنه لم يحقق نجاحاً ذا بال في قصيدته " مُضناكَ جفاهُ مرقدهُ " ولعل مجاراته لقصيدة أخرى معنىً ووزناً وقافيةً هو الفشل الأول والأكبر.
شطحة توماس إليوت (1)
هذا شاعر معروف إنكليزي عاش في أمريكا أو بالعكس شَهُرَ بقصيدته المسماة ( الأرض الخراب
The Waste Land
) التي نشرها في عام 1922 ومن ثمَّ قرأها المثقفون العراقيون والعرب وتأثر بها البعض منهم تأثراً لم يُخفهِ أيٌّ منهم.
قال إليوت في مطلع الجزء الأول من قصيدته هذه ما يلي :
April ist he cruellest month, breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.
فأين الشطحة التي عنيتُ ؟ الشطحة في قول الشاعر إنَّ شهر نيسان ( أبريل ) هو أقسى الشهور! ثم يبرر قوله بما يلي، وعذرهُ أتعس من
قوله : يبعث روحَ ورود الليلاك في الأرض الميّتة [ لا أعرف اسم هذا الورد بالعربية ] ، يمزج الذاكرة بالرغبة، يُنعش الجذور الغبية بمطر الربيع . قد تكون هذه الترجمة غير دقيقة لكنها قريبة من قصد الشاعر إليوت. المهم : شهر نيسان هو سيّد شهور فصل الربيع حيث تتفتح فيه براعم الأشجار وتظهر على غصونها زهور الفاكهة وأولها زهور أشجار اللوز البيض وتتفتح الورود فيه فتزهو الحدائقُ والمتنزهات والبيوت بمختلف الألوان وينتشر الشذى وتنشط الحياة وتتجدد هممُ الناس وتنتعش الطبيعة فكيف يكون شهر نيسان أقسى الشهور؟ نعم، في ولادة الإنسان قسوة، فالمرأة تعاني معاناة كبرى في ساعات المخاض ولكن هل تقاسي البذرة حين تدب فيها الحياة وتشق طريقها نحو ضوء الشمس لتأمين غذائها سويةً مع ما يأتيها من ماء تمتصه من التربة؟ هل سُبات البذور تحت الأرض أفضل وأكثر رحمةً من دبيب الحياة فيها وشقّها الطريق نحو مصدر النور ومن الذي يفيد من دبيب الحياة في النباتات ؟ ألسنا نحن البشر؟ سبات البذور مرحلة لا بدَّ منها لبث الحياة وقيامة هذه البذور من عالم غير مرئي لآخرَ تراه العيون. إنها الحياة وإنها الطبيعة التي لا مردَّ لقوانينها. البشر يفرح بقدوم مولود جديد كان هو الآخر مجرد نطفة مُخصّبة في رحم أمه فما سبب سوداوية الشاعر إليوت لمبعث الحياة في عالم النبات ؟
ينتقل الشاعر من عالم النبات إلى دنيا البشر فيقول إنَّ شهر نيسان يمزج الذاكرة بالرغبة! يقصد أنَّ له في هذا الشهر وفي هذا الموسم ذكريات تخصُّ رغبات مارسها وبقيت ذكراها عصيّة على النسيان. هنا تفاؤل لا شأنَ له بالسوداوية التي رأينا قبل قليل. يتناقض إليوت في السطر الرابع مع أطروحته الأولى فيذكر مطر الربيع الذي يُحرّك أو يهيّج الجذور الغبية. ما نوع القسوة التي تعانيها جذور النباتات إذا انتعشت ومشى فيها نسغ الحياة وتمددت في باطن الأرض والأرض أمُّ الجميع أحياءً وأمواتاً ولا نبتة بدون جذور ما عدا الكمأة والفطر؟
قد يقول قائل إنه الشعر والشعراء أحرار فيما يقولون فأقول نعم، الشعراء أحرار في أقوالهم وتصوراتهم وفي مجازاتهم وما يختارون من رموز تاريخية أو أسطورية ... هذا صحيح لكنْ للقارئ حرية التفسير والتحليل وحرية التعبير عن وجهات نظره حاله حال الشاعر فكلاهما يمارس حريته الشاعر في القول والقارئ في التحليل والتأويل. من ناحيتي لم أجد فيما اخترتُ شعراً ولا شاعرية كما أني لم أجد فنّاً أو إبداعاً في هذه الأسطر الأربعة إضافة لمخالفة بعضها لقوانين ومنطق الطبيعة. ما يجده توماس إليوت قساوة أراه نعيماً وتشاؤمه تفاؤلاً حقيقياً يتسق مع ما نعرف من ظواهر نعايشها ولا ننفصل عنها فالربيع، وشهر نيسان يتوسط شهوره الثلاثة، هو ملك وتاج الفصول وفيه تقع أعياد عالمية منها ما له قيمة أسطورية فالحادي والثلاثون من شهر آذار هو عيد للكثير من الأمم وفيه أسطورة كاوة الحدّاد وبداية السنة الهجرية وآذار هو الشهر الأول في فصل الربيع.
لا يفوتني أنْ أُلفت النظر إلى نقطة هامّة هي جمع الشاعر إليوت لإنبعاث الحياة في النباتات في فصل الربيع وعنوان وموضوع الجزء الأول من قصيدته الطويلة : دفن الميّت! حدثان متعارضان تماماً ففي النبات ولادة وانبعاث وفي البشر موت وفناء وكلاهما يحدثان تحت الأرض وفي الظلام. يتشاءم الشاعر من الحدث الأول ويحزن للثاني. في القيامة والنشور تشاؤم وسوداوية وفي نهاية هذا النشور موتٌ وحزنٌ وأسى أفهذه حياة وطبيعة سويّة؟ ما مغزى تفتّح حياة جديدة إذا ما كان منتهاها ومآلها زوال ودثور؟ أهذا ما يجمع الجنس البشري بعالم النبات الصامت غير الناطق؟
ثم، أليس في النبات حياة الإنسان عليه نشأ وتغذّى وما زال وقبل أنْ يتعلم أكل لحوم الحيوانات؟ قال الشاعر إبن شبل البغدادي :
بالذي نغتذي نموتُ ونحيا
أقتلُ الداءِ للنفوسِ الدواءُ
يهمّني أمرٌ آخرُ في موضوع قصيدة إليوت هذه هو تأثر بعض الشعراء والأدباء بمقولة " نيسان أقسى الشهور " فأعجبوا بهذا القول واتخذوا منه إيقونة بل واستعارها أحد الشعراء مُفتتحاً بها واحدة من قصائده ...
ما هذا التقليد الأعمى وما هذا القصور في الفهم؟ هل فكّر هذا الشاعر الشاب وهل أمعن النظر مليّاً فيما قال إليوت؟ وهل كل ما يقول خواجات الغرب آيات بيّنات نركع لها ونسجد ونضعها " باجات " على صدورنا لنبيّنَ للناس أنّا قرأنا هذا الشاعر الأمريكي أو الإنكلزي وتأثرّنا بما قال وإنَّ قوله هو القول الفصلً والبيان المُبين؟ رويدكم يا شباب ولا تبخسوا أقداركم وكونوا أكبر وأجل من التقليد.
ملاحظة : وجهات نظري ومؤاخذاتي هذه لا تُنقص من شأن وأهمية هذه القصيدة التي لها قدرها وأهميتها الشعرية والتاريخية التي عرفها الشعراءُ والأدباءُ والنقادُ جيلاً بعد جيل.
شطحات المتنبي
للمتنبي شطحات شعرية عرفها نقّاده القدامى وأسرفوا وتطّرفوا في ذمّها وفي شتم المتنبي على حدٍّ سواء وكانوا على حق حيناً وعلى باطل في أحيانَ أخرى. أما الشطحات التي سأذكر بعد قليل فلا أحسبُ أنَّ أحداً تعرّضَ لها قبلي وإني لأعجبُ كيف لم يحصل ذلك وكيف فاتت نُقاد وشانئي المتنبي وما كانوا قليلي الشأن أدباً ولغةً وشعراً.
لا أُطيلُ الوقوف مع أبي الطيّب المتنبي فلقد طالما أطال غيري بجدوى ومن غير جدوى لذا سأكتفي بذِكر بيتين من شعره وربما أكثر من ذلك بقليل مُستعيناً بذائقتي الشعرية ومنظومة مفاهيمي الخاصة بالشعر والناس يختلفون فيما بينهم حول هذين الأمرين لذا سيختلف معي كثيرون.
البيت الأول من قصيدة " وعقابُ لبنان " قدّمها بقوله ( يمدحُ بها أبا عليٍّ هرون بن عبد العزيز الأوراجي وكان يذهبُ إلى التصوّف ) :
أَسفي على أسفي الذي دَلَهتني
عن علمهِ فبهِ عليَّ خّفاءُ
إعتراضي ومخالفتي الكبيرة للمتنبي في جمعه وتكريره للمصدر " أسفي " ... أسفي على أسفي ... الفن الشعري الرائق والراقي لا يحتملُ بل ولا يُطيق مثل هذا الجمع المُكرّر فضلاً عن لاشعرية المصدر المنسوب للشاعر نفسه " أسفي " فكيف إذا علّقه وربطه بنفس المصدر ونسبه له ؟ أسفي على أسفي !
أمامي كتابان لناقدين شهيرين من كبار مفسري ديوان المتنبي هما الواحدي (2) وابن سيّدة (3) كانا حسني الظن في تفسيريهما لهذا البيت علماً أنَّ الثاني " إبن سيّدة " المُرسي الأندلسي لم يخرج عمّا قال قبله الواحدي في بيت المتنبي موضوع النقاش. قال الواحدي :
[[ .. يقولُ إنّما أتأسفُ على أنك شغلتني عن معرفة الأسف حتى خفيَ عليَّ ما الأسفُ لأنك أذهبت عقلي، وإنما تُعرفُ الأشياءُ بالعقل. والمُدلّه: الذي ذهبَ عقلهُ، والمعنى: إني أحزنُ لذهابِ عقلي لما لقيتُ في هواك من الشدّة والجهد ]]. فما قال ابنُ سيّدة بعد الواحدي في هذا البيت؟ قال:
[[ ليس يأسف في الحقيقة على الأسف إنما يأسفُ على تمييزه الذي كان يعقلُ به أسفه . فحقيقةُ الكلام : أسفي على عقلي الذي كنتُ أُحصِّلُ به أسفي " فبهِ عليَّ خَفاءُ " أي أنكِ قد دَلّهتني حتى ما أشعرُ بأسفي.
إتفقَ هذان المفسّران الشهيران على أنَّ معنى " أسفي على أسفي " هو الحزنُ أو الأسفُ لذهاب العقل. الأول يحزن لذهاب عقله والثاني يأسف على عقله! هل نستسلم ثم نضيع بين الحزن على فقدان شئ والأسف على ضياعه؟ فاتت الإثنين حقيقة هبوط الفن الشعري في هذا البيت وإدراك الخدوش العميقة في سويّة نسيج الشعر الحقيقي والتحليق المُجنّح في أصل وجوهر الشعر. لا أعرف ما قال المفسرّون الآخرون من بين مشاهير مفسري ديوان شعر المتنبي كما أجهل ما قال وهل قال الحاتمي شيئاً في هذا البيت وهو صاحب الرسالة الحاتمية الشهيرة . وهل تعرّض صاحب المتنبي " إبن جنّي " لهذا البيت وكان من أكثر الناس إعجاباً بأبي الطيّب ؟
شطحة المتنبي في البيت التالي من نفس قصيدة " وعقابُ لبنانَ " أعني :
وشكيّتي فقدُ السقامِ لأنهُ
قد كانَ لمّا كانَ لي أعضاءُ
أرى في هذا البيت صناعة مُتكلّفة ثقيلة وغثّة لا تستقيمُ ورفاهة الشعر وعفوية انسيابه الطلق في أجواء الريح والريحان المضمّخة بأرائج الروح الصوفية خاصة والقصيدة في مدح رجل متصوّف هو الأوراجي. المتنبي يشكو لأنه لا يصيبه سقام بسبب فقدانه الأعضاء التي يصيبها السقام! هل السقام هو علامة العشق الوحيدة وهل يسقم وينحل كل من يعشق؟ فقد المتنبي في هذا البيت الحس الشعري الراقي في حين نجح في هندسة الترتيب المنطقي العقلي الغارق في التجريد والتجريد عدو الشعر اللدود.
قال الواحدي في تفسير هذا البيت [[ الشكيّة كالشكاية يقول : إنما أشكو عدم السُقم لأنَّ السُقم إنما كان حين كانت لي أعضاء يحلّها السُقمُ فأحسّهُ بأعضائي، فإذا ذهبَ بالأعضاءِ الجهدُ الذي أصابني في هواك لم يبقَ محلٌ يحلّه السقمُ ]].
وما قال ابنُ سيّدة في تفسير هذا البيت ؟ قال [[ وهذا البيت أيضاً يشبه الأول، لمّا لم يشكوُ فقدَ السقام لأنه مكروه، والمكروهُ لا يستوحشُ أحدٌ من فقده، ولكنْ شكا فقدَ أعضائه لأنَّ السقامَ عَرَضٌ والعَرَضُ لا يكونُ إلاّ في الجوهر، فإذا عدمَ أعضاءه فقد عدم السقام، وإنما شكا ـ في كُلٍّ ـ الأكبرَ واستسهلَ الأصغر ]].
كان الواحدي بسيطاً مباشراً في تفسيره لهذا البيت في حين تنكّبَ ابنُ سيّدة النهج الصعب والمعقد وتفلسف من حيث لا يتطلب الأمرُ فلسفة وتفلسفاً. أساء في تفسيره للمتنبي ولبيت المتنبي هذا ثم أخطأ إذْ قررَ أنْ (( العرض لا يكونُ إلاّ في الجوهر )) ... معلوم أنَّ الجوهر في تضاد تام مع العارض أو العَرَض وأنَّ الجواهر لا تعتريها العوارض والجوهر ثابت والعارض متغيّر وزائل.
ذكر عبد الوهاب عزّام (4) هذين البيتين لكنه مرَّ عليها مرَّ الكرام ولم يشرحهما لكنه تعرّضَ للبيت الآخر القائل [[ فتبيتُ تُسئدُ مُسئداً في نَيّها ... ]] فكرر المعروف من تفسيره ولم يزدْ!
أُنهي مقالي بما قال طه حُسين (5) في هذين البيتين وأترك الحكم للقارئ الكريم ليقرر أيَّ شرح وتفسير هو الأفضل علماً أني أُعربُ عن إنحيازي لما قال طه حسين . قال :
[[ .. فإذا تجاوزتَ هذا المعنى فانظرْ إلى هذا البيت الثالث الذي ذهبَ الشاعر فيه مذهب المتصوفة الصريح حين يلوون الألفاظ عن أساليبها الطبيعية الظاهرة. فالشاعر يأسف على أسفه الذي هو مُحقق ولكنه لا يعلم به لأنَّ صاحبته قد دلّهته عنه وأذهلته بما يحدث في نفسه من أثر. والشاعر يؤكّد لنا هذا المعنى تأكيداً في البيت الرابع الذي يُنبئنا فيه بأنه لا يشكو السقام وإنما يشكو فقد السقام، ذلك أنه كان يحسُّ السقم حين كان له جسم يمسه السقم وتلمُّ به الآلام. فأما وقد أفنى الحبُ جسمه وأعضاءه فهو لا يشكو سقماً ولا ألماً وإنما يشكو شيئاً أبلغ من السقم والألم وهو العدم الذي يمنعه أنْ يحس سقماً وألماً ]].
ما رأيُ القارئ الكريم وما رأيُ النقاد الكرام ثم المشتغلين بعلوم الفلسفة؟
هوامش /
1ـ تتكون قصيدة الأرض الخراب أو الأرض اليباب من خمسة أجزاء عنوان الجزء الأول منها الذي تكلم فيه الشاعر عن قسوة شهر نيسان
هو :
The Burial of the Dead
وفيه وصف لجنازة ميّت وعدد من المشيعين يعبرون جسر لندن. أما عنوان الكتاب فهو :
T.S.Eliot
Collected poems
1909-1962
الناشر :
Printed in Great Britain by
Richard Caly ( The Chaucer Press ) Ltd,
Bungay, Suffolk
ـThis edition by T.S. Eliot 1963-
2ـ شرح ديوان المتنبي
تأليف أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ت 468 هجرية.
الطبعة الأولى ـ القاهرة: دار ابن الجوزي للطبع والنشر والتوزيع 2010 م. الصفحات 196 و 197 .
3ـ شرح مُشكل أبيات المتنبي
تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيّدة المُرسي الأندلسي 398 ـ 458 هجرية. تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين.
دار الطليعة للطباعة والنشر ، باريس. الطبعة الأولى. صدر بمناسبة مهرجان المتنبي ، بغداد ـ تشرين أول 1977. الصفحة 101 .
4ـ ديوان أبي الطيب المتنبي
تحقيق وتعليق دكتور عبد الوهاب عزّام
الذخائر 1
الناشر : الهيئة العامة لقصور الثقافة. 16 شارع أمين سامي، القصر العيني ـ القاهرة . ( طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1944 ).الصفحات 114 و 115 .
5ـ طه حسين
من تاريخ الأدب العربي ، العصر العباسي الثاني ( القرن الرابع الهجري ) الجزء الثالث. الصفحة 117 .
الناشر : دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة شباط 1980
تعليقات
إرسال تعليق