زئير الصمت "الجزء 1" / بقلم خيرة جليل
زئير الصمت "الجزء 1"
( اللوحة لصديقي من البحرين كمال بو كمال )
" أن ترسم وتكتب وتعبر المرأة عن رأيها وتتحدى الصمت ،هذا يعني أنها تمتلك من الجرأة والشجاعة ما يجعلها تمارس حياتها بشكل طبيعي بكل حقوقها وواجباتها... وبذلك فإنها عبرت على انها إنسان ولها القوة لتعيش وسط جثث رائحتها تزكم الأنوف وتُسلْسل بقيودها كل من يطوق للعيش الكريم مكممة فمه حتى لا يصرخ ليسجن في كهوف الصمت المظلمة ...فهنيئا لكل امرأة داعبت الألوان أو غازلت الكلمة لترسم زئير الصمت ورعد الكلمات وتلامس وخز الحروف لتمسك على الجمر لتكسر أغلال زمن هذا الصمت لترسم له لحنا هو زئير ينتفض ضد كل ما هو مسكوت عنه في مجتمع يغتال كل ما هو جميل في الانسان ليفرغه من محتواه .. فيغتال البراءة ..والسكينة ..والهدوء والسلام ...ليصبح كائنا حتى الحيوانات المفترسة تتبرأ منه .... لان حتى قانون الغاب شرع دستورا يقدس البقاء للأقوى ... والإنسان قوي بقيمه وأفكاره وليس بأسلحته وأنانيته .. فهنيئا لك ايها الصمت إن اصبح لك زئير تتحدى به مطرقة الجلاد وسندان المجتمع لينفذ مروضك إلى سلطان الخلق والإبداع ليعانق الحرية والكرامة ...."
هكذا حدثتنا الاستاذة تايمة وهي تركن سيارتها أمام مدرسة أبنائها بكل حماس وهي ترسم ابتسامة عريضة على محياها . ...
فعلا هذا الصمت اليوم جمع ثلاث نساء . كل واحدة لها طريقتها الخاصة لتكسر جدار صمتها .. فعابدة سجينة الصمت لطبعها الخجول ...وتثريث تلعب لعبة شد الحبل مع الصمت فتارة تختبئ به حتى تمر العاصفة التي تجتاح عالمها الهادئ وتارة أخرى تكسره بطريقتها الخاصة . لكن على العموم فإنها فضلت أن تحتفظ بجزء كبير منه كوسيلة لتدافع به عن بيتها واستقرارها الاسري ...أما تايمة فمجنونة الابداع حتى النخاع ..في صمتها تحدي وفي تكسيرها له تحدي .فهي التي اعتبرت الصمت قيد يكبل حريتها فحاربته بالريشة والقلم حتى أصبح هو في حد ذاته يتبرأ من جنونها الذي لا يطاق .فحين تحدثك عن مفهوم الصمت وعلاقتها به تقول " الصمت هو المسكوت عنه وهو الانزواء والاستسلام لما نكره ... وأنا أقول :اتحداك ايها الصمت ....فأنا ملك نفسي حتى ولو وضعوني بين اربعة جدران بلا باب ..فانا من يرسم الابواب والنوافذ لأطل حيث أشاء ومتى أشاء " .
هنا تدرك انك أمام مدارس فكرية مختلفة كل واحدة تعانق الصمت بطريقتها المميزة والخاصة بها .
اليوم تايمة في جلسة تقيم الذات طلب منها أن تحكي لنا قصة تلخص فيها تجربتها الشخصية و توضح علاقتها بالصمت كجدار يمنع من التواصل الفعال . في حكيها حاولت أن تأخذنا في رحلة صامتة لمجتمع أصبح بكثرة صخبه ورتابته يفقد هويته لينزلق في نفس المسار الذي سارت فيه المجتمعات الغربية ليصبح سجين صمت مميت وقاتل .مجتمع كثرت مصاريفه المادية وقلت علاقاته الانسانية وبدأت العديد من القيم الاخلاقية تتراجع في صمت دون أن ينتبه لها الانسان الذي أصبح همه الوحيد هو اشباع نزواته الاستهلاكية و غرائزه الجنسية فقط .
مجتمع أصبح فيه الفرد أكثر انزواء و عدوانية من قبل لتطفو على سطحه مجموعة من الظواهر التي يعجز العقل أحيانا عن تقبلها .
تايمة تحدثنا بثقة عالية بالنفس . لقد فضلت عوض أن تتحدث عن ظاهرة معينة مجردة ، فضلت أن تلبي رغبتنا في الحكي عن تجربة شخصية لها . قررت أن تحكي لنا عن لقاء جمعها بصديقاتها أيام الجامعة موضحة لنا اننا في مجتمع يغرق في الصمت بشكل لا إرادي ليفقد جل وسائل تواصله وتفاعله الايجابي بين أفراده .لتبرز أن هذا الصمت نفسه يسحبنا بدهاء بالعديد من الوسائل المعلوماتية والتقنية نحو العزلة والكآبة والحزن ليسجننا بين جدرانه في عالم الأنانية والنزعة الفر دية وحب الذات . تضيف قائلة : " بدل من أن نقدس هذا الصمت يجب أن نمنحه صوتا ليزأر في وجه العديد من الانزلاقات والانحرافات الاخلاقية و السلوكات السلبية و المواقف الغير المرغوب فيها أو الغير المرحب بها بيننا ." لتضيف :.
" نعم ، كثيرة هي المواقف التي نجد انفسنا فيها في موقف دفاع رغما عنا بالتزام الصمت ، حتى ولو لم نقم بأي فعل أو عمل يتطلب هجوم الاخر علينا .وأحيانا أخرى يعاقبنا المجتمع لمجرد اننا خلقنا في وسط معين أو نقوم بوظيفة معينة تشكل مصدر رزقنا فنلجأ إلى الصمت والابتعاد عن الاخرين .فنعاني دون أن تكون لنا الشجاعة لننتفض ونعلن رفضنا لكل الاشياء التي تقضي مضجعنا . هكذا أصبح وضع السيدة عابدة التي كانت زميلتي في الثانوية وشريكتي في الغرفة بالحي الجامعي. لقد رأيت كيف يحكم احيانا المجتمع على بعضنا بالعزلة و الانطوائية رغما عنه ليسجن بين جدران من الصمت الثقيل .فبعد مرور أزيد من عشرين سنة ،التقيت بها صدفة .شتان ما بين عابدة الامس وعابدة اليوم .عابدة الامس جميلة مثل الملاك ونشيطة مثل الفراشة وخفيفة الظل مثل النسيم وهادئة وحنونة مثل ظل الدوحة الوارفة ايام الحر .لا تغادر الابتسامة شفتيها أبدا ،فأضافت لجمال وجهها جمال خلقها ورشاقة قوامها فعشقها الجميع وأحبها واحترمها .كل ما كانت تعرفه في أيامها الجامعية هو العمل والرياضة ، فلا علاقة لها باليمين المتزمت ولا اليسار المتطرف ،صديقة الجميع ومترفعة عن كل تفاهة تُقْحمها فيما لا ترغب فيه. لا تزج بنفسها فيما لا يعنيها ابدا ........عابدة اليوم منغلقة على نفسها إلى درجة الكآبة،كلما رايتها أراها منقبضة الملامح ولا تعلو الابتسامة وجهها ابدا .لا أراها إلا مهرولة في طريقها لقضاء اغراضها أو تصطحب ابنائها لمدرستهم .نادرا ما أراها في احدى منتزهات المدينة مع ابنائها في فسحة .نوع من الغضب أو عدم الرضى أو الحزن العميق يغلف ملامحها .ناذرا ما اراها تتأبط ذراع زوجها في بعض الاسواق الممتازة .فعلا إنها سجينة صمت عميق لا نعرف سببه.
اليوم صدفة التقيتها أمام مدرسة ابنائنا . عانقنا بعضنا بشوق فامتلأت عينيها بالدموع من شدة تأثرها وحنينها إلى الماضي الجميل الذي جمعني بها لأكثر من أربع سنوات . ربع ساعة من الزمان كان كافيا لان يحرك بداخلنا عواصف وعواطف الزمن الجميل الذي قضيناه مع بعضنا كشريكتين بنفس الغرفة بالحي الجامعي . فعلا ربع ساعة كان وقتا كافيا لنقول لبعضنا اننا اشتقنا إلى بعضنا كما يشتاق التوأم لتوأمه.و من جميل الصدف اثناء حديثنا حضر زوجها الذي حيانا ووقف جانبا ينصت الينا باهتمام . لما علم من أكون بالنسبة اليها اندمج في حوارنا بكل سهولة...خرج الابناء من مدرستهم وكننا مجبرين على الافتراق لكن زوجها أصر على أن أتواصل مع صديقتي لأخرجها من عالمها المنغلق .دعوتها إلى بيتي لكنه أقترح علي أن أستأذن زوجي لأخرج مع صديقتي لمكان هادئ بعيدا عن أجواء البيوت والأبناء. لنهرب بعيدا عن كل شيء يذكرنا بأي مسؤولية نحن الاثنتين إذن .فعلا ضربنا موعدا لنهاية الاسبوع العاشرة صباحا ليوم الاحد ...
وأنا عائدة إلى بيتي مئات الاسئلة تزدحم بذهني .لماذا عابدة أصبحت أكثر انطواء من قبل ؟ لماذا طول الوقت يبدو عليها الإرهاق والخوف والشرود الذهني ؟ لماذا زوجها يلح على أن تخرج معي وتتمتع بوقتها ؟ هل تعاني من مرض نفسي ؟هل اصبحت تعاني من مرض عضوي مزمن ؟ كل ما استطعت أن أقنع نفسي به لأخرج من دوامة الاسئلة المؤلمة هو اليوم يوم الجمعة وبعد غد السبت سأعرف كل أسباب هذا التغير المخيف بحياتها وشخصيتها .
فعلا وضبت كل أموري حتى أتفرغ كليا لصديقتي ، هكذا منحت ابنائي فرصة الذهاب عند والدتي مع والدهم وهاتفت عائدة لنحدد مكان التقائنا بالشارع الرئيسي للمدينة . بمجرد ما أوقفت سيارتي حتى فتحت الباب و حيتني و ارتمت إلى جانبي بكل خمول واسترخاء واللامبالاة .
-خذيني حتى إلى الجحيم صديقتي ، إنك الوحيدة التي أثق بها لأنك الوحيدة التي ظلت على صورتها الأصلية والأصيلة .
هكذا خاطبتني دون أن تهتم بأي شيء حولها .
- أبدا صديقتي سآخذ لاحتساء كأس قهوة ، لقد حضرت لك مفاجئة كبيرة ستسرين بها كثيرا ...
تعجبت كيف يكون كل هذا الثقل النفسي بهذا الجسم النحيل والشاحب ! وتساءلت عن سر هذا الصمت العميق والحزن الدفين .هي لم تطلب مني الذهاب إلى اي مكان محدد ولم تسألني عن نوع المفاجئة التي حضرتها لها وكأن لا شيء يعنيها أو انها تهرب بجميع الوسائل من شيء يخيفها. لم تذكر لي حتى مواصفات المكان الذي ترغب في الذهاب اليه مما جعلني أخذ الطريق المؤدي إلى خارج المدينة في اتجاه بعض محطات الاستراحة بين المزارع الخضراء بعيدا عن ضوضاء المدينة وصخب الشوارع وتطفل المتطفلين بالمقاهي ...خصوصا أن المقاهي بوسط المدينة لازالت حكرا على الرجال فقط . أما من يتردد عليها من الزبونات فهن غالبا ليسوا من المتزوجات أو الأسر المعروفة بالمدينة .لازالت ثقافة تقبل المتزوجات بهذه الفضاءات محدودا وفلسفة تقاسم المجال بشكل طبيعي بين الرجل والمرأة يشوبه بعض الشبوهات الاجتماعية في هذه المدينة الصغيرة أو كما يحلو لزوجي تسميتها القرية الكبيرة ....غالبا ما يسبق سوء الظن في الحكم على الاخر أكثر من أخذ الامور بشكلها الطبيعي والعادي في هذه الفضاءات ، رغم أن تصرفات الزبونات لا تمس بحريات الاخرين أبدا ولا تخدش الحياء العام.......
في الطريق الزراعي تعمدت أن أخذ أطول طريق حتى تتمكن عابدة من التمتع من رؤية المناظر الطبيعية الخضراء الخلابة لشهر مارس .طيلة الطريق لم تنطق بأية كلمة .نظراتها كانت عميقة ويشوبها شرود ذهني وكأنها تناجي بعينيها روحها التي ترفرف بين الاشجار بعيدا عنها هاربة من الضغط الذي تمارسه عليها إكراهات الحياة اليومية وثقل الصمت الذي يجرفها إلى ظلومات الفراغ النفسي والانزواء . كم تمنيت أن تقول لي أي شيء ، أو أن تتدخل لتطلب مني تغير وجهتي أو تسألني الوجهة التي نحن بصددها .لاشيء ، خمول رهيب وهدوء مخيف و صمت عميق يبتلعها دفعة واحدة كقرش جائع يلتهم فرائسه الضعيفة بدون أدنى مقاومة ... شرود ذهني كسفر خارج الزمان والمكان . ولا ردة فعل واحدة توحي بأنها راضية على خروجها معي أو رافضة لأي شيء حولها مما جعلني أتعمد الانعراج بسيارتي عن الطريق الرئيسية المعبدة إلى أحدى الممرات الزراعية الضيقة . إنها طريق زراعية مؤدية إلى أحدى الضيعات الزراعية لصديقة مشتركة لنا . رغم انني كنت أنتظر منها أن تسألني عن سبب ذهابي في هذا الطريق الضيق والغير المعبد والخالي من المارة فإنها لم تفعل .
أخيرا وقفت أمام باب الضيعة وأمرت حارس بابها أن يفتح لنا لندخل ثم التفت لأخبرها.
- تعلمين من يسكن بهذه الضيعة يا عابدة ،إنها تِثرِيثْ إدريس الطاهري صديقتنا التي كانت بالغرفة المجاورة لنا بالحي الجامعي وكانت معي برفقة مسرح الهواة الجامعي أتتذكرينها ؟ لقد فضلت أن تستقر خارج المدينة بعدما نجح مشروعها الفلاحي ...انها اشترت هذه الضيعة بعدما قامت بتصفية إرثها مع إخوتها . فعملت بمدخراتها المالية هذا المشروع لتربية الابقار الحلوب ..ربما سيعجبك المنظر ...رغم اننا اتينا بدون ميعاد ستتمتعين بمنظر العجول والأبقار والطاووس والأرانب وتأخذين لك بعض البرتقال والحليب ....لا عليك لن تدفعين ثمن اي شيء ...ثم بعدها سنخرج لتناول غذائنا ونحتسي بعض كؤوس القهوة نحن الثلاثة بمحطة الاستراحة المجاورة للضيعة ، ونرى ماذا سنفعل أو ربما سنقرر الهروب بعيدا عن ازواجنا و الأبناء ومشاكلهم .. ما رأيك يا عابدة ؟ .هكذا مازحتها لتخرج من عالمها الذي لم استطيع أن أنفذ اليه وسبر أغواره لحد الان.
حين سمعت عابدة اسم صديقتنا تثريث إدريس الطاهري لمعت عينيها من الفرح وقفزت من مكانها كالطفلة لتنطق اخيرا.
-والله عملت خيرا يا صديقتي تايمة ، سيظل صنيعك هذا دينا في عنقي .أزيد من عشرين سنة لم التق بها .
أخيرا ظهر عليها الحماس لشيء أفعله . كانت هذه هي المفاجئة التي حضرتها لها وكنت أعلم عمق صداقتنا نحن الثلاث. . الامور سارت في اتجاهات مختلفة لكل واحدة منا .عابدة ربة البيت حاملة لأجازة في اللغة الانجليزية وأنا كأستاذة وتشكيلية وتتريث صاحبة مشروع اقتصادي مهم ،وهي بدورها كذلك حاصلة على إجازة جامعية تخصص جغرافية فلاحية ودبلوم تقنية متخصصة في تربية الابقار الحلوب ودبلوم تقنية مبيعات عبر الانترنيت...على الاقل هي استطاعت أن تعمل بميدان تخصصها وتندمج مع سوق الشغل و يرجع الفضل في ذلك لقوة شخصيتها وحبها للمغامرة ....
ونحن طالبات كانت تثريث تعلن لنا دائما انها لن تنتظر من الدولة أن تشغلها كموظفة لتتسلم نهاية كل شهر راتب هزيل لا يساير ارتفاع الاسعار و المصاريف المتزايدة يوميا . هذه الاجرة التي هي في نظرها مجرد صدقة .كما كانت تخبرنا أنها تدرس لتثقف نفسها "كبريستيج " عائلي فقط .كان يعجبها ان تقول لنا أنها ستستثمر في أي مشروع اقتصادي مدر للدخل ولن تنتظر من الدولة أن تلحقها بالمدرسين العرضيين بالمنفى الجبلي حتى يشيب شعر رأسها بالتدريس بفصل دراسي مشترك لجميع المستويات الابتدائية ،أو إلى أن تصاب في أخر عمرها إما بالزهايمر أو الجنون حين تختلط لها البرامج الدراسية ووجوه التلاميذ ولا تستطيع التميز لا بين المستويات ولا بين الدروس ولا بين التلاميذ... كما تضيف أنها لا تحب أن تصبح تلك المُدرسة العانس المنبوذة التي لا تعرف إلا اكتناز راتبها الشهري والعيش على حساب هيبات أسر التلاميذ من مواد غذائية وغيرها لتتمكن من ادخار مبلغا مهما لتدفع ثمن عقد "زواج أبيض " لفاعل خير لتلتحق به فيما بعد كزوجها الصوري بالعالم الحضري. وبعد طلاقها منه تشتري لنفسها شقة صغيرة لتعيش إلى حين اقتناصها لضحية من ضحايا البطالة من الشباب الأصغر منها سنا فتعقد عليه هذه المرة عقد "زواج أسود " وتنجب منه طفلا او طفلين ، هذا إن لم تصل إلى سن اليأس وتنقلب الحياة إلى جحيم لتتوج مسيرتها بطلاق ثاني .كان حديثها دائما في نكهة التحدي مغلفة بالسخرية السوداء ،فكان يعجبها أن تخاطبني قائلة .
- "-اسمعي يا تايمة ، انت رومانسية أكثر من اللازم . يليق بك أن تعملين بمكتبة الجماعة الحضرية لتشبعي نهمك من قصائد نزار قباني أو بخزانة مركز ارشاد الطالب حتى لا تغادرين عالم الطلبة ابدا او لما لا بدار الشباب التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة حتى لا تنزلين من فوق خشبة المسرح ابدا بسبب جنونك الذي لا حدود له ؟
- أما عابدة الهادئة والجميلة فيليق بها أن تعمل في محل بيع العطور الراقية في بريطانيا . فلكنتها الانجليزية وصوتها الملائكي الجميل ورشاقتها وأناقتها التي تشبه الاميرة ديانا تفتح لها أفاقا كبيرة لبيع العطور لمشاهير الممثلين ببريطانيا . فيكفيها أن تربط الان عالقة غرامية مع سائح بريطاني عجوز في ساحة جامع الفناء بمدينة مراكش بشرط ان يكون غنيا لتتزوجه حتى تصل للندن . بعدها تقذف به عبر نافذة حقوق الانسان تحت ذريعة الحرية الشخصية في تبديل الشريك الجنسي لان ثقافة الغرب تؤمن بذلك ، وإذا كانت أكثر ذكاء ستصبح "سيلين ديون المغربية " لجمال صوتها فيدخلها العجوز لعالم الغناء من بابه الواسع بعد أن ينتج لها اشرطة غنائية ....كل الاشياء ممكنة حبيبتَيْ .اللهم اني قد بلغت ..ونصحتكما النصيحة المثلى للنجاح في حياتكما مستقبلا .أما أنا فيكفيني أن أشتري مزرعة لتربية الابقار الحلوب أو لتربية الدواجن لأشبع بطني من الحوم البيضاء المحمرة أو البيض المسلوق . وإن لم أنجح في ذلك فشرف لي أن أبيع الحلزون في شارع محمد الخامس ببذلة بيضاء قصيرة وسروال جينز ضيق يبرز مفاتن جسدي وشعر أشقر مصفف بعناية .....جميل ان تسمعن صوتي وأنا انادي على الزبائن لتناول الحلزون ، بنكهة الاعشاب البرية من زعتر وعصى موسى وتوابل بنكهة قوية ، وأنا أدفع عربتي اليدوية أمامي ....كم سيكون منظري جميلا ومغريا ! وكم سيكون لي من الزبائن المراهقين والمتراهقين والعجزة المتصابيين ! سأصبح سيدة أعمال ناجحة ولما لا فالمشاريع الكبرى تبدأ عادة من الصفر ؟ تذكرتا أن الانجازات العظيمة دائما تكون بداياتها أحلاما صغيرة وبوسائل بسيطة وانطلاقة من المستحيل ....هذا ليس عيبا صديقتي فالعبرة بالنتائج دائما ....فسفينة نوح بناها هواة بوسائل بسيطة بالصحراء وحملت مصير بشر لأرض النجاة أما سفينة التيتانيك فبناها محترفون وحملت بشرا لأعماق الهلاك. يكفي أن أثق في نفسي و أأمن بقدراتي العلمية ومؤهلاتي الجسدية لإغراء رجال الامن والقوات المساعدة حتى لا يطردونني بدعوى احتلال الشارع العام ومزاولة نشاط تجاري غير مرخص له أوالتهرب الضريبي ...."
هكذا كانت تختم حديثها متهكمة منا وعلى نفسها وهي تمثل لنا طريقة دفعاها لعربة الحلزون بصدرها المنتفخ متعمدة دفعه إلى الامام لإبراز نهديها الكبيرين الحجم وتطلق قهقهة خفيفة.
أخيرا ابتسمت عابدة وأنا أعلم أن نفس الذكريات دغدغت مخيلتها ، فمرت كفيلم وثائق باللونين الابيض والأسود بشكل متقطع يعود بها إلى سنوات بداية التسعينات .شريط ذكريات مجنونة بما للكلمة من معنى . كنا نحن المجنونات الثلاث بطلاته . لكن شاءت الأقدار أن أتزوج قبلهن فيتحمل زوجي ليس جنوني أنا فقط بل جنونهن وشغبي معهن .كنت أترك له طفلتي ابنة العشرة أ شهر لألتحق بهن في الحي الجامعي للمراجعة والتحضير للامتحانات . كنا نعتكف ولا نخرج إلى الشارع للتبضع أو التنزه أبدا .فيكتفي زوجي باصطحاب ابنتي لتلعب وسطنا كالقطة الأليفة إلى ان تنام في حضن إحدانا ...كنا نعتكف بعيدا عن الكل في جو منعنا فيه انفسنا من المذياع والتلفاز وارتمينا وسط الكتب والأوراق في وقت كانت فيه آلات النسخ السريعة شبه منعدمة .فكننا كأننا نرابط بجبهة قتال في عالم لم تكن فيه لا الهواتف النقالة ولا الفضائيات بهذا الشكل . الاذاعة المغربية الوحيدة لم يكن بها إلا قانتين مع حضر البث حسب بعض الاوقات ... فكانت عائلاتنا تكتفي بتحضير الوجبات وتبعثها لنا مع مرسول الحب زوجي .فعلا ذكريات كان لي شرف معانقتها الان وأنا انظر إلى عيني عابدة التي تلمع من شدة الفرح ...أعلم اننا رجعنا سويا إلى نفس الفترة الزمنية وعانقنا عبق الاحداث وروعة اللحظات دون أن ننطق بكلمة واحدة ...أي زمن جميل عشنا وأية "نستا لجيا " تعصف بنا الان إلى ذلك الزمن البعيد .
تقدم نحونا الحارس وفتح الباب الحديدي الثقيل و ألقى علينا التحية .
- المدام الان مع الطبيب البيطري بالإسطبل ،احدى الأبقار تضع مولودها سأخبرها حالا سيدتي.
هكذا اخبرنا الحارس وهو يهرول وكأنه لديه حالة استنفار قصوى .
- يوم حظك يا عابدة
لم أنهي جملتي هذه حتى ظهرت تتريث مهرولة بقفازين يدويين بلاستكيين يصلان إلى المرفق وبذلة زرقاء طويلة و حذائها البلاستيكي الطويل إلى الركبتين .
-بل إنه يوم حظكما انتما الاثنتين عزيزتَيْ . ستشاهدان كائنا يخرج للحياة ويخطو خطوته الاولى .اسرع يا إبراهيم واحضر لهما حذاءين بلاستكيين من المستودع . لا تتأخر فتايمة المجنونة ستحب ذلك أما عابدة الانجليزية فأعرف اننا سنزج بها في عالمنا المجنون كالعادة فقط. هيا بسرعة لا تتأخر .
هكذا عانقت عابدة تتريث واسمرتا في العناق إلى ان بدأت عابدة تنتحب من شدة التأثر .
-لا تخافين حبيبتي عابدة البقرة من ستلد وتتألم وليس انت ... لماذا تبكين ....هي التي ستتألم نعم ...
هكذا تعمدت تثريث التهكم على صديقتنا لأنها تعرف أنها حساسة للغاية وحتى منظر البقرة وهي تلد قد لا تتحمله .
عاد إبراهيم بالحذاءين وهو يستنفرنا بالإسراع لان الطبيب البطري ومساعده يقول أن المولود على وشك الخروج . الكل يجري وعابدة تحاول أن تعتذر لنا لكن حاولنا أن لا نعطي لاعتذارها أي اهتمام حتى تتبعنا .هكذا لبست الحذاء وهرولت وراء تِثْريثْ لتجد عابدة نفسها مجبرة على أن تتبعنا .
مع دخولنا الإسطبل وجدنا الطبيب البيطري يساعد البقرة الأم على الدفع بالمولود خارج رحمها . سبحان الله انها لحظة خروج الروح من الروح ،لحظة استنشاق كائن جديد للهواء بهذا العالم . كلنا وقفنا مذهولتين لأنه لأول مرة في حياتنا نحضر عملية وضع بقرة لمولودها إلا صديقتنا تثريث المجنونة فقد كانت تكلم البقرة التي تنتفض بعنف وهي ممددة فوق التبن بلطف وحنان وكأنها تكلم ابنتها . تمرر يدها على عنقها بلطف لتخفف عنها الألام . لأول مرة أدرك أن حتى الحيوان يستوعب الحنان والحب من خلال حركات بسيطة فقط.
-لا تخافين حبيبتي الطبيب هنا موجود ..دقائق فقط وستتخلصين من الالام ....
أخيرا خرج المولود ، الطبيب ينظفه بخرقة ويساعده على الحركة والوقوف .المولود يرتعد لعدم قدرته على الاحتفاظ بتوازنه لأول مرة . نراقبه بأفواهنا المفتوحة وأعيننا الجاحظة فيبتسم الطبيب ويخاطبننا قائلا :
-الظاهر انها أول مرة تحضران حدثا مثل هذا ... إنها عجلة ماذا ستسمينها يا مدام ههههه ومتى ستعملين لها حفلة العقيقة .؟
هكذا ختم حديثه ضاحكا .
لم نجبه على السؤال الذي طرحه علينا بل استمرت كل واحدة منا تتبع حركاته وكل ما يقوم به .
-لا عليك يا دكتور ، تايمة المجنونة يشكل لها هذا معجزة ، أما صديقتي تلك البلهاء عابدة فقد اقحمناها في عالمنا هذا رغما عنها كما كنا نفعل بها دائما ايام الجامعة . ما رأيكم سأسميها....تايمة .....
هكذا علقت على كلامه تثريث وهي تلتحق بنا وهي تظن انها ان اطلقت اسمي على العجلة سأغضب منها .
-ابدا شرف لي أن يحمل كائن حي نافع اسمي ، إن هذا رمز الخصوبة والعطاء والسخاء .
- انت دائما تبحثين على تبرير اي عمل يقوم به الاخر يا تايمة . لن تتغيرين ابدا . دائما تلتمسين العذر للآخرين وتحاولين أن لا تجرحين مشاعرهم.
نزعت تثريث القفازين وعانقت عابدة هذه الاخيرة التي بدأت تعطس بقوة . لتطلق تثريث ضحكتها القوية وتعلق عليها
-أه عابدة أعتذر لازلت حساسة لكل شيء صديقتي . انها رائحة البقرة سأذهب لاستحم والتحق بكما ، يا ابراهيم خذهما إلى مكان الجلوس تحت "الكرمة"
انسحبت صديقتنا لتدخل للمنزل لتستحم بسرعة وأخذنا نحن مكاننا في كراسي مريحة تحت كرمة عنب في طور الانبات الاوراق . المنظر جميل جدا . أحضرت الخادمة انواعا مختلفة من الحلويات المصنوعة بالبيت والبيض البلدي المسلوق و....وأصنافا من الخبز المتنوع والمصنوع محليا لازالت رائحة الفرن الخشبي تنبعث منه. اكتظت المائدة بأنواع المشروبات والجبن والحلويات ....
أخيرا التحق بنا كل من الطبيب ومساعده وتثريث.الجو يدعو للأكل بنهم ،.عابدة تتصبب عرقا رغم ان الجو بارد وعلامات الاندهاش لازالت تعلو وجهها .
-اتعلمين يا عابدة ، اليوم ستأكلين شيئا لم تتذوقيه في حياتك من قبل . نحضره خصيصا من الحليب الاول بعد وضع البقرة لمولودها . تخبرها تثريث وهي تنظر إلى وجهها .
-اظن انه ( الفرو ماج )الجبن .تجيبها عابدة بلكنة جميلة تنطق الراء غاء .
- جبن ماذا يا ابنتي ، اتظنين ان اسمه الجبن اسمه " لْبَا " يا ابنتي من اين لك ان تعرفين مثل هذه المصطلحات وأنت من يأكل الخضر من الطاجين بالفرشاة ! تايمة أكلت هذه الأكلة مرات عديدة عندي ، كنت أهاتفها لتأتي مع ابنائها خصيصا لتأكله ...نضيف للحليب الذي نضعه على النار البيض البلدي المخفوق وقليلا من الزعفران الحر والملح إلى أن نحصل على عقدة صفراء نحتفظ بها حتى تبرد لنتناولها فعلا كجبن ثقيل .هذه الوصفة المطبخية لن تقدمها لكم الطباخة المشهورة شومسة بالقناة الثانية ابدا .تعلق عليها صديقتنا وهي تنطق الكلمة "لْبَا " بالضغط على أحرف الكلمة وهي تضحك بصوت مرتفع .
بعد الاكل توجهنا من جديد لنطمئن على البقرة والعجلة الصغيرة . منظر رائع لم نتمتع به من قبل .
الطبيب ومساعده يغادران الضيعة . تترك سيارتي العادية بالضيعة لنمتطي سيارة صديقتي تثريث الراقية والفخمة الرباعية الدفع لنتوجه نحو محطة الاستراحة.
.رغم ان اليوم كان يوم أحد فالمكان كان شبه خالي من الزبائن فنزولنا من السيارة والتحاقنا بالمقهى لم يمر مرور الكرام من طرف الزبائن الموجودين خصوصا مع نزول سيدتين في الخمسينات من عمرهن بسراويل جينز ازرق ونظارات سوداء تتوسطهما سيدة نحيلة وأنيقة بجلباب تقليدي . يهرول النادل نحونا ليخبرنا أن المكان بالمطعم الذي حدثته عنه البارحة محجوز والغذاء جاهز وأنه رهن اشارتنا . لكن فضلنا ان نتأخر في تناول الغذاء فذهبنا للباحة للجلوس قليلا.
اخيرا لنحراج عابدة التي أحسسنا انها تنظر حواليها وكأنها ترتكب جرم معين ، قررنا ان نلعب كالأطفال فركبنا الارجوحة وبعدها الحصان الخشبي . عابدة تحاول جاهدا منعنا بحجة انه عيب ونحن نقهقه بأعلى صوت .لعبنا كالمجنونتين إلى ان تحررت عابدة من عقدة الاخر وأصبحت تدفع بنا الارجوحة وهي تقول :
-والله العظيم كنت أظن انكما هرمتما وتعقلتما قليلا . لكن يظهر انه لم تزيدا إلا جنونا ايتها العجوزان .ليكن الله في عون ازواجكما. يا تايمة ، تثريث فلاحة مقبول منها هذا ، لكن أنت يا مربية الاجيال ماذا تعلمينهم ؟ اتعلمينهم الجنون ؟
فأجبها بكل ثقة :
-ابدا حبيبتي اني اعلمهم التمتع بالحياة...تقديس الروح ..اعلمهم أن البساطة سر السعادة ...أعلمهم ان يعيشوا لأنفسهم ولا يربطون حياتهم وسعادتهم بالأخر...أعلمهم أن القناعة والتمتع بما بين أيديهم أهم بان يربطوا أنفسهم بأحلام مزيفة ...أعلمهم أن الحياة مراحل من العمر ويجب أن يخططوا لأهداف ليحققوها عبر هذه المراحل .أعلمهم انهم الان في مرحلة التكوين وبناء الذات و يجب ان يثيقوا في ذواتهم وقدراتهم لتحقيق أحلامهم .... أعلمهم أني سأظل شابة بقلب طفلة لأعيش وأتمتع بالحياة حتى وأنا عجوز....
-خلاص ...خلاص حبيبتي كفانا محاضرات اتينا لنلعب ونستريح من المسؤوليات ..ربي يكفينا شر التعلم والتعليم .
هكذا قاطعت حديثنا تثريث وهي تقفز من الارجوحة لتقف على قدميها واقفة منتصبة أمامنا .
بعد الغذاء اخذنا قسطا من الراحة . أخيرا علامات الارتياح تعلو وجه عابدة وأخيرا استرجعت ابتسامتها العريضة وكلما استرسلت في الضحك طفحت عينيها بالدموع من شد التأثر.
اخذنا أكواب قهوة جاهزة معنا وركبنا سيارتنا لنتجه نحو مكان سياحي في أعلى الجبل . سلمتني تثريت قيادة سيارتها لأنها لا تحب أن تقود في المنعرجات وتعبت كثيرا ، حسب قولها ، منذ صلاة الفجر وهي تتحرك وتقوم بأعمال الضيعة حتى تستطيع التفرغ لتتمتع معنا بهذه اللحظات.
ا خيرا أوقفت السيارة جانبا .انها الفترة المسائية ،الطيور في طريق العودة إلى أعشاشها . منظر المدينة من اعلى الجبل يوحي بجزيرة اسمنتية أخطبوطية الشكل تتوسع في جميع الاتجاهات وسط مزارع الزيتون .الاسمنت يلتهم المساحات الخضراء بجشع .والمضاربات العقارية سمحت بظهور احياء عشوائية هنا وهناك من طرف الفئات المحدودة الدخل .
اخيرا جاءت لحظة البوح لبعضنا لتكسير الجليد الذي أحاطه بنا الصمت الثقيل .جلسنا قرب بعضنا فوق صخرة عالية تطل على المنحدر وكل واحدة تمسك بكوب قهوتها وهي تنظر نحو السهول البعيدة و تتبع ببصرها اسراب الحمام البري واللقالق العائدة نحو اعشاشها بالغابات المجاورة للمدينة ، وتترك العنان لسيقانها وهي تتدلى بكل طلاقة وحرية نحو الفراغ . الهدوء والسكينة ورائحة الاعشاب البرية تدعو للاسترخاء والتأمل . اخيرا تكلمت عابدة.
-كم كنت اتمنى ان أعيش مثل هذه اللحظات الجميلة . تعلمان انني تزوجت بعد فراقكما مباشرة .فأنت يا تايمة هاجرت مع اسرتك الصغيرة نحو العاصمة . وأنت يا تثريث عدت لبلدتك بعد انهاء دراستك الجامعية. لم استطع تحمل بعدكما عني. اضعت السنة النهائية وكنت مجبرة على ان ابقى ورائكما بالجامعة سنة اضافية لأحصل على إجازتي . بدوري تزوجت ضابطا بالشرطة .وأنتما تعلمان عقلية الطلبة ، فبمجرد ما علموا نوعية وظيفة زوجي حتى مارسوا جميع انواع العنف اللفظي المادي والمعنوي ضدي ..لم يكن تصرفهم يعبر عن اي نضج فكري ابدا . اضطهدوني داخل المدرجات وفي الحرم الجامعي ...حتى اصبحت مثل المنبوذة . كلما وقع اصطدام بين الفصائل الطلابية ( الفصيل الامازيغي و اليساري والإسلامي..... )أكون مضطرة للهروب من الجامعة حتى لا أتعرض للاعتداء من طرف الجميع رغم اني لم أكن أنتمي إلى اي واحد منهم . في أول الامر لم أعطي لهذا الاضطهاد اي قيمة لاني كنت أجد ملاذا بحضن زوجي . بعد التخرج فضلت أن أكرس كل وقتي لأسرتي . لم تغريني الوظيفة العمومية أو المشاريع لان التزامات زوجي المهنية تفرض علي أن أتفرغ لبيتي وأبنائي . من هنا بدأت المعاناة الحقيقية والاضطهاد الفعلي . كنت أظن أن العنف الذي كان يمارس ضدي داخل الجامعة من طرف الطلبة عقابا لي على مهنة زوجي سينتهي بانقطاع علاقتي بهم . لكن هذا العنف سرعان ما انتقل من عالم الجامعة إلى الدرب الذي اسكنه والمدينة ككل .وجدت نفسي أعاقب من طرف أي مواطن بمجرد ما يعلم اني زوجة ضابط شرطة ، خصوصا اننا نعيش في مدينة صغيرة غرام من البخور يعطرها . كلما تعرض أحد ابنائي للضرب من طرف ابناء الجيران بمجرد ما أطلب من امهاتهم ان تنهيهم عن ذلك حتى يصرخن في وجهي بأنه ان كنت زوجة ضابط شرطة هذا لا يسمح لي بان أأمرهم بما يجب فعله وما لا يجب فعله ....كل الاشياء كانت تفهم عكس المعنى و الاتجاه الصحيح خصوصا اننا كنا نسكن حيا عاديا للموظفين ما هو بشعبي فيه التآزر الشعبي المتعارف عليه بالأحياء الشعبية ولا هو بحي عصري حيث كل واحد يعيش بعالمه الخاص.
لا تسألونني عن كيف تمر المناسبات عندي والحفلات العائلية ؟ في عيد الاضحى جميع الأزواج قرب زوجاتهم ليتقاسموا لحظات الساعة والحدث إلا أنا . لقد كانت هذه ضريبة التزوج برجل الامن كباقي نساء رجال الامن .أضحيتنا لا تذبح إلا بعد صلاة العصر حين تنتهي فترة دوام زوجي أو أكون مضطرة لإحضار الجزار بنفسي والقيام بما كان من المفروض أن يقوم به هو . حين احتاجه في مناسبات عائلية أو أية ازمة صحية لا أجده لانشغاله بعمله . ولا تسألونني كيف كنت اقضي ليالي الشتاء الباردة والطويلة حين يذهب في مهمات العمل خارج المدينة لأكثر من شهر ؟ أصبح أنا الأم والأب لأبنائي ...فأنا من يقوم بجميع المهام البسيطة والصعبة في غيابه على حد سواء ...ولا يمكنكما تصور الضغط الذي يمارسه الجيران على اطفالي في فترة غياب والدهم . اضطررت ان أمنع أطفالي من اللعب مع أبنائهم تفاديا لأي اصطدام محتمل . حتى عوانس الحي مارسن ضدي عنف معنوي ولفظي لاني كنت احاول عدم الدخول معهن في علاقات .كنت اعلم انه عامل الغيرة من كان يحركهن فيؤلبن علي الجيران بالادعاء بأني أنانية ومغرورة ومتعجرفة مما يجعل الجميع يضطهدنني من جديد . لم يكن الملاذ الوحيد لي إلا اسرتي .لم استطع خلق علاقات صدقات كالتي كانت تربطني بكما .فكلما ربطت علاقة صداقة مع امرأة إلا وحاولت أن تبحث عن خبايا حياتي الاسرية دون أن تبادلني مثل معاملتي لها . الكثير من الجارات يطلبن مني ان أن يتوسط زوجي لهن لقضاء اغراضهن الاسرية وطلباتهن التي لا تنتهي وحين اخبرهن اننا لا نستطيع القيام بذلك يمارسن جميع أنواع العنف ضدي وضد ابنائي .
أووف لا تسألنني حين يقدم زوجي مجرم ما للشرطة .بمجرد ما تنتهي عقوبته الحبيسة حتى يكون همه الوحيد هو اقتفاء اثار زوجي والانتقام منه او مننا خصوصا مع تطور الاجرام بشكله الجديد الذي اطلقوا عليه اسم "التشرميل " حتى اصبحت لا أستطيع أن أمشي إلى جانب زوجي حتى لا يتعرف المجرمون علي ....اعرف أن هذا وضع جميع زوجات رجال الامن .كلهن يعاقبن من طرف المجتمع لا لشيء إلا لأنهن زوجات أشخاص يرفضهم المجتمع ويلفظهم خارجه كأنهم أتوا من فضاء وعالم غير عالمه لمجرد أنهم يقومون بواجبهم العملي والوطني بدل ان يشد على ايديهم للقيام بعملهم بكل تفان وإخلاص . رجل الأمن مشبوه فيه ومتهم بالرشوة والفساد حتى وإن كان ملاكا ....ارى في اعين الناس ذلك الاتهام الخطير ....رجل الامن ان قام بمهمته وطبق القانون كما هو مطلوب منه يعاقبه المجرمون وتعاقبه أسرهم ،و كلما اتيحت لهم الفرصة انتفضت ضده هذه الاسر متذرعة بالفهم السيئ لثقافة حقوق الانسان ....يقولون انهم احرارا في أجسادهم فيتناولون حبوب الهلوسة ويخرجون للشارع العام ويصرخون بالكلمات النابية . ويا ويلي إن كانت الدورية التي تحضر لعين المكان في دربنا أو الاحياء المجاورة فيها زوجي ، فبمجرد ما يتم اقتياد المعني بالأمر حتى تحضر اسرته وتطبل لي وتزمر. وإذا تقدمنا بشكاية لا تسألونني عن المتاهة التي ندخل اليها ...القانون لا يطبق إلا بوجود شهود عيان ،ومن يرغب في أن يشهد لصالح رجل الامن أو أسرته ...حتى في حالة العنف المادي المثبت بواسطة الشواهد الطبية يتم الضغط عليه للتراجع عن شكا يته تفاديا لتطور الاصطدام متحججين ان المجتمع يعيش احتقان وتوثر نفسي وأن سوء الجوار أصبح ظاهرة ليس وطنية فقط بل عالمية نظرا لما تعرفه المجتمعات من تحولات فكرية وسياسية واقتصادية ..... فبدلا من أن نعيش كباقي خلق الله نصبح مجبرين على التهرب من الناس والابتعاد قدر الامكان من الاحتكاك بهم والتزام الصمت فكل ما تنطق به محسوب عليك. احيانا نضطر للتخلي عن حقوقنا حفاظا على سلامة اجسادنا . رجل الامن معاقب من طرف المواطنين إن طبق القانون أو إن لم يطبقه . إن قام بمهمته على أحسن وجه اتهموه بالشطط في استعمال السلطة .....وإن لم يقم بواجبه عوقب من طرف ادارته والمجتمع معا ....في كلا الاحوال هو معاقب . ايجدر برجل الامن ان يغير في كل مرة المدينة ليلتحق بمدينة اخرى ؟ وهل راتبه الشهري يؤهله لتغيير المدن في كل مرة وهو لا يقدر حتى على تغيير سيارته كل عشر سنوات ؟ كيف يمكن أن تكون الزوجة هي الام والأب لمسايرة تعليم أبنائها ومراقبة مسارهم الدراسي ما دام الاب هو مشغول بعمله دائما ؟ كيف لأب تم استنزاف صحته بالدوام الليلي والأجرة الهزيلة أن يقدم الدعم المدرسي لأبنائه وهو نفسه يحتاج إلى الدعم النفسي والمادي ؟
- الكل يلوموني على هذا الانغلاق الذي اصبحت اعيشه ولا يعرف المعاناة التي أعيشها في صمت ....إن كل هذا اتقل قلبي وأفرغني من كل احساس جميل ...حين يأتي المساء اكون غير قادرة على فتح باب بيتي خوفا من اي تعرض للعنف . إن تأخر احد ابنائي خارج البيت اهرع للبحث عنه . . ينتابني شعور بالفزع والخ للعنف . ( تابع خيرة جليل ل. إذا تأخر زو
شكرا صديقي على النشر لم اكن اعلم بذلك شرف لي ان تفتح لي منبرك للنشر وعلى فكرة لقد اصدرت الجزء الثاني ممكن ان تنشره كتتمة
ردحذف