من كتاب -مؤخرة ابن خلدون - للكاتب الساخر: يوسف غيشان
من كتاب -مؤخرة ابن خلدون - للكاتب: يوسف غيشان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما أن لكل كائن حي مقدمة ، فإن له مؤخرة أيضا، ولا يشذ عن هذه القاعدة – حسب معطيات المنطق الصوري الأرسطي - حتى الرفيق عبد الرحمن بن خلدون صاحب أشهر وأطول مقدمة معروفة في التاريخ العربي، وربما العالمي.
أزعم بأنني أملك النسخة الوحيدة المتبقية من كتاب "مؤخرة ابن خلدون"وهي تزيد عن مقدمته أهمية وحجما وفعالية ، سيما وان علم المؤخرات اكثر صعوبة لأن مجاله أضيق وإمكانيات الاجتهاد فيه أقل ونكهته اكثر سوءا، لكنه يحدق في التاريخ ويعيد إنتاج المستقبل بشكل اكثر فحولة وفعالية من مجرد تفسير التاريخ بشكل استاتيكي ، كما حصل مع صاحبنا ابن خلدون في مقدمته.
وأكاد أجزم بأن الرجل كتب هذه المؤخرة تكفيرا وتصليحا للأخطاء المنهجية القاتلة التي سقط فيها في مقدمته، لكن الطبقات السائدة آنذاك لم يعجبها حديث المؤخرة فقامت بإعدام جميع النسخ عدا هذه النسخة التي وصلتني أبا عن جد عن جد عن جد عن جار.
في واحد من فصول مقدمته عمد ابن خلدون إلى تصنيف البدو لدرجات ثلاث، حسب درجة توغلهم في الصحراء ودرجة ابتعادهم عن مستلزمات المدينة :
أقصى درجات البداوة عنده هم أولئك الذين يعتمدون على الإبل في معاشهم وتنقلهم ، يليهم أولئك البدو الذين يعتمدون على الماعز والغنم والبقر . يليهم في الصف الأخير من البداوة، أولئك البدو الذين يعتمدون في معاشهم على الزراعة.
والذي يحير ابن خلدون في مؤخرته، هو كيف تمكن الأعراب بعصبيتهم وعشائريتهم وشغفهم بالغزو ومحدودية تفكيرهم ... كيف تمكنوا من الاستيلاء على الراية العسكرية الإسلامية ، واستولوا على رأس الهرم في السلطة السياسية عن طريق معاوية بن أبى سفيان، ثم تمكن الأعراب ذاتهم من صنع إمبراطورية عظيمة وكبيرة نقلت العالم عدة درجات حضارية إلى الأعلى، لا بل وصلوا ذات عصر إلى قمة الحضارة العاليمة .
الذي( طلّع روح) ابن خلدون أن هؤلاء العربان نقلوا العالم حضاريا إلي الأعلى ، لكنهم بقوا على حالتهم الأولى ... بدوا يحاربون الحضارة ويصنعونها في ذات الوقت لا بل انهم تمكنوا من إزالة منجزات حضارية سابقة ، مثل العجلة مثلا التي استخدمها الاثينيون في حروب طروادة قبل قرون عدة قبل الميلاد،، كذلك استخدمها الفراعنة والهكسوس والرومان... لكن البدو الذين أسسوا إمبراطورية لم يستخدموا العجلة لا في الحرب ولا في السلم واعتمدوا في تنقلات جيوشهم على الإبل والخيل . فلم يصنعوا الطرق المعبدة والمرصوفة ولم يبنوا مدنا غير مدن المتعة للخلفاء والأمراء، ولم ينشئوا المرافق العامة ، وبقيت علاقة هؤلاء القادة مع أمصار إمبراطوريتهم العظمى علاقة الجابي المحتل مع المواطن الذي عليه أن يدفع الأموال صاغرا من اجل زيادة عدد محظيات القادة وغلمانهم المرد.
ولا تزال ملاحظة ابن خلدون في مؤخرته قائمة حتى اليوم .... إذ ما نزال حتى ساعة إعداد هذا البيان ، فئة رابعة من البدو ، ويمكن اعتبارنا متحفا تاريخيا للبداوة ( ربما لهذا السبب لم تتم إزالتنا حتى ألان).
فما يزال في دواخلنا الأعرابي الأول والثاني والثالث ، وما زلنا عربا عاربة رغما عن ارتداء الجينز وجلوسنا إمام التلفاز واستخدام الهاتف النقال .... ما نزال بدوا استهلاكيين ، ترسخت فينا مواصفات البداوة عدا الشجاعة والكرامة والإباء ... حيث فقدناها على دبيب القرون.
تعليقات
إرسال تعليق