تعبيرية اللون والشكل في تعالُقِها بالتراث العربي الإسلامي تجربة الفنان خالد عبيدة أنموذجا / الباحث نجم الدين الدرعي من تونس
تعبيرية اللون والشكل في تعالُقِها بالتراث العربي الإسلامي
تجربة الفنان خالد عبيدة أنموذجا
الباحث نجم الدين الدرعي من تونس
بتنوع الأجناس والأعراق تنوعت الممارسات لتتولد الأفكار وتتناسل الإبداعات من بعضها البعض لتُحقق التكامل والتجانس عبر تلاقحها الفكري والمفهومي. وفي ظل هذا التنوع احتكمت بعض التوجهات الفنية إلى التراث الثقافي والجمالي لمحيطها لتنهل منه أسسًا وبنى جديدة تتماشى مع متطلبات الحضارة والقيم المعرفية المحتكمة بدورها لتطورات عصرها، مستثمرة في ذلك مبادئ الحرية التي تنضوي تحت لواءها الممارسة التشكيلية عموما. وبالنظر لثراء وتداخل الممارسات البصرية فقد عمل بعض الفنانين على إيجاد منهج مغاير لما دأب عليه أترابهم محاولين في ذات الحين استثمار الروافد التعبيرية و ثراء الساحة الفنّية التي إرتسمت ملامحها بمؤثرات الفنّ الحديث من ناحية، وما يحتويه من أصالة التّراث الجمالي العربي الإسلامي من ناحية ثانية، حيث ظهر عدد كبير من الفنّانين، وتعدّدت الاتجاهات الفنّية وتنوّعت، ونخصّ بالذكر الاتّجاه التجريدي، الذي أدخل حركية في الوسط الفنّي التّونسي محرّرا إيّاه من كلّ القيود الأكاديمية والايديولوجية التي تكبّل الفنّان، مسجّلاً انقلابا فكريا وتقنيا، وذلك بإثارة أسئلة جديدة حول أهداف الفنّ التشكيلي ووسائله ووظائفه في علاقته بالمتقبل.
وبموازاة هذا التيّار نشأت اتّجاهات أخرى انطلق فنّانوها من التجريد وانتهوا إلى أساليب تجمع بين حرّية البناء التجريدي وبين استلهام بُنى الأرابيسك أو الأشكال الدائرية المهيكلة للفضاء والمأخوذة من التراث الزّخرفيّ الإسلامي على غرار تجربة الفنان التشكيلي خالد عبيدة الذي لم يكن الاقتراب من ممارسته التشكيلية أمرا يسيرا، فذات هذا الفنان لا تنفك تنفتح على مدارات إبداعية وفنية متعددة المراجع. إذ انبنت تشكيلاته المجددة على حس نقدي في التعامل مع المرجعيات التراثية الإسلامية، والتي شكلت خصوصيته الفنية النابعة من مراحل حساسيته اللونية والشكلية، وهو ما يتراءى لنا خاصة من خلال معرضه الأخير "خط الترحال" والذي ظل فيه وفيا لذاته الإنسانية والإبداعية لتعكس أساليبه واتجاهاته ومراحل تجربته التشكيلية وأفكاره الباطنية التي تنبثق منها حساسيةُ تعابيره التي تستلهم في العديد منها من رصيد أفكار فلسفية جمالية إسلامية. وهذا ما يمكن أن يستشفه المتلقي من عناوين أعماله ومحتواها التشكيلي على غرار عمله "إنشاء الدوائر، تكريم لإبن عربي".والتي يقدم فيها الفنان لغة تشكيلية ربطت بين الجمال والأدبيات الصوفية المتوائمتان في الذاكرة الجمعية للمجتمع الإسلامي من خلال كلمة الله المتواترة والمتكررة إلى ما نهاية في اللوحة.
وفي هذا العمل صاغ خالد عبيدة تكوينات من الحروف المتداخلة والمتراكبة في شبكات يبرز بعضها عن السطح والبعض يرى كالنقوش، تحاكي نسيج التوريق (ارابسك) في الزخارف الإسلامية.
اللوحة الأولى :إنشاء الدوائر، تكريم لإبن عربي
151 سم * 147 سم، 2011
151 سم * 147 سم، 2011
إن المتأمل في تشكيلات الفنان خالد عبيدة يلحظ تلك المضامين الموروثة والتي تتكلم عن روح الصورة الناطقة لنا برؤى جمالية لا يتقن صنعها وابتكارها غيرُه. حيث تكتنز لوحاته بطاقة تعبيرية مستمدة من روحانية الموروث العربي وجمالياته، تجمع فيها بين الرموز التراثية والنفس الصوفي من ناحية وأساليب التشكيل ذات المنحى الحداثي من ناحية أخرى. فالصوفية في العمل السالف ذكره تكمن في تكرار لفظ الجلالة والعبارات التي تمجد الخالق، أما الحداثة فتتجلى في التكوينات اللونية والمواد الأولية المستخدمة كالورق الأبيض ذات الميزات التصنيعية والجمالية الخاصة والذي يحتاج لحرفية خاصة من قبل الفنان للتعاطي معه تشكيليا عبر الألوان المائية والأحبار المختلفة، وأساليب الرسم المتداخلة في صلب تكوين اللوحة، مما يحيل المتلقي إلى الأشكال المختلفة من فنون «الكولاج» التي تحمل أفكارا عميقة متفلسفة بروح ذات الفنان وثقافته الفنية وواقعه الاجتماعي والثقافي روح الأشكال والألوان ولغة الرسم البارعة، لتكون أداته التعبيرية عن الأحلام اللانهائية والطبيعة والإحساسات الإنشائية والمرجعيات الصوفية. ومنها تزدحم البيئة الجمالية في عالمه الفني وتتعدد وفق نسق تدريجي مولعٍ بتنوعات الفاتح والداكن والمتضادات التي تعنى بالإشكالات والرؤى والخواطر.
الحركة
تظهر الأعمال التصويريّة للفنان خالد عبيدة اهتماما خاصا بعنصر الحركة، فتبدو الأشكال المتكررة والمتولدة مباشرة عن لمسة الفرشاة ناشطة في اللوحة مندفعة، وهذا الاندفاع نابع من فضاء هو في الأصل ثابت جامد وساكن، لتخدع اللوحة المشاهد وتُوهمه بأنّها نابضة مُتحرّكة ترقص على نغمات إيقاعية متواترة. فالحركة هي "الخروج من القوّة إلى حيّز الفعل على نحو متدرّج واشتراط التدرّج ضروريّا ليخرج السّكون عن الحركة ".
أضافت البنية الشبكيّة الموجودة في الكثير من أعمال الفنان ـ كمجموعته التوريقات المعاصرة ـ على الحركة طابعا مرتبطا بالعين الناظرة والمتأمّلة، من شأنها أن تستجلي حقيقة الفعل التشكيلي المفتوح على قراءات متعدّدة تشجّع المشاهد على خلق صور متنوّعة متغيّرة، فـ " الحركة هي كميّة التغيّر".
فيما ينوّع أسلوب خالد عبيدة ذلك التصنيف المعهود بين ما هو تعبيري موظف بإمعان لعنصر الحركة بمتغيّرات تتوخّى التوكيد على جوهرية هذا الفعل و كونه مركز للذات، لتتحوّل مشاهدتنا للعمل ليس كصورة بل كفعل وحركة؛ هما بصمة اللحظة الإبداعية، لحظة الولادة والانبثاق، لحظة الزمن التي يعمل الفنان على تجسيدها وانتزاعها من حقيقتها الزائلة إلى حقيقة ثابتة مؤرخة صالحة لكلّ زمان ومكان، في ثباتها نعي للسكون، وبالتّالي فهو ثبات متحرّك نابض. يقول الناقد الأمريكي هارولد روزنبرغ (Rosenberg) حول الحركة :" إنّ الحركة على قماشة الرسم هي حركة تجرّد من القيمة سواء كانت أخلاقيّة، أو جماليّة، أو سياسيّة كما أنّها تبدو حركة اغتراب عن المجتمع و متطلّباته".
إنّ قدرة الفنّان الابتكارية والمشبعة بأساليب وتقنيات منصهرة، أضفت على أعماله نبضا داخليّا تشعّ فيه الحركة بفعلها التلقائي والعفوي المقصود، ويتّضح ذلك في سلسلة أعماله على غرار لوحته المُعنونة " قوس قزح يُشرِقُ على سيدي بوسعيد الباجي" أو لوحة "كونتينيوم (2)"...
اللوحة الثانية:كونتينيُوم (4
أكريليك على ورق مُثبت على البلور
45 * 35 سم، 2011
أكريليك على ورق مُثبت على البلور
45 * 35 سم، 2011
حيث برز فعل الحركة فيها عبر توظيف الوحدة التشكيلية المتكرّرة في تتابع إيقاعي متسارع، نتيجة تسلسل للجزئيّات المكوّنة لهيئة العمل المفتوح على ما لا نهاية.
وهذا ما ولّد اعتماد مجموعة من المفاهيم التشكيلية المولّدة لعنصر الحركة الفاعلة في الأثر من الداخل، حيث اعتبرت اللوحة فضاء تنساب فيه الأفكار من أجل إنشاء لغة تعطي المادّة شكلا، وتنشئ عالما يشعر فيه الفنّان بشئ يتطوّر بداخله ببطء. وتبقى مسألة التّعامل مع المصطلحات حسّاسة تتطلّب دقة ومعرفة فنّية باعتماد آليّات تقنيّة حتّى لا يقع التّعامل معها سطحيّا ولا يتم تناولها بنظرة أحادية الجانب، بل لابدّ من تحليل العمق الجمالي المتأصّل في جذورها التاريخيّة والحضاريّة.
الإيقاع
هو نمط يتكرّر في الأثر الفنّي ندركه في الزّمن أو من خلاله فيضفي طابع الحركة والدينامكيّة والسرعة.
فالتكرار حسب جوهانز ايتن:" يعتبر تكّرار مواصفات الشّكل، وتناسق النّقاط والخطوط، والمساحات، والبقع(لمسات الفرشاة)، والأجسام، والنسب، والملامس، والألوان كلّها تعتبر من مواضيع الإيقاع، فالإيقاع يمكن أن يتكرّر كالضّربة الموسيقيّة".
لقد ساهم التّكرار بشكل كبير في أعمال خالد عبيدة في توليف حركة دينامكيّة بنيت عليها إيقاعات نبضيّة. وقد تولد الإيقاع عبر مفهوم التعدّد في لوحاته وما تضمّنته من تلاعب في موضوعاتها لعناصر متشابهة، وأخرى مختلفة، وأيضا عبر التّلاعب بالألوان بين المضيء والقاتم، مشكّلة بذلك اهتزازات بصريّة، آسرة انتقال العين داخل منظومة محكمة من الفوق إلى التحت، وصوب التقاطعات العموديّة والأفقيّة ومن اليمين إلى اليسار تتبعا لإتجاه الكتابة في لغة الضاد.
وبهذا استطاع الفنان أن يكسب عمله الفنّي إيقاعا خاصّا ذو صبغة زمانيّة حيّة ومتحرّكة ليجيء دور التكّرار والتّرديد والتّركيب والتّشخيص والتنوّع والتّعدد، فتكون جميعا بمثابة عوامل حسّية تُساعد على إبراز الإيقاع الممثّل كثمرة لعمليّة منهجيّة خاصّة، ألا وهي عمليّة تنظيم العناصر التّي تمكّن من خلالها من جعل الفضاء مفتوحا، يتضمّن وجوها تتحرّك و بحركاتها تحدث وزنا وضربات، ويتشكّل الوزن من خلال اللّون، وما يحدثه من اهتزازات منسّقة تحدّدها درجة إضاءتها.
للوحة الثالثة: كونتينيُوم (5)
أكريليك على ورق مُثبت على البلور
45 * 35 سم، 2011
للوحة الثالثة: كونتينيُوم (5)
أكريليك على ورق مُثبت على البلور
45 * 35 سم، 2011
الخط
يمثل الرسم الخطّي إستراتيجيّة الفعل الإبداعي عند خالد عبيدة ومصدر إلهامه، بحيث يشكّل منطلقا لأعماله ومنه تتولّد الفكرة، وتتحدّد معالم الموضوع وتتّحكم فيه، مُؤمّنًا تواصلا بينه وبين الفعل الفنّي ليصوغ لنا رؤيته الحالمة وما يتمتّع به من ذكاء تشكيلي، إلى حدّ سيطر فيه الرّسم على اختياراته الجماليّة الرهينة بتجليات الموروث الإسلامي، والمجسّدة لجملة من العوالم المبنية على حسَ نقدي ومواقف متنوّعة. لذا فقد كانت الفرشاة رفيقة خالد عبيدة في مسيرته الفنّية حيث يفرض على نفسه العمل كل يوم، ليلخّص من خلال الرّسم كل ما يراه وما يحسّ به تجاه الموضوع الذي اختاره، مسجّلا تعبيرية اللون والشكل في تعانقها بالتراث العربي الاسلامي.
يعتبر جانب الرّسم الخطيّ من أهمّ العناصر التّشكيلية التي أسهمت في تطوير ممارسة خالد عبيدة وإثراء تعامله مع الفضاء التّشكيلي باعتباره مرحلة هامّة من مراحل تكوين اللوحة، لما تخلقه من روح حركيّة مهووسة بفعل التّحرر، فتتفاعل الخطوط على اختلافها وتنوّعها وتتشابك وتتداخل، مكوّنة درجات ضوئيّة متفاوتة لتصبح قاعدة أساسيّة تساهم في تعبيريّة الفّعل متيحة للفناّن حريّة التّحرك في مجاله بكل طلاقة وسبر أغوار ذاته.
كما لم يقتصر الاختلاف على نوعية الخط طبيعة وشكلا فحسب، وإنّما تجسّم أيضا في اختلاف الاتّجاه المعتمد في الرّسم من طرف الفنّان، بحيث لم تستقرّ يده على اتجاه معيّن فتراه يرسم والقلم أو الفرشاة يخضعان إلى حركته بكل تلقائية وعفوية كأنه يحاكي في الآن نفسه إملاءات هنري ميشو في قوله:
" خط يلتقي خطا آخر وخط يتحاشى خطا متوازيا
خط من أجل اللذة في أن يكون خطا متماديا
خط حالم. إلى حد هنا لم يكن بإمكاننا ترك الخط يحلم
خط يعكس الوعي في تحوله"
قامت الخصائص التشكيليّة للخط عند خالد عبيدة على جملة من التّناقضات من حيث النّوع والطّبيعة، لتخلق جملة من الجدليّات: جدليّة الصّلابة والليونة، جدليّة الفاتح والداكن، جدليّة السّميك والرّقيق، جدليّة الغليظ والحادّ، جدليّة العمق و اللاعمق.
وتعكس هذه الجدليّات بوضوح أحاسيس الذات المبدعة مبرزة حسا نقديا وطابعا صوفيا ملازما لشخصية الفنّان والمشتركة في الآن نفسه مع أعماله التصويريّة باعتبارها جزء مرتبطا باللّحظة الابداعية التي يعيشها الفنان إثر ممارساته التشكيليّة.
للوحة الرابعة:قوس قزح يُشرِقُ على سيدي بوسعيد الباجي
90 * 90 سم، 2011
للوحة الرابعة:قوس قزح يُشرِقُ على سيدي بوسعيد الباجي
90 * 90 سم، 2011
بناءًا على ما تقدم، تكون تجربة التشكيلي خالد عبيدة في أوج بحثها المتواصل عن خصوصية جمالية عربية بعد تكوّنه في الأكاديميات. وفي اتجاه أخر يعيد الموروث الثقافي في ثوب جديد يعكس الصورة التقليدية للجماليات العربية في نطاق أسلوب فني يجاري العصر سواء في مراوحته بين عوالم الأثر الفني أو في توظيفه لهذا الموروث المتأصل، التي تدور معالمه حول مفاهيم التجريد التشكيلي، والتي يتحول فيها الخط والشكل بمقتضاها إلى نوع من الإيهام البصري الحامل لروح فنية جديدة، ترتكز على الإرث الحضاري لمرجعيته وفي الآن نفسه على نطاق ثنائية بين الخصوصية المعاصرة للفنان والمرجعية التي خلفها السلف، فتقوم هذه العلاقة على ثنائية الاستحضار والتعبير عن إرادة التجاوز.
تعليقات
إرسال تعليق