الفن والإمكانيات التحويلية التكنولوجية فن جديد..لعصر جديد




الفن والإمكانيات التحويلية التكنولوجية
فن جديد..لعصر جديد
.................................
في إحدى قصص كتاب الف ليلة وليلة الاثري, وحسب ما اتذكر, هناك قصة يرد فيها ان ثمة بناية, في احدى مدن الهند,مكعبة الشكل(ربما هي معبد) تتوسطها كتلة معدنية(حديد) طافية وسط فضائها, لا يسندها او يدعمها أي شيء. لقد وردت هذه الحادثة المشهدية كمعجزة في زمنها, وكظاهرة غير مألوفة ومحيرة. لكن يبدو ان جدران البناء المكعب كانت مغلفة بالمغناطيس ليضمن لهذه الكتلة توازنها ضمن فضاء الجاذبية المتساوي الجهات, وخلقت فعلها الادهاشي الأفتراضي من خلال لغزها التكنولوجي الخفي. في ذلك الزمن الماضي.


بعد قرون من ذلك الزمن. في عام(2009) وبتكنيك مشابه في اصوله,اوبما يقاربه, شاهدته في عرض(البينالي الخامس للكهربائية الفائقة) في قاعة فن مدينة مالمو السويدية(مالمو كونستهال). لقد حاول الفنانون الاوربيون المشاركون في هذا العرض, وكما سابقيهم, استخدام معارفهم او حيلهم التكنولوجية في اخراج اعمال تتمتع بكلا الخاصتين(التكنولوجيا والفن) وانتجوا لنا اعمالا قابلة للفرجة واثارة الاسئلة في نفس الوقت. لكني لا أعتقد بأن هؤلاء الفنانين على اطلاع بأقصوصة الف ليلة وليلة. كما تكشف صيغ اعمالهم, لقد استقوا درسهم الابداعي من مستجدات التكنولوجيا الكهربائية ومجال البحث الفيزيائي(لعلاقة كل منهما بالاخر). مع المحافظة(في بعض الأعمال) على مقاربات تأثيرية بانجازات رواد الفن الما بعد حداثي (دوشامب, بويز) وغيرهم. وان كان هدف مصمم الفضاء المغناطيسي الهندي ادهاش المشاهد, وكما هذه الاعمال الفنية الاستعراضية. بالرغم من أن الوسائل أو الوسائط التنفيذية لكل منهم لم تكن تقليدية بالمطلق. لقد صنعت أعمال الفن(الافتراضي) هذه بوسائطها العلمية التكنولوجية التحويلية مناطق تفاعلية جديدة, ماهي الا بعض من نماذج الفن التفاعلي التكنولوجي الجديد.
كل الدلائل تشير بأننا نعيش عصرا تكنولوجيا معلوماتيا فائقا. بما نلمسه او نشاهده, او بما نسمع او نقرأ عنه. فان كان الأمر كذلك, فبالتأكيد إن هذه التقنيات التكنولوجية اخذت تعبر مجالاتها العملية التقليدية لتعم كل المجالات. وما العمارة والفن والادب ودمج البيولوجيا الإحيائية والتركيبية والمكتشفات التقنية الصورية والصوتية وتشكيل تركيبات جديدة, إلا بعضا من حقول مباحثها التطبيقية. ما عدى الاختصاصات العلمية والتطبيقية الاخرى, ووسائل التجارة والاقتصاد. لقد امتدت اذرع اخطبوط التكنولوجيا المعلوماتية الفائقة لتجوس دواخل اجسادنا بعد ان لامست قشرة جلودنا. في نفس الوقت خلقت كائناتها الافتراضية, خيالات واجساد, تنتمي, او لا تنتمي لنا. وربما سوف تجالسنا وتستولي على حواسنا, او, ربما تحاورنا قريبا اجساد الشاشة الثلاثية الابعاد(ثري دي). لقد اصبحنا مكشوفين امام نظرائنا الأفتراضيين, وبتنا لغزا قابلا لأفشاء اسراره. ان لم تفضحنا كل عيون كاميرات مدننا الرقمية. ويبدو اننا اصبحنا نعيش ادوارنا التمثيلية او التهريجية الجديدة, وعلينا ان نتقنها. قبل ان تضيعنا ارقامنا التكنولوجية الجينية الجديدة. لقد اصبح كل شيء بحدود الممكن تكنولوجيا تقريبا.



اتخذت العمارة التفكيكة الجديدة شكل نتوءات وبعثرة اعضاء اجسادنا البيولوجية بفضل محفزات قدرات التقنية الرقمية وبرامجها التي تتطور باستمرار. وبفضل العلوم التحويلية. ولم يعد المعماري بحاجة للقلم والمسطرة وادوات الرسم الهندسي التقليدية. اصبح يمسك باجساد منشئاته عبر شاشة الكومبيوترويطوعها خلقا عضويا جديدا وبزمن قياسي, مثلما يجسمها, او يجسدها. ولم يكن الفنان بعيدا عن ذلك, هو الاخر يخلق اجساده ومخلوقاته الأفتراضية(سواء بجذر انساني او حيواني او نباتي). وان كان االنتاج الفني نخبوي, فهو الآن شعبي بامتياز بفضل الاستنساخ الالكتروني الفائق الجودة. وحتى بفضل شعبية الالوان الصناعية التي غطت مساحات واسعة من جدران ابنية مدننا برسوماتها الكرافيتية, إضافة إلى الألعاب النحتية الضخمة(سميتها العاب, أولا نسبة لمواد تصنيعها المعملية, وثانيا لكونها تشبه اللعب البلاستيكية التجارية, ما عدى المبالغة في حجومها). لقد أصبح زمننا, زمن الفن الشعبي بامتياز. لكن ليس بعيدا عن هيمنة السلطة الاقتصادية ومناوراتها التجارية. فهل اصبح الفنان المعاصر تاجرا. مثلما مؤسسات التجارة الداعمة او المتبنية لعمله. اعتقد ان بعضهم كذلك. وهذا امر لا بد منه لعلاقة بعض فروع التكنولوجيا بالاقتصاد. وزيت الماكنة الاقتصادية هو الفن(الميديا) وتوابعها التقنية. وما دام للتقنية المعملية دور في تنفيذ بعض أعمال الفنانين المعاصرين. فما يمنعهم من ممارسة دور تسويقه من خلال اختصاص تقني أخر, إن كانوا على اطلاع بخبراته.

أكد هيجل (بان العالم المحسوس وهم(1) لانه يقدم نفسه كواقع يكتفي بذاته, واذا بوصفه مؤسس في الروح. الفن على نقيض ذلك, بمقدار ما يحول العالم المحسوس الى مظهر(2) نتيجة التخيل الفني, يحوله في الوقت ذاته الى تجل للروح(3) واذا يكشف عن ذاته, عن حقيقته. عندما يصور النحت الكلاسيكي الجسد الانساني كجسد نموذجي, كتجل للروح الالهية المتحررة من كل نقص يرجع الى الطاريء البيولوجي..)
هيجل, بفلسفته المثالية في مرحلتها الأولى التي لا تخلو من رومانسية يبحث في الفن عن الروح من خلال تجسيد الجسد الإنساني المتخيل, لكن بتجاوزه بعض الشيء لهيئة الجسد البيولوجية لصالح النظرية. الأجساد التكنولوجية الجديدة هي الأخرى لا تخلوا من هذا التناقض المظهري. لكنها تكرس, في بعض من اشتغالاتها البيولوجيا حقلا لافتراضاتها العملية, أرواحا اغترابية جديدة, وذلك في التجارب المختبرية الفنية للعديد من مراكز البحوث ومشاريعها المختلطة الاختصاصات( الفلسفة المعاصرة, البيولوجيا التحويلية والتركيبية, التصميم, المعمار, الفنون السمعية والبصرية, البرامج الرقمية..) في محاولات لاكتشاف مناطق أداء جديدة, لكنها لا تبتعد عن الجسد(الإنسان, الحيوان, النبات إلى البكتريا) والى البيئة البيولوجية الأوسع, بمخلوقاتها الدقيقة والمتعاظمة. وان استمتعنا بكل ما قدمته الفنون من صور وإنشاءات ومشاهد وأصوات, وروايات مقروءة ومجسدة. ومن افتراضات واكتشافات مفاهيمية. فان التطور التكنولوجي المتسارع أدخلنا في عصر اللامعقول, لكن بمعقولية أو لا معقولية معلوماته.
توفر التكنولوجيا بشكل عام, وللفنانين خصوصا, المزيد من الخيارات مقارنة بغيرها من الوسائل, الإمكانيات اللازمة لتنفيذ المشاريع الفنية المتعددة الوسائل والاهداف. على سبيل المثال: الفنان النمساوي(روماني كيرشنر) درس الفلسفة وتاريخ الفن وعلم الجمال السمعي البصري قبل متابعة اهتمامه في عملية تحويل المواد وصولا إلى هدفه في لتطوير الأكوان الصغيرة المصنوعة من الصور والأصوات المادية الفعلية في جذور النباتات، ومن خلال اكتشاف دورة التشكيل البلوري من البنية المتحولة المتحركة, وتحقيق سماع أصواتها الخفية عن طريق الكهرباء. حيث ينتج الصوت من خلال التوتر التدريخي لتوسع مساحة هذا الكائن الحاصل نتيجة مرور التيار الكهربائي الذي يؤثر بدوره على النمو. فاعماله او منحوتاته البيولوجية النباتية تتعرض لتغيير تدفقها من خلال ذلك. هذه الأعمال الفنية الافتراضية ترينا كائناته التي تبثها كادر لقطاته او افلامه بالكاميرا الرقمية التي تستعرض هذه الكائنات النباتية بتركيبتها المتحولة صورة وصوتا, وهي تقدم نفسها لنا كمنحوتات فنية, وليس كتجربة تقنية




ليس روماني وحده من يمارس الفعل التحويلي المادي الفني التقني, اذ ان هناك العديد من المشاريع المقاربة التي تتبناها جامعات ومعاهد في الولايات المتحدة(كمعهد كاليفورنيا نانو سييتمس) واوربا. كذلك هناك العديد من الهيئات(العلمية ـ الفنية ) التي تتبنى مشاريع مماثلة, وتجمع فيها الخبرات والاختصاصات العلمية المختلفة, ومنها الخبرات الفنية. لكن كل ما يهم من كل ذلك هو المحاولة في ربط البحوث والنتائج (البيولوجيا التركيبية)بمبادئها الواضحة: التوحيد والتجريد والنمطية, الجماليات الاصطناعية: بكيفية تصميم وانجاز أعمال فنية تتمتع بخصائص تقنية لا تستبعد مجال البحوث العلمية ومستجداتها. وبالذات مالها علاقة ما بقابلية تفجير الطاقة الإبداعية لدى الفنان لخلق كائناته أو أشكاله التي تمت بصلة وصل لجذرها الخليقي أو التخيلي الفنتاسي, أو بكلاهما. لقد أكد العديد من نقاد ما بعد الحداثة. بان عصرنا الفني هذا هو من أكثر العصور الفنية ديمقراطيا(ولو من حيث تنوع الاداءات والافكار المطروحة للمعالجة). وإحدى علاماته, على ما اعتقد, انتفاء التابو التقليدي بشكل مثير. مما جعل الفنان يخوض مغامراته العلنية, سواء ان كانت في ارض محروثة, أو بكر. لذلك فإننا لا نستبعد انغمار الفنان المعاصر في مغامرات لم تكن متصورة او معهودة من قبل, ومنها تبادل الخبرات او دمجها ومستجدات البحوث العلمية والتطبيقية مثلا.
لقد بدأت الفنون الرقمية ووسائل الاعلام ونظرية التكنولوجيا والثقافة, العمل مع شبكة الانترنت كوسيلة في عام (1993) , والالكترونيات ، والبرمجة والتحكم في الروبوتات في عام (1995) ؛ والألعاب والبرامج في عام (1997) ، والكائنات البيولوجية في عام (2001). الا ان تأثرها بات كبيرا على الثقافة المعاصرة في مجال الانتاج الابداعي.
. بالرغم من ان العلم البيولوجي هو علم حديث بعض الشيء, وبعض من تطبيقاته او معالجاته الفنية هي الاخرى احدث كما هو واضح اعلاه, ونتائجه متغيرة. كما ان الاثار المترتبة على بحوثه غير واضحة في كثير من الاحيان. لكن بالنسبة للفنانين اعتقدها مغامرة من قبلهم لريادة العالم الخفي على الابصار. لقد سبق وان اشتغل السرياليون وبالذات الفنان السريالي ماكس ارنست على ريادة مقاربات لهذه العوالم (البيولوجي ـ فني) الخاصة, وكما شاهدناها في أعماله. وأنتج صورا قريبة في خيالها من صور العوالم الافتراضية الجديدة, الت بدات تغزونا الان. وها هي المغامرة متوفرة بتوفر وسائلها التقنية. هنا تكمن نبوئة الاعمال الفنية الرائدة التي كرست الحقيقة خيالا, والخيال حقيقة. ومابين الحلم والصحو الا ثواني.
.......................
علي النجار
مالمو 20ـ01ـ2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح