التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. / د. حبيب مونسي



التعبير والتجريد في الشعر الحديث..



بقلم : حبيب مونسي

كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟
ما هي مشكلته اليوم؟
التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟
كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟.. ما المخرج إذا؟

يميِّز "صلاح فضل" في دراسته لخريطة الشعرية العربية، في بحثه عن"أساليب الشعرية العربية" بين مجموعتين شعريتين تقوم بينهما فروق حادة، يصل تراكم الدرجة فيها إلى اختلاف النوع. يطلق على المجموعة الأولى منها مصطلح "الأساليب التعبيرية" كما يطلق على الثانية تسمية "الأساليب التجريدية" (1) وينصرف مصطلح التعبيرية عنده إلى كونه:« خاصية ونتيجة معا لهذه اللغة الأدبية، ترتبط بالإمكانات العقلية الشعورية الماثلة في تجربتنا الثقافية، لكنها على عكس التأثيرات التخييلية والرمز لا تقع بؤرتها في منطقة اللاشعور، بل يتمثل فضاؤها في الإنارة –غير المتوقعة- لما هو شعوري ومعتاد، بفضل فرادة آليات التعبير.» (2) وكأن المشاهد التي توقفنا أمامها في عرضنا للشعر القديم من هذا الصنف الذي يقدم ما في الشعور وحده، في ثوب من الصياغات المثيرة. ومن ثم تكون "التعبيرية" ذلك الاتجاه الذي يركن إلى الأساليب المختلفة في عرضه للمشهد وفق السنن المتبعة في الرؤية والإخراج. إنها حقيقة يمكن الاستئناس إلى نتيجتها، لأنها تمثل لنا العملية في الوسط الاجتماعي والثقافي المستتب، ليس فيها من حظ اللاشعور إلا المقدار الذي يمكننا استخلاصه من التجربة ذاتها عن طريق التأويل.
إننا حين نلتزم هذا التقسيم، نجعل المشاهد القديمة، مشاهدا تعبيرية، فيما ننعت المشاهد الحديثة بالتجريدية. وهو تقسيم يوحي بوجود قطيعة مع الأنماط التعبيرية القديمة، وينمُّ عن تحول في الذائقة العربية، ورؤيتها الجمالية. غير أننا لا يمكن أن نسلم بهذا الفصل الحاد بين النمطين، ولا يمكننا معرفة مبتدى الثاني ونهاية الأول. والملاحظة البسيطة لما أسماه بالخريطة الشعرية يكشف لنا في يسر تماهي النمطين في بعضهما بعض، وسريانهما إلى جنب في الصنيع الواحد. غير أن الدرس النقدي –وهو يلتزم هذه الرؤية- يريد تسليط الضوء على الحركة التي تسكن الشعرية العربية في صلبها وفق قوانين التطور الحتمي للفكر والرؤى الجمالية المصاحبة له.
يعود "صلاح فضل" إلى التعبيرية ليحددها من جديد قائلا بأن النمط المسمى بالتعبيرية:« هو الذي تنتجه أشكال اللغة الأدبية المؤسلبة بلون من المعايشة غير المباشرة، أو المعهودة. إذ تقدم نوعا من الحقائق المبتكرة بتحريف يسير للغة المعبرة، وتفعيل معقول لآليات التوازي والاستعارة والترميز بشكل يؤدي إلى الكشف عن التجربة في مستوياتها العديدة التي قد تصل إلى أبعاد رؤيوية، لكنها تظل تعبيرية الحقيقة المكنونة، المعطاة في الصيغ اللغوية والصانعة لتجربة متماسكة خلاقة.»(3) وفي هذه العودة ارتفاع بالتعبيرية إلى مرتبة معتبرة من الرؤيوية التي تحقق للمشهد الكثير من الجدة التي تقوم على المفاجأة والكشف. ومن ثم يكون من المقبول الأخذ بهذا الفهم الذي يعيننا على لمس التطور الحاصل في الذائقة العربية من نمط إلى آخر. ولا يعني هذا –بحال من الأحوال- أن التطور يعني دوما التقدم نحو الأفضل. بل التطور -هنا- مجرد انتقال من أفق إلى آخر. قد يكون في الأفق الجديد ما لا تقبله الذائقة، وما لا يعبر عن آفاقها المنتظرة.
إن الذي كانت تؤديه التعبيرية في الشعر القديم، كانت تقابله الردود والاعتراضات من النقاد والشعراء أنفسهم، تستملح فيه الصنيع، وتستهجن آخر. كلما انصرفت التعبيرية بعيدا عن المألوف وتورطت في الغموض والفوضى التعبيرية. وكأن التعبيرية في كل حركاتها التي أنجزتها، لم تكن في مأمن من النقد والانتقاد، لأنها تواجه الواقع الثقافي الذي تصنع فيه العادة والإلف أطواق الحدود والمعايير.
وما يقدمه "صلاح فضل" عن نمط "الأساليب التجريدية" ينعته كذلك إشارة إلى:« المأزق التعبيري الذي تصل إليه.» (4) وكأنها في نمطها الجديد ليس في غايتها أن تضيف إلى الموروث التعبيري جديدا يؤثث حصاده الفني، ولكن همها ينصرف إلى التعبير عن المأزق التعبيري الذي جنح إليه الشعر الحديث، متخليا عن الشعور واللاشعور في آن، ملتفتا إلى التجريد الذي يجعل المشهد أشبه بالسراب المتراقص في امتداد الطرق، لا يروي عطشا، ولا يسد رمقا. وكأن القصيدة لا تقول قولا، بقدر ما تشير إلى وضع مأساوي بلغته الذات أولا، وأرغمت اللغة على حمل أعبائه فراغا، وصمتا، وتجريدا.
إن السمة التعبيرية وإن لم ترتفع بعيدا في سماء التحليق الرمزي والدلالي، إلا أنها كانت تغذي الذائقة –على فترات- بالغريب العجيب، الذي تتفتح أمامه مسافات القابلية الثقافية والجمالية، فتنال منه حظها المقدور لها. في حين أن الأساليب التجريدية تضع التلقي في حالة ضياع مستمر، تدور معه اللغة دورانا جنونيا دون أن يكون لجعجعتها طحينا. إنها في فعلها ذلك تفصح عن وضع، ولا تشيِّد رؤية جمالية. ومهما يقال عن قدرة الشعر الحديث في ملامسته تخوما جديدة للذات، فإنه لا يفعل ذلك بعيدا عن التعبيرية الأولى.. إنه يطوعها بما يطعم أساليبها بالتجريد من حين لآخر فقط. ومن ثم يمكن فهم تساقط كثير من النصوص في هاوية النسيان، لأنها أصرت على إقصاء التعبيرية من ساحتها جملة وتفصيلا. في حين استطاعت أخرى أن تزاوج بين التعبير والتجريد في نسق إبداعي مستحب، فعاشت في الذاكرة زمنا أطول.
وملاحظة الباحث الأخيرة تفصح جليا عن هذه النتائج الخطيرة، حين يقول:« يبدو من النظرة العامة أن خط التطور البارز فيها، يتمثل في التقلص المتزايد للأساليب التعبيرية، والتكاثر الواضح للأساليب التجريدية. الأمر الذي يؤدي إلى لون من "تغريب الشعر" لا يخطئه الفحص النقدي السريع.» (5). وليس في"تغريب الشعر" سوى تغريب للذات الشاعرة، التي تجد نفسها في مواقف يصعب عليها إيجاد شيء من التجانس بينها وبين مبتغياتها. فهي في خضم الدفق الحياتي لا تجد مُتشبَّثا تتمسك به، فتنعم بقليل من التأمل والرؤية الغارقة في الغياب. فيكون وضعها ذاك أدعى إلى التلويح بإشارات خرقاء لا يعقلها العقلاء.
هوامش:
1- صلاح فضل. أساليب الشعرية المعاصرة. ص:40. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 1998. القاهرة.
2-م.س.ص:41.
3-م.س.ص:41.
4-م.س.ص:40.
5-م.س.ص:42.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح