توظيف الفنون التشكيلية التقليدية في العمارة الجزائرية المعاصرة بين النظرية والتطبيق / د. قجال نادية جامعة مستغانم





توظيف الفنون التشكيلية التقليدية  في العمارة الجزائرية المعاصرة بين النظرية والتطبيق

الأستاذة قجال نادية جامعة مستغانم

تمهيد:

       في عصرنا الحديث مالت التصاميم الهندسية في جل أنحاء المعمورة  إلى الابتعاد عن التنميق والنحت والفسيفساء والنقوش البارزة وما إلى ذلك من الفنون  المتوارثة المرتبطة بالأرض والإنسان والتاريخ والتي تعتبر معيارا  لعراقة الشعوب وتقلصت مجالات إشراك الصانع في إنجاز العمائر لاسيما المدنية منها واستبدلت الجداريات بالرسم المسندي وطغى أسلوب الآلة على أنواع التصميم في العمارة وتوحد الطابع المعماري تحت شعار مواكبة العصر وصبغ الفن المعماري بصبغة واحدة أزالت خصوصيات شعوب العالم .

      وبالتالي لوحظ فتور واضح في  العلاقة الأزلية بين الفنون التشكيلية الشعبية و فن الهندسة المعمارية ،و هي علاقة  تكاملية وثيقة متجذرة  في القدم ، بدأت مع  بزوغ العنصر الإنساني إلى الوجود وتطوّرت على امتداد العصور .

     على أنّ الإنسان قبل إدراكه لأبسط أساليب البناء اهتم بالرسم على جدران الكهوف التي اتخذها للكنّ ، مما يؤكّد أنّ التعبير التشكيلي ضرورة ملحة أملتها الرغبة في ترجمة الهواجس  والمخاوف والمعتقدات والآمال والأفراح وما إلى ذلك ممّا يخالج النفس البشرية ، وهي ضرورة سبقت حاجة الإنسان إلى دفع الأذى من الحرّ والبرد واتّخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها.

      على  أن  ملازمة الرسم والنحت والفسيفساء والزخرفة وما إلى ذلك من الفنون التشكيلية لفن البناء  على امتداد التاريخ رسخت في العمارة ملامح الثقافة الموروثة  و حفظت هويتها الحضارية ، بما لها من قدرة على تخليد وسرد التاريخ والتراث والمعتقدات وما إلى ذلك من محتويات  الذاكرة الشعبية.

     وبالتالي فإن  محاولة  تفعيل الفنون التشكيلية الموروثة في العمارة المعاصرة ببلادنا  يساهم في استرجاع  الهوية الحصارية والثقافية للمدينة .

     لكن  قبل الخوض في  الحديث عن إعادة توطيد  العلاقة التكاملية الأزلية بين  الفنين المعماري والتشكيلي الشعبي  نرى لزاما علينا  التطرق أولا  إلى أسباب وعوامل   فتور هذه العلاقة  و قبل هذا  وذاك  لابد من توضيح  بعض المصطلحات التي  قد يحول الغموض حولها دون فهم هذه الدراسة،  وتحديدا مصطلح الفنون التشكيلية  وهو يعني في مفهومه الشامل والمتفق عليه   : فنون التصوير والنقش والنحت والفسيفساء والخزافة والخط  وحتى العمارة ، لكن في هذه الدراسة  حين نتحدث عن توظيف الفنون التشكيلية(الشعبية)  في العمارة  ، فنقصد مجموعة الفنون الآنفة الذكر باستثناء العمارة    أي مجموعة الفنون المكملة للعمارة  إذ لا يعقل أن يكون المقصود هنا ( توظيف  فن العمارة في فن العمارة ).

      وأما لفظة شعبي  فهي مشتقة من الشعب وتعني " كل ما اتصل  اتصالا وثيقا بالشعب إما في شكله أو في مضمونه وأي ممارسة  اتصفت بالشعبية تعني أنها من إنتاج الشعب أو أنها ملك للشعب"(1) وإذا توقفنا عند معنى الفن لغة فهو  مصدر   جمعه أفنان وفنون وهو " تطبيق الفنان  لمعارفه على ما يتناوله من صور الطبيعة فيرتفع به إلى مثل أعلى تحقيقا  لفكرة أو عاطفة يقصد بها التعبير  عن الجمال الأكمل  تلذيذا للعقل والقلب"(2)

  Art وباللاتينية :Techne و الفن باللاتينية يعني:

وهما لفظتان شاع  تداولهما  للتعبير عن النشاط الصناعي النافع بشكل عام ، والعرب أيضا فهموا  الفن بهذا المعنى فاستخدموا لفظة  صناعة للإشارة إليه(3). ويتوضح ذلك عند ابن خلدون الذي تحدث في مقدمته عن أنواع الفنون مستخدما كلمة صنائع وقد عرّف الصناعة بقوله"  اعلم أن الصناعة  هي ملكة  في أمر عملي فكري .... والملكة  صفة راسخة تحصل عن استعمال  ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته" (4)

     وفي العصر الوسيط ظلت كلمة فن محصورة في معناها الضيق الذي لا يتعدى الإشارة  إلى الصناعة أو الحرفة  وأما في العصر الحديث  فقد تعددت وتباينت تعاريفه  لحد لا يسمح لنا بالإلمام بها إجمالا في هذا الحديث وبات متجددا باستمرار يولد في كل مرة من جديد.



أسباب وعوامل فتور الصلة بين الفنون التشكيلية الشعبية والعمارة الجزائرية المعاصرة:



 *- العمارة الجزائرية قبيل الاحتلال الفرنسي

       من المهم في هذه الدراسة التذكير أن الجزائر كانت قبيل الاحتلال الفرنسي تزخر بالمساجد والزوايا والقلاع والجسور والثكنات والمنازل والقصور والحمامات  والأسوار والخانات وما إلى ذلك وقد انتقلت الأساليب الفنية المعمارية التي شاعت  في عهد الأغالبة والحفصيين والزيانيين عبر الأجيال واستمد البناة  طريقتهم أيضا من الحضارة  الأندلسية  وكان للأندلسيين  الذين هاجروا إلى الجزائر تأثير عظيم في بناء القلاع  والقصور على وجه التحديد ثم جلب العثمانيون معهم طرازهم المعماري إلى  الجزائر  وظهر أثرهم خصوصا في  بعض المساجد والقلاع والثكنات (5)



    وكان الصناع المهرة  من معماريين ونحاتين وخطاطين ومصورين يعيشون كالأسياد لما كانوا ينعمون به من  تقدير لقدراتهم الفنية وكان الصانع في الجزائر  يعرف باسم المعلم

    ووظف النقش  والخط والنحت  وحتى التصوير في  الهندسة المعمارية اهتماما بجمال  وأناقة مظهرها ونذكر من بين الأسماء  اللامعة التي برزت في فن النقش والخط والبناء  المعلم "احمد بن محمد بن صارمشق" الذي بنى جامع" العين البيضاء بمعسكر" والمهندس " الهاشمي بن صارمشق" الذي رمم  جامع" سيدي بومدين"  في تلمسان  و" محمد صارمشق" الذي أبدع في  نقش عدة  منشآ ت معمارية وكل هؤلاء ينتمون إلى الأسرة " الصارمشقية" التلمسانية المشهورة بممارستها لهذه الفنون.

    ومن النقاشين أيضا " الاصطا حسين" و" علي بن محمد التونسي" و " احمد بن عمر التونسي"  الذين زينوا مسجد ومدرسة " الخنقة" و" ابراهيم الحركلي" الذي نقش جامع " كتشاوة" و" اللبلابشي" الذي زين باب جامع" بتشين" بأنواع النقوش البديعة وغيرهم.(6)

      ويبدو أن فن التصوير  لم يكن منعدما  كما يعتقد الكثير  وأن المصور الجزائري  كان  يتقن  تمثيل الأشياء كما تبدو للعين  مع مراعاة النسب  والقياسات وتناسق الألوان وما إلى ذلك  مما يتطلبه الرسم التشبيهي  بدليل اللوحة التي خلدت معركة الجزائر مع الانجليز سنة 1824م  وقد أنجزت هذه التحفة الفنية بأيد جزائرية تلبية لطلب حسن باشا الذي احتفظ  بها في قصره إلى أن وقعت في يد " دي بورمون" قائد الحملة الفرنسية  على الجزائر سنة 1830م  فسلمها إلى  قائد الأركان " تولوزي" وقد وضعت نسخة منها في مكتبة الجزائر في حين اختفت  اللوحة الأصلية  وجهل مصيرها(7).

       وبلغ الجزائريون من كمال العمران وكثرته وتوفر دواعي  الترف والثروة ما  جعلهم يولون  اهتماما بالغا  بالعلوم والفنون والتأنق في الصنائع والتنافس في طلب  الكماليات وازدهرت الفنون وبلغت أوج عطائها من  عمارة  وزجاج و خزف ونحت ونقش  وما إلى ذلك.

       وتطور  نوع من أنواع  التصوير الشعبي المستلهم من  القصص الشعبي  والديني لتزيين  البيوت والمقاهي والمحلات وأظهر الفنان الجزائري شغفا  بتمثيل الكعبة المشرفة والسيد  علي بن أبي طالب وهو يضرب رأس الغول بسيفه أو رفقة ولديه الحسن والحسين رضي الله عنهما والبراق والمعراج وصورة سيدنا ابراهيم عليه السلام والفداء وكانت هذه  الرسوم غالبا ما تنجز على  الزجاج بمختلف أنواع الأحبار  ومسحوق الذهب والفضة(8).

    وأما الجداريات  فكانت تمثل مناظر مختلفة لمدينة القصبة  وتخلد المعارك  اتي خاضها الأسطول الجزائري ضد الأوروبيين.(9)



العامل الاستعماري:

 وإذا عدنا إلى الحديث عن أسباب وعوامل  انسلاخ  الفنون التشكيلية عن صناعة البناء انسلاخا شبه كلي فإن هذا يجرنا  إلى الحقبة الاستعمارية التي أوشك المستعمر الفرنسي فيها  على  المحو الكلي للصنائع  المحلية الموروثة وعلى رأسها صناعة البناء والتصوير والنقش والنحت  وكان هذا ضمن  سياسة استدمارية الهدف الرئيس منها هو اجتثاث  جذور الشعب الجزائري من الأعماق والقضاء على حضارته وقطع صلته بماضيه العريق ومحو تاريخه لتدخل في روعه أنه شعب  متخلف وهمجي وتبرر تواجدها في أرضه بجلب الحضارة إليه.

    وقد استهدفت  العمارة بالدرجة الأولى إذ من البديهي  أن تحطم المدن  والمآثر العمرانية بفعل دمار الحرب والإرهاب ويختفي عدد كبير من البناة المهرة إما بالموت أو  بالهجرة إلى الخارج بعد عسر التكسب من هذه الصناعة وقلة الطلب عليها  لضيق ذات اليد وانتشار البؤس والفقر في المجتمع الجزائري. وبالموازاة مع هذا  كانت المدينة  الاستعمارية  تتوسع كل يوم  أكثر فأكثر بطرازها المعماري الفرنسي الذي صبغ المدن الساحلية بصبغة غربية  وأخذ يتسلل إلى  أعماق البلاد في ظرف قياسي

      وعملت فرنسا أيضا في مشروعها الاستعماري الثقافي  بالدرجة الأولى على  القضاء على الفنون الشعبية  الجزائرية باعتبارها معيارا لعراقة الشعوب وشاهدا على استبحارها في الحضارة آنفا ذلك أن الفنون كما وضح ابن خلدون هي عوائد  للعمران والترف تستحكم صبغتها بالتكرار وطول أمد الحضارة.

      وهكذا فإن الاستعمار الفرنسي للجزائر لم يكن  استعمارا اقتصاديا وسياسيا فحسب بل  استهدف  على وجه الخصوص الدين والثقافة  لأنهما الركيزتان الأساسيتان اللتان يقوم عليهما هيكل  حضارة الشعب الجزائري المسلم ولا يمكن أن تستقيم الأمور لفرنسا في البلاد وتهدأ النزاعات  والمقاومات الشعبية إلا  بعد استئصالهما أو  إفسادهما.

     وقد استهدف الدين الإسلامي بالدرجة الأولى لأنه أصلب الدعامتين  وله قدرة عجيبة على  بعث الحضارة من رمادها وهو الجهاز المناعي الذي يحمي  المجتمع من التفكك يقول المقدم الفرنسي فيلو :"  كم كنا على حق  حين كتبنا  سنة 1871 م  أن دور الإسلام لم ينته  في العالم فعلى الرغم من  اندثار  معالم الحضارة الإسلامية المتألقة في  بغداد ودمشق  فإن العالم الإسلامي بقي سليما"(10)

      وهكذا  تعرضت المآثر  العمرانية الجزائرية إلى التدمير بفعل الاستعمار الشرس الذي انتهج سياسة  التفقير والتقتيل والتهجير و التجهيل والتدمير فسلب الأراضي  والممتلكات وأغلق المدارس وهدم المساجد ،  ونذكر  على سبيل المثال  مسجد السيدة  الذي  هدم سنة  1831 واستخدمت أعمدته الرخامية البيضاء في  بناء الممر الطويل المسقوف ذي العقود الذي شيده المدانون العسكريون للعقيد " مارينغو" سنة 1837م ويظهر في العديد من اللوحات الاستشراقية التي تمثل طريق البحرية.(11)

وفي غمرة هذه الظروف المؤذنة بالفناء يمكننا أن نتصور حجم الكارثة التي حلت بفن العمارة والنحت والنقش والتصوير وما إلى ذلك  حيث لم  يكن الاستعمار الفرنسي عاملا أساسيا  في سلخ العمارة عن توابعها المتمثلة في الفنون التشكيلية الشعبية فحسب بل كان  وبالا على  الفنون والصنائع كلها وسببا في اقترابها من الزوال .



أسباب وعوامل  تجرد العمارة الجزائرية من فنونها التشكيلية بعد الاستقلال:

     وبعد أن نجحت الجزائر في افتكاك سيادتها واستقلالها استفاقت على  تركيبة ثقافية  وحضارية مشوهة تراوح بين الثقافة والحضارة  الغربيتين  وبقايا أشلاء  الثقافة والحضارة  الموروثتين. وكان الطراز المعماري الغربي  قد غزى المدن وحولها إلى مدن  تحاكي المدن الأوروبية لإسكان المستوطنين وأما الجزائريون فانحصروا في أحيائهم الأثرية كالقصبة والقصور الصحراوية القديمة أو في أحياء فقيرة للكن أو في القرى والأرياف وبطرد المستوطنين استحوذ الجزائريون على  المساكن الأوروبية التي لا تمت لتقاليدهم ولا لأساليب حياتهم بأي صلة.

      وكان على الدولة أن تلملم جراحها  وتسيطر في الوقت ذاته على النمو الديمغرافي فانتهجت سياسة تنموية في مجال العمران لبناء المدارس والمساجد والمستشفيات      و التجمعات السكانية وما إلى ذلك من متطلبات الحياة الاجتماعية وكانت أولى الأولويات هي توفير  المأوى للكن، فلم تلتفت هذه السياسة إلى البحث في الفلكلور وتوظيف مادته في الحياة والاحتفاظ بها ومعها بالطابع والشخصية و " إعادة صياغة المادة الفولكلورية صياغة عقلانية توظف فيها آثار العصر الاجتماعية وتقنياته العلمية وأدواته واحتياجاته "(12)

  بمعنى أن هذه السياسة لم تبحث عميقا في تراثنا لتستثمر ما فيه بطابع معاصر وتفرض على الحداثة إنتاجا جديدا   يعبر عن  الأصالة والانتماء القومي والحضاري والتاريخي   ليس بالمحاكاة والتقليد الأعمى إنما  بالابتكار والإبداع ، وهكذا أنشأت  تجمعات سكنية ترتفع في طوابق مجردة من أي لمسة فنية تدق في ذاكرة النسيان لتذكر بالماضي العريق كما استعمل في بنائها المواد الأولية  المتوفرة في الأسواق من اسمنت مسلح وحديد بدل الطوب والحجر ولم تفكر هذه السياسة آنذاك في تحديث العمارة  القومية وضرورة الحفاظ على الخصائص الأولية لفن البناء التقليدي والشعبي والاقتراب من الخامات البيئية ، و كانت مهتمة بالدرجة الأولى بالقيام من تحت  الردم وكسر قيود التخلف وإعادة الإعمار في ظرف قياسي بغض النظر عن  نوعية هذا الاعمار  وجمالياته وارتباطه  بفنونه الأصيلة وفلكلوره ولم يكن أمامها متسع من الوقت لانتظار ما يمكن أن تسفر عليه الدراسات والأبحاث في هذا المجال

     وحتى فيما يخص  المنشآت الفردية أي المنازل الشخصية فإن  صاحب البيت يتقيد بالمواد التي تفرضها السوق وبالتخطيط الذي  يقترحه المهندس الأكاديمي الذي تلقى تعليمه وفق التعليم الغربي  ، و لا ينفذ من أسر  نمط تنفيذ البنّاء المعاصر  فيحصل على  منزل يندرج ضمن نفس الطابع الذي انتهجته سياسة الدولة.



 تفاقم مشاكل العمارة المعاصرة وانعكاساتها على المجتمع:

      وما يثير الانتباه  أن  مالك العقار حين يستلم شقته الجديدة في عمارة ما  نراه  غالبا ما  يسعى إلى  إضافة  بعض اللمسات الجمالية عليه كالقيام  بإلصاق قطع الجبس المنقوشة في أركان سقف الحجرة أو تغطية جدار الرواق  بقطع الخزف المزخرف أو تعليق بعض اللوحات الفنية  والآيات القرآنية المكتوبة بخط جميل وهذا لما جبلت عليه نفسه من كراهية للفراغ  وحب الجمال ولحاجة في نفسه تدعوه إلى التمسك بفنه الموروث.

      ويفسر هذا بكون العمارة  التقليدية بما تتضمنه من فنون تشكيلية شعبية ليست مجرد مأوى للكن إنّما هي عطاء ملموس  لثقافة مادية تعكس الجوانب الروحية والعادات والتقاليد فهي " الفن الذي يتشكّل  وبتشكّله يحتضن الإنسان ويعيش معه أطوار حياته وحياة الآخرين فالعمارة التقليدية لا توجد هنا أو هناك وإنما في كل مكان وجد فيه مجتمع : في المدينة  في القرية في الصحراء في الثقافة في الحضارة في العمل ولذلك فإن  نوعية العمل والبيئة والمجتمع تقف وراء الطابع والشخصية في التصور البنائي والجمالي والوظيفي للعمارة التقليدية"(13)

       ويشير المهندس حسن فتحي أننا نشكل البيت في الوقت نفسه الذي يعود فيشكلنا  بوصفنا أفرادا وننشئ المدينة فتشكلنا بوصفنا مجتمعا(14)  كما يوضح  أهمية  خصوصية العمارة التقليدية بتساؤله إن كان من الممكن  نزع حيوان القوقع من قوقعه لإسكانه في قوقع حيوان آخر؟

 إن هذا يؤدي لا محال إلى تشوهه ومن ثم  موته، و بالنظر إلى هذا والقياس عليه  فإن  حلول الطابع المعماري الغربي  الدخيل الذي ورد مع الاستعمار الفرنسي وازداد سوءا بعد الاستقلال وتجرده من أي لمسة فنية  تذكر بالماضي الحضاري والانتماء التاريخي والقومي، وإرغام الشعب االجزائري على التكيف معه  هو جرم في حق الشعب  أبشع من إسكان حيوان القوقع في قوقع غيره ،ذلك أنهّ تمخض عنه تشوه في الشخصية والعادات والتقاليد وانفصال عن الماضي  مما  قد يؤدي إلى نتائج وخيمة لا ندرك عواقبها.

  فلا أحد ينكر أن المدينة والمجتمع  تشوها معا وهذا لكون  الأسس والقيم المستعملة في تخطيطها وعمارتها أسس  وقيم غريبة ودخيلة طبقت  دون  دراسات مسبقة متأنية للعادات والسلوكيات وأساليب الحياة و بعث الحيوية  الضرورية  لهذه المجتمعات العمرانية الجديدة.

       وظلت المدينة تتخبط في تخطيط عمراني غير واع و توسعت  وفق مقتضيات  حاجة الناس وظروفهم وليس عن سابق  دراسة وتخطيط وأصبحت كالقرية المنفوخة حيث لا يمكن للمتجول فيها  أن يصادف  شوارع وبنايات جديدة كتلك التي خلفها الاستعمار  ولا أصيلة كأروقة القصبة التي  أبهرت الزوار  والمهندسين الأوروبيين وعلى رأسهم المهندس لوكوربيزيي الذي أشاد بعبقرية بناتها وبسحر جمالها ، فقد فقدت المدينة الجزائرية  شكلها الجميل والبسيط الذي كان يجذب السواح المستشرقين وفنها التشكيلي الشعبي الذي أفرزته الثقافة الشعبية الجزائرية مع الأيام والعصور وحل محل هذا الطراز المعماري الذي كونته الثقافات المتعاقبة أسلوب غريب  يحمل مزاياه ومشاكله دون أن يكون بمقدورنا تمييز هذه المزايا والمشاكل فهو طراز  هجين دخيل ترفضه الأصالة رفضا عنيفا.

الحلول النظرية :

     إن صناعة البناء هي فن وعلم وتكنولوجيا وفي الوقت الحاضر  تجردت  العمارة التي تسمى معاصرة تماما من العناصر المعمارية التقليدية التي ألفها الناس  في الماضي واستغنت  عن فنون التزيين والتنميق التابعة لها ، و" تفاقمت  مشاكل المدينة الحديثة التي استوردت مع مستوردات المعرفة العصرية دون أن تتكيف مع ثوابت الحياة في مجتمعنا"(15)   مما دفع  أهل الاختصاص  إلى القيام بدراسات متوالية لم تخرج  نتائجها  من بوتقة ضرورة العودة  إلى العمارة التقليدية  التي تحقق الحاجات والضرورات السكنية والصحية والاجتماعية وترسخ الثقافة والتقاليد المحلية. وندرج على سبيل المثال ملتقى اليونسكو حول الفنون العربية وعلاقتها بالعمارة الذي انعقد في المركز الثقافي الدولي بالحمامات في 27/4/1978  وندوة اليونسكو حول المدينة الإسلامية التي أقيمت في جامعة كمبردج ( مركز الشرق الأوسط) وما إلى ذلك(16) 

         ونظريا  فإن الحلول مهما تعددت وتنوعت فإنها لا يمكن أن تتعدى في اعتقادنا   ضرورة  التقيد باستطلاع  رأي الناس  في منهج مسحي و دراسة جادة لتقاليدهم وعاداتهم  ومعايشتهم في قرارهم وكذا بلورة احتياجاتهم حسب متطلبات  ظروفهم الخاصة.

      كما يجب مقاطعة كل أنماط العمارة البعيدة عن الذوق العام والمجردة من  القيم الجمالية والتي لا تراعي ترسيخ التقاليد والعادات الجزائرية

      ومن المهم أيضا  إعادة بعث  الأشكال المعمارية الموروثة والفنون التشكيلية الشعبية  وهذا  بالتأسيس لدراسات مستقبلية تهتم بتطوير قطاع الصناعة التقليدية وإعادة تأهيل الحرفيين في مجال  العمارة التقليدية وفنون تزيينها

     و ترقية (نظام الإنتاج المحلي)   وهو مجموع الحرفيين الذين يمارسون نفس الحرفة أو ينتمون  إلى نفس المجموعة الإنتاجية  وتجمعهم علاقة تعاون وتبادل  جوارية  منسقة للاستفادة من مشاريع جماعية مشتركة   وتعزيز هذه الشراكة  للرفع من تنافسية النشاط الحرفي وضمان حصص الحرفيين المهرة  في الأسواق (17)

    و القيام بأبحاث ودراسات  جامعية جادة على مستوى كليات الهندسة المعمارية والفنون التشكيلية للتوفيق بين مواكبة العصر والمحافظة على الموروث الشعبي والتقاليد الأصيلة من حيث التصميم ومواد البناء والتزيين

     ولابد أيضا من العمل على خلق عمارة بيئية يراعى فيها المناخ والجغرافيا         و تستغل  في بنائها  الخامات الطبيعية المحلية لاكتساب روح المكان ، و يؤخذ فيها الطابع القومي والقيم الجمالية بعين الاعتبار بتوظيف الفنون التشكيلية الشعبية في عناصرها المعمارية،  ذلك أنه في التعبير الإنشائي من المهم إبراز قدرة الإنسان على التشكيل الفني والتنوع في  الطرز مع المحافظة على  وحدة الثقافة ومراعاة التقاليد والتعبير عنها بشكل يؤكد الرسوخ في المكان لإبراز ا لدلالة  المشتركة لأفراد المجتمع الواحد كما  وضح الفنان  جودت عبد  الحميد(18)



     و على أي حال فإنّ إشكالية تصميم عمارة  قومية معاصرة وضرورة المحافظة على الطابع والشخصية  وإعادة  توطيد صلتها  بالفنون التشكيلية الشعبية أسالت حبرا كثيرا وتطرق  إليها الكثير  من المهندسين الباحثين من أمثال  المهندس حسن فتحي   و لوكوربيزيي  والمهندس الفنان  يحي الزيني ولكن هذه الدراسات النظرية  قد تصطدم بالواقع عند تطبيقها في بلادنا، إذ أن هناك  العديد من العوامل التي لا زالت تحول دون  تحقيق هذه النظريات ميدانيا:

1- لا زال الواقع المعاش يفرض الوتيرة السريعة  في إنجاز المنشآت السكنية لحل أزمة السكن التي تمخضت عن الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عرفتها البلاد لاسيما في العشرية السوداء وازدياد النزوح الريفي وهذا لا يترك مجالا للتفكير في عمارة قومية معاصرة قد تتطلب نوعا معينا ونادرا من الأخصائيين المهرة العارفين  بالأساليب التقليدية والمعاصرة معا على أن اليد العاملة في ميدان الفنون التشكيلية الشعبية مكلفة وهذا يتعارض مع السرعة في القضاء على أزمة السكن

2- تسلم مشاريع البناء إلى مقاولين أجانب من آسيا وأوروبا للإسراع  في إنهاء المشروع في زمن قياسي وهؤلاء لا علاقة لهم البتة بهذه الإشكالية ولا بالبيئة ولا التقاليد

3-كما أن  ( نظام الانتاج المحلي)  ، لا زال يصارع من أجل إدماجه وتفعيله في الممارسات العادية للقطاعات المرتبطة بحرف مجالات البناء  ويبحث في سبل التوصل إلى إمضاء اتفاقيات مع الاتحاد العام للمقاولين الجزائريين وإنشاء تجمعات مهنية أخرى لها صلة بقطاع البناء  (19)

3- إن الفنون تجد مرتعها الخصيب إذا استوفى العمران وضروريات الحياة وكثرت دواعي الترف والثراء وارتفع المستوى المعيشي للالتفات إلى الكماليات وهذا لم يتحقق بعد في بلادنا

4- هذا بالإضافة إلى تسرب الذوق الغربي المعاصر إلى المهندس والبناء الجزائريين

5- قلة  المواد الأولية  التقليدية في الأسواق الجزائرية سواء المستعملة في البناء أو في الفنون التشكيلية  يحول دون تحقيق مشروع عمارة قومية معاصرة تجمع بين الأصالة والحداثة

6- الركود السياحي الذي عرفته الجزائر لاسيما في العشرية السوداء ساهم في عدم التفات السياسة التنموية في العمران  إلى تشجيع وتحقيق مشاريع عمرانية قومية تجلب السواح كما هو الحال عند جارتينا المغرب وتونس



   وفي النهاية لابد من القول أن هذا لا يمنع من الاجتهاد في إيجاد الحلول المناسبة  وتحسيس الطلبة الجامعيين في كليات الهندسة والفنون التشكيلية بهذا الاشكال لا سيما في النظام الجديد ل.م.د الذي له علاقة مباشرة  مع احتياجات سوق العمل  .

  

الهوامش

  1 -سعيدي محمد " الادب الشعبي بين النظرية والتطبيق" ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون الجزائر  1998 م ص 9

 2- المنجد الأبجدي " دار المشرق " بيروت لبنان المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر ط8 1990م  

3- هديل بسام زكارنة " مدخل في علم الجمال" المكتبة الوطنية ، الأردن 1993 م ص 12

 4- عبد الرحمان بن خلدون " مقدمة ابن خلدون" ض.ش. ت.  محمد الاسكندراني دار الكتاب العربي بيروت لبنان  2006  ص 361-381- 379-386-[1]

5- ابو القاسم سعد الله " تاريخ الجزائر الثقافي من القرن 16-20م  ج2  المؤسسة الوطنية للكتاب  ط2  الجزائر  1985  ص 461

 6-المرجع نفسه  ص 463-464   

7- المرجع نفسه ص 464

 8- ابراهيم مردوخ مسيرة الفن التشكيلي بالجزائر " وزارة الثقافة  ط1 2005 ص 19

9- المرجع نفسه  ص 20

10-E.Villot « Mœurs coutumes et institutions des indigennes de l’Algerie . » edition Adolphe Jourdan 1880 p8

 11-Marion Vidal-Bué « Alger et ses peintres »  p 160

 12- هاني ابراهيم جابر " الفنون الشعبية بين  الواقع والمستقبل" الهيئة المصرية العامة للكتاب ب.ت ص 137

13- المرجع نفسه ص 138-139

14- المرجع نفسه ص 139

15عفيف بهنسي " الفن الحديث في البلاد العربية " دار الجنوب للنشر اليونيسكو تونس 1980 ص 125[1]

16- المرجع نفسه الصفحة نفسها

17-حسب تصريح فخامة السيد رئيس الجمهورية للمشاركين في أشغال الجلسات الوطنية للصناعة التقليدية في نوفمبر 2009 المرجع نفسه ص 143.

عفيف بهنسي " المرجع السابق" ص 143

19-حسب ما ورد في اليوم الدراسي المنظم من طرف غرفة الصناعة التقليدية والحرف بمستغانم حول " نظام الانتاج المحلي ودوره في التنمية المحلية  في 07 نوفمبر 2010م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المصادر والمراجع



*- ابراهيم مردوخ" مسيرة الفن التشكيلي بالجزائر " وزارة الثقافة  ط1 2005 م

*-أبو القاسم سعد الله " تاريخ الجزائر الثقافي من القرن العاشر إلى الرابع عشر الهجري 16-20م" المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1985 م

*- سعيدي محمد " الادب الشعبي بين النظرية والتطبيق" ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون الجزائر  1998 م

*- عبد الرحمان بن خلدون " مقدمة ابن خلدون" ض.ش. ت.  محمد الاسكندراني دار الكتاب العربي بيروت لبنان  2006م

*- عفيف بهنسي " الفن الحديث في البلاد العربية " دار الجنوب للنشر اليونيسكو تونس 1980 م

*- هاني ابراهيم جابر " الفنون الشعبية بين الواقع والمستقبل" الهيئة المصرية العامة للكتاب ب.ت



*- هديل بسام زكارنة " مدخل في علم الجمال" المكتبة الوطنية الأردن 1993 م ص



 المنجد الأبجدي " دار المشرق " بيروت لبنان المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر ط8 1990م[1]



*- E.Villot « Mœurs coutumes et institutions des indigennes de l’Algerie . » edition Adolphe Jourdan 1880

*-Marion Vidal-Bué « Alger et ses peintres »  1830-1960 EDIF 2000



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح