عنوان المداخلة : نظرية الفن للفن وأزمة التلقي في المسرح الجزائري / د . قجال نادية جامعة مستغانم
عنوان المداخلة : نظرية الفن للفن وأزمة التلقي في المسرح الجزائري
د قجال نادية
جامعة مستغانم
جامعة مستغانم
حين نتأمّل نظرية الفن للفن يتجلّى لنا أنها المصدر الأساسي لأزمة التلقي في الفن الحديث بشكل عام و المتسبب الرئيسي في اتساع الهوة بين العرض المسرحي والجمهور في العالم عموما والجزائر خصوصا
مفهوم نظرية الفن للفن
تعد نظرية الفن للفن من أهم النظريات المضادّة لنظرية الانعكاس ذلك أنّها تقوم أساسا على فكرة وجوب بتر الصلة بين الفن والمجتمع وبزغت أفكارها إلى الوجود في مطلع القرن التاسع عشر كنوع من الهروب من الواقع وتبعاته حيث أغفل الفنانون مطالب عصرهم وأهملوا الأهداف الاجتماعية والأخلاقية وانشغلوا بخلق فن هو صورة الترف في ذاته
وتسمى هذه النظرية أيضا بالبرناسية نسبة إلى جبل البرناس اليوناني حيث تقيم آلهة الشعر حسب زعم الأسطورة اليونانية وقد تسمى أيضا بالتعبيرية وهي تسمية شاعت في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الاولى
ومهما تعددت تسمياتها فإنها تبقى النظرية التي تحثّ على تخليص الفن من النفعية والغائية وتحريره من أي ارتباط فكري أو فلسفي أو ديني أو أخلاقي ،بمعنى أنها نظرية قائمة على فلسفة لا دينية تنبذ القديم وتناقض النظرية الانعكاسية المؤيدة لوظيفة الفن الاجتماعية التنويرية والإصلاحية و تناقض أيضا المذهب الرومانسي الذي يعتبر الفن وسيلة للتعبير عن الذات مصرّة أن الفن يجب أن يكون هدفا في حد ذاته يستأثر على أي هدف آخر أي أن يكون الفن مطلوبا لذاته
فالرسام في البرناسية يرسم لأجل الرسم ،والمسرحي يعرض للعرض ،والكاتب يكتب ليكتب ،دون الاكتراث للمضمون أو الموضوع
إذن أنصار نظرية الفن للفن يرون أن الأدب والفن ضرب من الترفيه والتسلية والمتعة الجمالية وليس ثمة داع للتقيد بوظيفة التهذيب والتربية والتعليم كما يفعل دعاة النظرية الانعكاسية لأنه نشاط مطلوب لذاته تحقيقا للشعور بالمتعة والجمال .
ويعد كانط 1804 المنظر المؤسس لهذه النظرية حيث دافع عن تحرر الفن مما قد يتلبّس به من أفكار وفلسفات أو أخلاق أو قيم اجتماعية أخرى وتجدر الإشارة أنه اعتنق البوذية تاركا المسيحية.
ونذكر من أنصارها الفرنسي شارل بودلير 1821-1867 المعروف بتحمسه لفكرة الفوضى الجنسية والمطالبة بها ، و تيوفيل جوتييه 1811-1872 ومالا راميه 1842-1898 الذي استمات في الدفاع عن النظرية و هو من أعمدة المذهب الرمزي.
و كانت فرنسا المهد الحاضن لهذه النظرية والمرتع الخصيب لرواج أفكارها بعد ثورة الفرنسيين على الكنيسة وانتشار العلمانية، ثم انتقلت النظرية إلى الدول الأوروبية الأخرى .
ويمكننا تلخيص مبادئ نظرية الفن للفن فيما يلي:
1-لا يجب على العمل الفني أن يكون نفعيا ، فالفنان ليس عالما ولا فيلسوفا ولا أخلاقيا، وكل ما يطلب منه هو تحقيق التكافؤ بين ما ينتجه وما يشعر به أي عدم تقيد الفن بالتعليم والتوجيه.
2-الاهتمام بالشكل على حساب المضمون أو الموضوع ، بمعنى أنّ المنتج الفني أو الأدبي يقيّم وفق معايير تراعي الشكل وجمالياته ولا تعبأ بالمضمون
وبرر أنصار نظرية الفن للفن الاهتمام بالشكل على حساب المضمون، وتجريد الفن من النفعية والوظيفة الاجتماعية ، بزعمهم أن إثارة الحس الجمالي و إيقاظ الشعور بالمتعة في الجمهور يعدّ وظيفة اجتماعية ، لأنّ هذه الإثارة تجعل الناس يطلبون حياة أفضل وأسمى، ويعد العقاد أحد المتحمسين لهذا الرأي.
وقد لقيت هذه النظرية قدحا و نقدا لاذعا لانحرافها عن العقل والوعي
وقاد سارتر حملته الساخرة ضدّها ، و أكّد أنّ أتباع نظرية الفن للفن يضعون أنفسهم على هامش المجتمع ، فهم مجرد طلاّب متعة يقدّمون أعمالا بلا جذور لا تخدم شيئا البتة ،ونعتهم بنكرات القرن الأخير الذين اتخذوا من هذه النظرية ذريعة لأنّهم رفضوا انتهاج التجديد والبحث لإبداع عمل قيم
البرناسية تؤسس أولى لبنات أزمة التلقي
و لمّا كثر نقاد البرناسية انطوت على نفسها وضيق عليها الخناق لكنّها تركت بذور ديمومتها لتتوارث مذاهب الحداثة وما بعدها أفكارها ، لذلك تعتبر أمّا للفن الحديث .
وهكّذا وضعت هذه النظرية اللبنات الأولى لأزمة التلقي التي تفاقمت بمرور الوقت واشتدّت في مذاهب الحداثة وما بعدها ،وهمّش الجمهور بقطع سبل التواصل والإصرار على الغموض وإهمال المضمون .
وتعتبر مسرحية سالومي لأوسكار وايلد ثمرة من ثمار البرناسية حيث جسدت إلغاء الاعتبارات الدينية وانتهكت المبادئ والأخلاق إلى درجة جعلتها شبه ممنوعة من العرض في أوروبا، وأقبرت ضمن طيات أرشيف الأدب العالمي باعتبارها تجاهر بعدوانيتها للسامية .
وتصور المسرحية أحداث قصة وقعت عام 30 بعد الميلاد في منطقة الجليل بفلسطين أيام الحكم الروماني تحت قيادة هيرودوس ، بطلتها سالومي بنت هيروديا ، وهي المرأة التي وقعت في حب النبي يحي عليه السلام وحاولت إغواءه بدون جدوى ، فقررت الانتقام منه و طلبت من عاشقها وزوج والدتها هيرودوس قتله كشرط للقبول به فأتاها برأسه في طست.
وتحدث الكتاب المقدس عن سالومي دون ذكر اسمها ففي إنجيل متى " ثم لما صار مولد هيرودوس رقصت ابنة هيروديا في الوسط ، فسرّت هيروديا. ومن ثم وعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها . فهي إذا كانت قد تلقت من أمها ، قال أعطني هاهنا على طبق رأس يوحنا المعمدان . فاغتنم الملك . لكن من اجل الأقسام والمتكئين معه أمر أن يعطي فأرسل وقطع رأس يوحنا في السجن ، فأحضر رأسه على طبق ودفع للصبية"
وتعرض المسرحية مشاهد غرامية تصور الحب الشهواني العنيف وتفتقر في الوقت ذاته إلى المبررات التي تقنع المتلقي بهذا الحب مما ترك الجمهور في حيرة.
مسرح العبث من مخلفات نظرية الفن للفن
ويعتبر مسرح العبث من مخلفات هذه النظرية وظهر في الخمسينيات من القرن العشرين ويعد مارتن إسلن أول من أطلق تسمية " مسرح العبث " في كتابه مسرح العبث 1962 بينما يعتبر الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي 1942 اول من استعمل تسمية العبث لوصف فراغية وجود الإنسان في روايته الغريب.
و ظهر هذا النوع من المسرح في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل لما خلفته وحشية الحرب وما كابده المجتمع من ذعر، وقلق ، وضياع، وفراغ روحي وفقدان للمبادئ والقيم والوازع الديني ، فترجم مسرح العبث الحياة بلغة اخترقت القواعد النحوية لتصبح مجرد لغو وثرثرة تأكيدا لفكرة عبثها وعدم جدواها في التواصل والحوار في مشاهد تخلو من الشخصيات الواقعية ولا تعتمد على التسلسل المنطقي للأحداث ، فلا تتحدد فيها معالم الصراع والأطراف والأبعاد، ولا تتضمن حبكة ذات بداية ووسط ونهاية،
وهكّذا قطع مسرح العبث كلّ سبيل للتواصل مع المتلقي ولم يبق من العرض سوى الشكل.
فما الذي يفهمه الجمهور من نص بلا معنى وعرض بلا غاية؟ أو بالأحرى كيف نطلب من المتلقي التفاعل مع أشخاص يتحركون ويتكلمون بعشوائية أو بعبث ؟
أليس في هذا إلغاء للمشاهد ؟ ألم يكن مطرودا منذ أن كتب كاتب النص الجملة الأولى المفرغة من معناها فالخطاب في مسرح العبث لا يعني شيئا غيرعبارة :" أيها الجمهور أقبل إلى قاعة العرض أنت مدعو إلى القطيعة ، ترى ما لا يعنيك وتسمع ما لا تفهم تعال كي لا نتواصل معك والمطلوب منك هو التصفيق"
وهنا لم يعد المتفرج يساهم في إنتاج المعنى فالمسرح عزف عن إرسال أي رسالة للمتلقي مع أنّ المتفرج هو " العنصر الأساسي أو هو "الملك" كما يشرح أوبر سفيلد، ويفترض أنّه من أجله يكتب المؤلف النص، ويصمم المخرج العرض، ويجري الممثل تعديلات جزئية عند كل عرض بالنسبة للجمهور الجديد ،على أن يؤخذ بعين الاعتبار المرجعية الثقافية في تحديد علاقة المتفرج بالعرض.
وإذا كان من الغريب اقتناع دعاة مسرح العبث والبرناسية من الأوروبيين الذين تذرعوا بتأثير بشاعة الحرب لإعلان القطيعة بين الفن والمجتمع وإهمال الوظيفة التعليمية وإقصاء الدين والأخلاق ، فالأغرب تبني العرب والمسلمين لهذه الأفكار والحذو حذوهم في إنتاج عروض لاغية مع أن الإسلام يأمر بالإعراض عن اللغو.
وظهرت في الجزائر في فترة الثمانينات فرق هاوية قدمت عروضا تندرج في حدود مسرح العبث
نذكر منها (فريق 70) بوهران الذي أنتج مسرحية "لعبة التقتيل" المقتبسة عن يونسكو وهي مسرحية تصوّر صراعا مع الموت ، في مشاهد متداخلة ومتفرقة بلا حبكة واضحة يطغى عليها طابع التوتر .
بالإضافة إلى فرقة (جمعية الكواكب) بسوق أهراس التي عرضت مسرحية الجدار سنة 1987 و تطرقت من خلالها لقضايا مختلفة كالسلم والعدالة ومكافحة الظلم واتخذت من السجن فضاء لأحداثها ورغم انطلاق العرض من أحداث اجتماعية واضحة فإنّها تبقى في الحقيقة مجرد اقتباس عن مسرحية جون بول سارتر وتندرج ضمن مسرح اللامعقول.
ونذكر أيضا فرقة الفن المسرحي بمستغانم التي قدمت مسرحية الكمال سنة 1988 وهي أيضا اقتباس عن مسرحية لعبة التقتيل للكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت
وما أوردناه عن مسرح العبث واللامعقول ينطبق على العديد من الأعمال التجريبية التي وجدت في مسرحنا المعاصر.بمعنى أن صفة الغموض وفراغ النص من محتواه شاعت في المسرح الجزائري مما ساهم في تفاقم مشكل التلقي.
ويرى الأستاذ بوشراكي عبد الحليم ، أن المسرح الجزائري لا يمكن أن يصل إلى العالمية لاقتصاره على العبث واللامعقول وافتقاره لقضايا جوهرية يدافع عنها .
وقد صرّح انّ ''العديد من الكتاب والمخرجين المسرحيين يلجؤون إلى معالجات وعروض لا يفهمها الناس، ولا يطرحون قضايا مرتبطة بواقع الناس. وعندما تستفسرهم عن الأمر يقولون إن مسرحهم من نوع اللامعقول الذي لا يفهمه إلا القلة والصفوة. ومع ذلك يقدمونه للجمهور الذي لا يفهمهم. عكس ما فعل عبد القادر علولة وولد عبد الرحمان كاكي اللذان طرحا قضايا بسيطة، ولكنها وثيقة الصلة بواقع الناس فنجحوا محليا وعالميا''.
والحقيقة أن علولة كشف من خلال ثلاثيته (الأقوال، الأجواد، اللثام) عن تجربة واعية تجمع بين الوجهتين التأصيلية والتجريبية حيث اعتمد على "القوال" باعتباره شكل من أشكال الفرجة المأخوذة من التراث الجزائري كما انطلق من شكل موجود وتعدّاه بتطوير آلياته الدرامية وهذا ما أهّله لانتزاع الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج الدولي تونس سنة 1985 عن مسرحيته الأجواد
وصرّح قائلا: "نبّهتنا تجربة عرض مسرحية المائدة سنة 1972 إلى وجود ثقافة شعبية تتعامل مع تراثها وتطالب ببنيات مسرحية أخرى"
و يشرح بوشراكي أنّ ''علولة دخل العالمية من خلال مسرحيات تعالج الحقرة والرشوة والبيروقراطية. وهي كلها مشاكل يعيشها المواطن ويعرفها. ومع ذلك كان يتوجه لمشاهدتها على المسرح تماما كما كان الناس يستمعون لقصص جحا التي سمعوها مئات المرات''.
كما يرى أنّ" علولة الذي تأثـر به مسرحيو العراق والأردن وفلسطين، وضع خريطة لمسرح اليوم مع كاكي، حتى إن البعض مازال يستعمل طريقة كلامه على خشبة المسرح."
والحقيقة أنّ ما قدّمه علّولة في تجربته المسرحية نموذج لعمل متكامل يجمع بين الإمتاع والإقناع فمتى تضافرت القيم الجمالية التي يتضمنها العمل الفني مع القيمة الاجتماعية يصبح للفن هدف أسمى من أن يكون لمجرد التسلية كما يشرح ابراهيم حجاج
ولا شك أنّ من ينتهج العبث واللامعقول وما إلى ذلك من مخلفات البرناسية لا يكترث بالتواصل مع الجمهور ويوصد الباب في وجه المتلقي و ترى الأستاذة صورية غجاتي أنّ هذا النوع من المسرح التجريبي"الذي يعتقد مسرحيونا أنه خروج عن المألوف، وأنه إنجاز لم يسبقهم أحد إليه. هو مجرد لعبة صبيانية استهلكت من وقتنا وجهدنا الكثير، وأعادتنا في آخر المطاف إلى أول سنة من درسنا المسرحي وهي مرحلة الاقتباس والنقل"
وترى أنّ هذا النوع من الإنتاج المسرحي هو:" وقوع جديد في شرَك التقليد والتبعية للغرب، فالأشكال السابقة وإن ظهرت في المجتمعات الغربية كرد فعل طبيعي لما لحقها من تطور في مجال التقنية العلمية، وكثورة على ما خلّفته الحرب الكونية الثانية من إحباط وانكسار زلزل كيان الإنسان الأوروبي عامة والمبدع خاصة فما هي حججنا، وما دوافعنا لاعتناقها وتبنيها؟"
إنّ هذا التقليد الأعمى المؤيد للغو و المناصر للتخلي عن الجوهر والمنشغل بالقشور ساهم في عزوف الناس عن دخول قاعات العرض المسرحي ووسع الهوة بين الممثل والمتلقي ، على أنّ المشاهد يتفاعل بصورة آلية بناء على ما تشبّعت به روحه من مبادئ وقيم وأخلاق وعادات وتقاليد وكل ما أفرزته ثقافة المجتمع والبيئة، ويزداد تفاعله كلّما اقترب المضمون من ثقافته سواء كان قضية اجتماعية أو حكاية شعبية أو قصة عاطفية أو واقعا معاشا أو ما إلى ذلك.
وحسب بوشراكي فإنّ ''كثيرا من المسرحيين لا يقتربون من واقعهم ومن القضايا الشائكة في المجتمع كالطلاق والعنوسة والعزوبية وغيرها. ويفضلون عرض مسرحيات من يشاهدها يعتقد أن الجزائر بألف خير. وهو أمر غير صحيح. وهذه المعالجة لا يمكن أن توصل صاحبها ذا الوعي المحدود بالواقع إلى العالمية. ومع ذلك نجد أن مثل هذه الأعمال هي التي تفوز في المهرجانات الوطنية مثلما شاهدنا في مهرجان المدية للمسرح المحترف''.
وفي الختام لا بد من التذكير أنّ المسرح يفترض أن يكون وسيلة للتواصل يجمع بين الإمتاع والإقناع ،وأنّ الإصرار على تبنّي الموضات العابرة التي أنجبتها البرناسية هو إصرار على مصداقية اللغو ولا شكّ أنّ من يفعل هذا لا يهتم بالمتلقي إنّما يبحث عن الإبهار وسرقة الأضواء بلا عناء ولا شكّ أنّه غير قادر على الابتكار والبحث عن أفكار جديدة لذا ينتهج الغموض لإخفاء ضعفه ويقترف بهذا جرما في حق المسرح لأنّه يفقده جمهوره و يقترف جرما في حق الجمهور بتنفيره من المسرح، فهو القطيعة عينها.
لاحول ولا قوة إلا بالله دكاترة بجهد غيرهم ..هذه المداخلة هي سرقة لمقال منشور للزميلة الأستاذة صورية غجاتي و أرجو أن تطلع على هذا خاصة و أن صاحب الصفحة فنان محترم يعرفه الجميع
ردحذفهذا نسخة من المقال بموقع ستارتايمز منشور سنة 2009
http://www.startimes.com/f.aspx?t=14368906
موضوع شيق متكامل شكرا للجهد العلمى المبذول
ردحذفموضوع شيق متكامل شكرا للجهد العلمى المبذول
ردحذف