المثقف رقيبا على المثقف / حميد عبد القادر
المثقف رقيبا على المثقف
12:17 13/10/2014
حميد عبد القادر
أيام زمان، كانت السلطة هي من تراقب المثقف. وتلك مهمة تقليدية تعوّد عليها المثقفون. قرأوا لها ألف حساب، فأوجدوا سلوكيات لمسايرة تلك الوضعية التاريخية، مثل اللجوء للرمزية والإيحاءات وغيرهما من المهارب للفكاك والتخلص من رقابة السلطة. كانت القواعد حينها واضحة، ما خلق تعاضدا وتكاتفا بين المثقفين، فسارت الأمور وفق ما تقتضيه العلاقة بين الطرفين. أما اليوم، فقد تغير الوضع، وبرز معطى جديد، بحيث كفت السلطة عن ممارسة الرقابة على المثقف، وتركت له كامل الحرية لقول ما يريد، لكن في المقابل أرى أن مهمة الرقابة أصبح يمارسها المثقف نفسه. مثقفون يراقبون مثقفين آخرين. ينغّصون عليهم حياتهم، ويحاولون تحطيمهم وتكسيرهم، عبر محاولة النيل من نزاهتهم، ونسج الأكاذيب حولهم؛ ففي ظل تراجع المشاريع الأيديولوجية، اختفت الخصومات الأدبية والفكرية التي انتشرت حتى في عز أزمة التسعينيات، فحلّت محلها ما أعتبره رقابة المثقفين لمثقفين آخرين، وتلك الرقابة مدعومة بشللية رهيبة وولاءات بغيضة. وأريد أن أتوقف عن هذه النقطة بالذات، فمسألة الولاءات أصبحت من أخطر المظاهر السلبية التي أثرت سلبا على حياتنا الثقافية وضربتها في العمق، وحالت دون تطورها تطورا طبيعيا. فهذه الشللية أوجدت مثقفا يتسم بصفتين، فهو من جهة “كلب حراسة”، يحرس أفراد شلّته من الكتّاب، بدليل أنه لا يشيد إلا بأعمال الشلة الضيقة التي ينتمي إليها. ومن جهة أخرى هو مجرد أداة لممارسة العنف على المثقفين الآخرين الموجودين خارج الشلة. فالشلة والحالة هذه أصبح لها دين وطقوس وممارسات وفلسفة يمكن اختصارها في ما يلي :«نحن الأحسن والأقوى. نحن الرواية الجزائرية برمّتها، وغيرنا مجرد غبار. نحن أدباء، وغيرنا تافهون”. هكذا تخلو هذه الشللية من أي أخلاق، وتتجرد من أي آداب معاملة، وتصبح مستعدة لفعل أي شيء لتحقيق التسلق الأدبي. وتصبح الكتابة عندهم، والحالة هذه، مجرد وسيلة للبحث عن الاعتراف والمكانة الاجتماعية بأقصى سرعة ممكنة، فالبطء الذي مجّده ميلان كونديرا، وربطه بماهية سعادة الإنسان، لا قيمه له. تجدهم في كل مرة يعنّفون من لم يحقق لهم هذا الوجود المُميز الذي يتوهمون أنهم أصحابه. لهذا لا نستغرب لما نرى أن سهامهم تتوجه بالأخص إلى رؤساء التحرير ورؤساء الأقسام الثقافية في الصحف، الذين لم يسايروا أطماعهم، ورغبتهم الجنونية في البروز والظهور “كأدباء عالميين”. فالوهم كثيرا ما يتحوّل إلى معتقد. والمعتقد من أخطر الأمور في حياة البشر، وتصرفاتهم. هذه الشلة الصغيرة عبارة عن عصابة خطيرة تعمل لتحقيق مآرب فئة ضيقة، ولا تخدم الرواية بتنوعها واختلافاتها، وتعددها. فالشاعر أو الروائي، حتى وإن كان كبيرا، يصبح عند هؤلاء غير موجود، لأنه لا ينتمي إلى الشلة. وبإقصاء هذا الآخر المختلف ومحاولة تهميشه تنقطع قنوات التواصل وتختفي النقاشات، ومعها الخصومات الأدبية والفكرية. إنها فئة ضيقة جدا، بعض أعضائها عجزوا عن التخلص من أفكارهم المتطرفة. ينظرون إلى الأدب من زاوية الجماعة، فهم “إخوان في الأدب”، فيمارسون العنف على غير المنتمين لفئتهم، وعلى الذين لا يسايرون جنونهم لإظهارهم في صورة “كتاب عظماء”. إن الجماعة، أي جماعة تمتاز بالتخندق، لا تملك سعة الصدر الذي يتسع للجميع، تنظر إلى الآخر كأنه عدو وليس خصما، ولا تتصرف وفق تصرفات النبل والنبلاء (صفة المثقفين الحقيقيين)، بل تملك ما يكفي من العنف لتحطيم من هم خارج الفئة والجماعة. لكن أنا متأكد من أن هذه الشلة سوف تزول يوما، لأن أتباعها قلة قليلة جدا، بحيث أرى أن الغالبية العظمى من كتّابنا يملكون من النبل والشهامة ما يكفي لجعل هذه الفئة تختفي لا محالة.
(*) جريدة الخبر: الجمعة 10 أكتوبر 2014
أيام زمان، كانت السلطة هي من تراقب المثقف. وتلك مهمة تقليدية تعوّد عليها المثقفون. قرأوا لها ألف حساب، فأوجدوا سلوكيات لمسايرة تلك الوضعية التاريخية، مثل اللجوء للرمزية والإيحاءات وغيرهما من المهارب للفكاك والتخلص من رقابة السلطة. كانت القواعد حينها واضحة، ما خلق تعاضدا وتكاتفا بين المثقفين، فسارت الأمور وفق ما تقتضيه العلاقة بين الطرفين. أما اليوم، فقد تغير الوضع، وبرز معطى جديد، بحيث كفت السلطة عن ممارسة الرقابة على المثقف، وتركت له كامل الحرية لقول ما يريد، لكن في المقابل أرى أن مهمة الرقابة أصبح يمارسها المثقف نفسه. مثقفون يراقبون مثقفين آخرين. ينغّصون عليهم حياتهم، ويحاولون تحطيمهم وتكسيرهم، عبر محاولة النيل من نزاهتهم، ونسج الأكاذيب حولهم؛ ففي ظل تراجع المشاريع الأيديولوجية، اختفت الخصومات الأدبية والفكرية التي انتشرت حتى في عز أزمة التسعينيات، فحلّت محلها ما أعتبره رقابة المثقفين لمثقفين آخرين، وتلك الرقابة مدعومة بشللية رهيبة وولاءات بغيضة. وأريد أن أتوقف عن هذه النقطة بالذات، فمسألة الولاءات أصبحت من أخطر المظاهر السلبية التي أثرت سلبا على حياتنا الثقافية وضربتها في العمق، وحالت دون تطورها تطورا طبيعيا. فهذه الشللية أوجدت مثقفا يتسم بصفتين، فهو من جهة “كلب حراسة”، يحرس أفراد شلّته من الكتّاب، بدليل أنه لا يشيد إلا بأعمال الشلة الضيقة التي ينتمي إليها. ومن جهة أخرى هو مجرد أداة لممارسة العنف على المثقفين الآخرين الموجودين خارج الشلة. فالشلة والحالة هذه أصبح لها دين وطقوس وممارسات وفلسفة يمكن اختصارها في ما يلي :«نحن الأحسن والأقوى. نحن الرواية الجزائرية برمّتها، وغيرنا مجرد غبار. نحن أدباء، وغيرنا تافهون”. هكذا تخلو هذه الشللية من أي أخلاق، وتتجرد من أي آداب معاملة، وتصبح مستعدة لفعل أي شيء لتحقيق التسلق الأدبي. وتصبح الكتابة عندهم، والحالة هذه، مجرد وسيلة للبحث عن الاعتراف والمكانة الاجتماعية بأقصى سرعة ممكنة، فالبطء الذي مجّده ميلان كونديرا، وربطه بماهية سعادة الإنسان، لا قيمه له. تجدهم في كل مرة يعنّفون من لم يحقق لهم هذا الوجود المُميز الذي يتوهمون أنهم أصحابه. لهذا لا نستغرب لما نرى أن سهامهم تتوجه بالأخص إلى رؤساء التحرير ورؤساء الأقسام الثقافية في الصحف، الذين لم يسايروا أطماعهم، ورغبتهم الجنونية في البروز والظهور “كأدباء عالميين”. فالوهم كثيرا ما يتحوّل إلى معتقد. والمعتقد من أخطر الأمور في حياة البشر، وتصرفاتهم. هذه الشلة الصغيرة عبارة عن عصابة خطيرة تعمل لتحقيق مآرب فئة ضيقة، ولا تخدم الرواية بتنوعها واختلافاتها، وتعددها. فالشاعر أو الروائي، حتى وإن كان كبيرا، يصبح عند هؤلاء غير موجود، لأنه لا ينتمي إلى الشلة. وبإقصاء هذا الآخر المختلف ومحاولة تهميشه تنقطع قنوات التواصل وتختفي النقاشات، ومعها الخصومات الأدبية والفكرية. إنها فئة ضيقة جدا، بعض أعضائها عجزوا عن التخلص من أفكارهم المتطرفة. ينظرون إلى الأدب من زاوية الجماعة، فهم “إخوان في الأدب”، فيمارسون العنف على غير المنتمين لفئتهم، وعلى الذين لا يسايرون جنونهم لإظهارهم في صورة “كتاب عظماء”. إن الجماعة، أي جماعة تمتاز بالتخندق، لا تملك سعة الصدر الذي يتسع للجميع، تنظر إلى الآخر كأنه عدو وليس خصما، ولا تتصرف وفق تصرفات النبل والنبلاء (صفة المثقفين الحقيقيين)، بل تملك ما يكفي من العنف لتحطيم من هم خارج الفئة والجماعة. لكن أنا متأكد من أن هذه الشلة سوف تزول يوما، لأن أتباعها قلة قليلة جدا، بحيث أرى أن الغالبية العظمى من كتّابنا يملكون من النبل والشهامة ما يكفي لجعل هذه الفئة تختفي لا محالة.
(*) جريدة الخبر: الجمعة 10 أكتوبر 2014
تعليقات
إرسال تعليق