من أمتع ما قرأت اليوم رواية "الحبيب السائح" الموْت في وهران / الدكتور عامر مخلوف


    من أمتع ما قرأت اليوم رواية "الحبيب السائح" الموْت في وهران / الدكتور عامر مخلوف



Amer Makhloufمن أمتع ما قرأت اليوم رواية "الحبيب السائح"
الموْت في وهران

في المعرض الدوْلي للكتاب، وفي الرواق حيث الركن الخاص بدار العيْن المصرية، كانت تغمرني نشوة فرح وأنا أرى الصديق "الحبيب السائح" يوقع روايته الأخيرة ،
نشوة مصدرها توافد الناس من الجنسيْن ومن أعمار متفاوتة يأخذون التوقيع ويلتقطون صورا تذكارية مع الكاتب، وهو لا يتردد في كتابة الإهداءات بخطه الجميل ولا يتعب أيضا من محاروتهم كلما اقتضى الموقف الحوار. فما أنبل أن يفرح المرء لصديق حالفه النجاح، وما أرذل أن يتلذَّذ إذا حدث وأن خيَّبه الفشل.
منذ عوْدتي، كنت أترقب الفرصة التي أقتطع فيها من وقتي لأطلع على نصه الجديد إلى أن عزمت هذا اليوم على أن أبدأ القراءة. ولم أكن أنوي أن أتجاوز بعض الفصول لولا أنني انجذبت بفعل المتعة فقادني الفصل الأول إلى الثاني ثم الثالث ثم الرابع، ولكن تأتي هوامش الحياة والطوارئ البدوية لتقطع عليَّ حبل القراءة فأخرج لأحسم الأمر مع الهوامش وأعود على عجل لمواصلة القراءة حتى أنهيْت فصولها السبعة.
وجدتني اليوم أدخل عالم وهران وأحيائها بأسمائها القديمة والمستحدثة، مقاهيها وحاناتها، أعرج نحو جبهة البحر وأسبح في البحر ، ألتقي نماذج بشرية بعقليات مختلفة وسلوكات طيبة ومكروهة، فتاة شابة يقهرها الوالد وتضطر لتجعل من جسدها سلعة تباع وتشترى، وشاب يقهره اليتم والفقر ويقوده شرفه إلى السجن، والدُه تضلله ظلامية القرون الوسطى فيغتال مدير المدرسة فيُقتل بدوْره. ويظل هواري لغزاً، يحاول أن يحل لغز والده وأجداده. ويحضر التاريخ وتحضر الثورة، يحضر من بقي وفيّاً ومن خان، إنه الموت في وهران إما شهادة في سبيل الوطن أو خيانة للوطن أو همّاً وغمّاً أو انتقاماً، أو تبديلا هجيناً للواجهات الجميلة والمحلات، إنه موْت الباهية التي لم تعد بهَّية كما عهدناها، كيف راحت خسارة، وما هي سوى صورة لوطن موبوء ، وقع فريسة بين الذئاب.
يصادف القارئ شخصيات لكل طبيعتها ولوْنها ودوْرها: هواري ، حسينة، جما الدين سعياد، بختة الشرقي،قاديرو، خصرو البومة، كبابة، المعلم الطاهر فراحي، وهيبة بوذراع، حذيفة الشيخ، عبدقا النقريطو، عيشة، ناصر العوْني، مريم بوخانة، عاشور بونعايم، احميدة الكلونديستان، مدير المدرسة ، الروجي، العارم، عبد الجبار معموري، نوار مصمودي، الدكتور قدور بن حوار، الضابط شحمة، العساس عمي البشير ، السرجينتي ، مصطفى، العربي بوذراع، خْوانا، بوذن، ابن القايد...الخ
كنت وأنا أقرأ الرواية ، تمر أمامي السوابق ومضات تزرع بذرات التشويق ولا تُستكمل إلا بلواحق تعزز متعة الكشف ، وهذا التناوب بين السوابق واللواحق، إنما هو تناوب بين اكتشاف المتعة ومتعة الاكتشاف، يعاشر فيها المتلقي أكثر من ثلاثين شخصية تتحرك جميعها فوق رقعة مشتركة ولكل موْقعها ودوْرها، ولا تنفلت من قلم الكاتب على كثرتها.
كما يصادف القارئ مفردات قد يتوهَّم أنها ليست من الفصيح، ومفردات أخرى مما هو متداول ولكن "الحبيب السائح"- وهو الذي يتقن اللغة العربية ويحرص على سلامتها ونقاوتها في كل ما يكتب- إذا وضع كلمة فإنما يضعها عن قصد ووفق ما يمليه السياق، وما الإبداع في نهاية المطاف إذا كان يقنع باجترار عمود تقليدي مألوف، ما قيمته إذا هو لم يحمل علامة التميُّز؟؟
فلا يسعني إلا أن أُهنئ الروائي "الحبيب السائح" على هذا الجهد المتميز، فهو إضافة نوعية إلى ساحتنا الأدبية وبالقياس إلى ما كتب من قبل. وكل أملي أن تسمح لي الظروف بالعودة إلى (الموت في وهران) بل إلى الحياة في عوالم التخييل وجمال اللغة، لأني متيقِّن من أنها رواية لا تُمَل، بل تعين على مزيد من المتعة والكشف.

الدكتور عامر مخلوف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح