واسيني الأعرج: مساهمتنا صفر في الإنتاج المعرفي / ساسي جبيل
العرب على هامش الإنتاج المعرفي وإذا لم يشتغلوا ستذهب ريحهم
واسيني الأعرج: مساهمتنا صفر في الإنتاج المعرفي
تاريخ النشر: الخميس 18 سبتمبر 2014
ساسي جبيل
باللغة بدأ هذا الحوار مع الروائي العربي واسيني الأعرج، بخياره في الذهاب إليها عاشقاً لا وارثاً.
وبالمرأة، وبخياره أن تكون سيدة رواياته، كما قال، انتهى الحوار.
.
وبين البداية والنهاية وقفات مهمة حول الروائي وعلاقته بلغته، والعرب وحضورهم في العالم، ثقافياً وإنسانياً، والسينما وأثرها على الرواية، والكتابة في علاقتها بالوطن والغربة، والخيط الواصل بين الأكاديمي والإبداعي، والرواية التي تكتب في الخليج وموقفه منها، والمرأة وحضورها وغير ذلك مما تجد تفاصيله، عزيزي القارئ، في ثنايا الحوار:
* لغتك الروائية فيها طغيان للشعرية، لماذا اخترت هذا المسار الروائي الذي يتوّه القارئ ربما في لغة التأويل والاستعارة، بينما لغة الرواية هي لغة العقل، أي اللغة المجردة من الزوائد؟
** أنا داخل هذا النظام الذي اخترته عن سبق وعي وإصرار.
ولكن ليس اللغة الشعرية وإنما اللغة الاستعارية.
أعني بذلك اللغة التي لا تكتفي بالوصفي المجرد، بشكل بارد وكأننا في مشرحة.
اللغة كائن حي باستمرار، طبعا خيارات مثل هذه صعبة جدا، لكن رهاني الجوهري كان لغويا أساساً، أي البحث عن لغة تعبر عن جوهر الإنسان في عز تناقضاته وارتباكه.
لغة محملة، تعبر عن قلقه وانشغالاته تجاه عصره المعقد.
اللغة العادية واصفة، لكنها لا تصل إلى عمق الإنسان بسهولة.
أنا لا أؤمن بتشييد معمار روائي جدّي من دون الاعتماد على الاشتغال اللغوي الذي هو جوهر الكتابة لأنه القناة الموصلة إلى القارئ.
ثم إن حساسيتي تجاه اللغة مفرطة جدا، لأسباب شخصية وتاريخية.
فأنا لم أرث اللغة العربية بشكل طبيعي، ولكني ذهبت نحوها باختيار العاشق، وبحثت عنها وكان يمكن أكون مثل أبناء جيلي كاتبا فرانكوفونيا، ولكني اخترت المسلك الصعب.
كنت مفرنساً حتى القسم النهائي ولم أعرف العربية إلا من درس اللغة العربية فقط الذي لا يتجاوز ساعات قليلة في الأسبوع.
أما المواد الأخرى من تاريخ وجغرافيا ورياضيات وكيمياء وفيزياء وعلوم طبيعية، كل شيء كان يتم بالفرنسية.
ومع ذلك كانت جدّتي تذكرني كل يوم بأصولي الأندلسية وضرورة تعلم لغة الأجداد.
لهذا تعلمت العربية بشكل براغماتي، فقط لأطلع على ثقافة أجدادي الأندلسيين فقط.
كان هذا رهاني العفوي.
كنت مثل العاشق.
صمم وعمل وحصل في النهاية على الشيء الذي أراده.
هناك قاعدة، فأنت عندما تتعب على شيء، لا بد أن تحبه وتقدره لأن به عطر عرقك وتعبك، ولم يأتك بالسهولة التي عند الآخرين.
لهذا في كتاباتي، عملي الأكبر على اللغة، فهي إغوائي وعشقي.
أغوي قارئي بواسطة عشقية اللغة لكي يدخل إلى الموضوعات الحساسة، لأنه من دون هذه اللغة سيظل بعيدا.
وإلا يصبح من الصعب فهم حب القراء لهذه اللغة.
هي ببساطة لغة القلب أولا، والعقل بعدها وإلا سنجد أنفسنا ليس في عمق رواية، ولكن في سلسلة من المعادلات الرياضية.
لسنا سادة مصائرنا
* هل حصلنا نحن العرب على الحق الذي نستحق في المجال الثقافي، أم أننا لا نزال نضع الثقافة على الهامش؟
** يجب أن نقبل أولا بسلسلة من المعطيات السوسيولوجية التي تقول إننا اليوم لسنا سادة مصائرنا للأسف.
بمعنى نحن في نسق عالمي علينا أن نفهمه ونحدد مكاننا فيه، فهو كل يوم يتعقد أكثر، وإن الرخاء والراحة والطفرات أصبحت تقريبا وراءنا، وعلينا أن نرى سبلا أخرى متماشية مع ما يحدث عالميا.
الثقافة ليست إلا جزءا تعبيريا عن هذه الحالات لا أكثر.
إذا تخلفنا تتبعُنا، وإذا تقدمنا سنجدها أمامنا.
سؤالي القاسي قليلاً: أين نحن من الإنتاج العالمي في ظل عولمة تمحو كل شيء ولا تحتفظ إلا بما تريده هي.
لنبدأ بأداة التعبير التي هي اللغة؟ ماذا فعلنا باللغة العربية؟ ما هو تعاملنا معها؟ هل كانت لنا الشجاعة الكافية لتطويرها وتسهيلها بحيث تصبح موائمة للعصر مثل كل اللغات العالمية؟ لا يكفي أن يكون لي مائة اسم للأسد.
أحتاج إلى كلمة دقيقة أولاً وتأتي بعدها التنويعات.
نعرف اليوم أن الكثير من البرامج الإلكترونية الخاصة بالكتاب الرقمي مثلا غير متوافرة على لوحات الآيباد وغيرها.
لأن هذه الأجهزة غير قادرة على فك تعقيدات اللغة العربية.
هناك ضعف كبير في هذا المجال، وربما عجز أيضا.
لم نعد نثق في هذه اللغة.
فكيف نضع ثقافتنا في المدارات العالمية ونحن لا نعمل في المجال إلا قليلا.
من المؤكد أن هناك جهودا ولكنها لا تعمل إلا على تأكيد القاعدة.
ما هو دورنا نحن العرب في الثورة الثقافية والعلمية العالمية؟ أخجل أن أقول إنه صفر.
أفسّر، انظر لجائزة نوبل العالمية في مجال العلوم.
طبعا نستطيع أن نقول عن هذه الجائزة ما نشاء، لكنها مهمة في تقييم المبادرات العالمية.
طبعا فاز بها بعض العلماء العرب أو من أصول عربية.
ولا يوجد واحد من هؤلاء مقيماً في بلاده ولكنهم منتمون لمراكز بحث ومخابر أجنبية.
ماذا يعني هذا الكلام؟ أننا على هامش ما يُنتج عالميا.
متأخرون بشكل مفجع في مجالات البحث العلمي.
طبعا أقول هذا بألم إذ على العرب أن يشتغلوا بقوة وباستمرار وإلا ستذهب ريحهم.
الأوضاع الحالية في أفق العولمة لا تبشر بخير.
كم يخصص العرب للبحث العلمي في ميزانياتهم العامة؟ لا شيء في وقت أن بلدانا صغيرة، تسخّر للبحث العلمي، أكثر من البلدان العربية مجتمعة.
هناك مشكل كبير، ولا أتحدث عن الأمية التي بلغت في عموم البلدان العربية أكثر من ستين بالمائة، شيء مرعب.
فكيف نريد أن يحترمنا الآخرون ونحن لا نحترم ثقافتنا ولغتنا.
ربما كان التخلف هو السبب، لكن الرغبة في التطور التي كانت تحدونا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات لم تعد اليوم موجودة.
رهانات المستقبل تقلصت كثيرا.
لأن النموذج غير متوافر.
انظر في أفريقيا، هناك إفريقيا الجنوبية التي تشكل اليوم نموذجا، للأسف لم يحتذ لحل المشكلات الكبرى الإثنية والعرقية والثقافية، تسيير نظام الدولة، لأننا نحتاج إلى مانديلا متعدد في كل البلدان الإفريقية، هذا مستحيل.
آسيا لها نماذجها الضخمة كالصين واليابان وكوريا وإندونيسيا وغيرها.
إلا الوطن العربي فلا نموذج له إلا نظام حكم توريثي غريب لا هو بالملكي ولا هو بالجمهوري مثل الحالات الليبية والمصرية والعراقية واليمنية.
النموذج العربي ربما هو حاليا في طور التكوين لكنه ليس ظاهرا.
صحيح أننا في المجال الأدبي ننتج بشكل جيد لكن الوسائط الترجمية والاستراتيجيات غير متوافرة على الرغم من الجهود الكثيرة.
أدبنا غير معروف عالميا أو ناقص، وحتى ما يترجم تتم ترجمته بمبادرات من دور نشر عالمية وليس بتمويل عربي على الرغم من الإمكانات المتوافرة عربيا.
يجب أن لا ننتظر من الغرب أن يعطينا شيئا لكن هذا الشيء يجب أن يأتي منا.
أي نحن من يفرض ثقافته بالعمل والجدية والصرامة.
الرواية والسينما
* تحويل العديد من الروايات إلى أفلام هل كان السبب الرئيسي وراء هذه الطفرة التي تعيشها الرواية العربية في السنوات الأخيرة؟
** لا أعتقد.
باستثناء عمارة يعقوبيان، التي استفادت حقيقة من السينما، أين هي النصوص العربية التي استفادت؟!.
المخرجون العرب لا يشتغلون مع الكتاب ويفضلون أن يكونوا هم أصحاب السيناريو والقصة والإخراج و.
.
.
و.
.
.
و.
.
.
، هذه حالة غريبة حول تمركز الذات إلى أقصى الحدود.
طبعا السينما لما تكون ناجحة كما في إيران أو بقية بلدان العالم تلعب دورا مهما.
انظر، في السنة الماضية وبداية هذه السنة، ساعدت العديد من الأفلام العالمية التي بنيت على سيناريو لرواية أصلية: حجر الصبر لعتيق رحيمي، آنا كارنينا لتولستوي، زبد الأيام لبوريس فيان، البؤساء لفيكتور هيغو، سارقة الكتب للكاتب الأسترالي مرقص سوزاك ووووو.
عدد ضخم من الأفلام المنتجة من خلال روايات، وتركت كلها أثرا طيبا لدى القراء والمتفرجين أيضا، لكن في الوطن العربي لا يوجد شيء من هذا.
مما يعني ببساطة أننا بعيدون جدا عن ذلك بسبب عاملين غائبين عن الصناعة السينمائية مع أننا نملك المال الوفير لذلك.
السبب الأول هو أن المستثمر في الإنتاج السينمائي يخاف من سوق عالمية تتجاوزه وسوق عربية ميتة.
التسويق ضعيف أو يكاد يكون منعدما؟ والسبب الثاني هو أن الرؤية العربية للسينما ما تزال غير واضحة إذ تعتبرها من الكماليات.
وهذا ليس علامة خير في المنظور الثقافي الاستراتيجي.
تتحكم هوليوود اليوم بالإنسان وتحركه كما تشاء.
ونفهم كيف أنها تصنّع صورة العربي سينمائيا.
ولا توجد أي ردة فعل حقيقية في وقت أن الحاجة إلى ذلك ماسة جدا لنرمم صورتنا العالمية وتاريخنا.
للأسف لا شيء من هذا حدث.
الوطن والمغتَرَب
* من الجزائر انطلقتَ لتخوض غمار الإبداع عربيا وعالميا، هل صنعت الغربة مزاجك الإبداعي أم أن الوطن هو الذي نؤوب إليه ويعود إليه الفضل في ذاكرتنا وأعمالنا الإبداعية؟
** طبعا للوطن مكانة حية ومهمة في وجداني، لكن مع الزمن والخبرة يتغير وطن الكتابة ليصبح أرضا افتراضية أوسع وأشمل لأننا من هذه الأرض بجمالها ومآسيها.
يهمنا ما فيها بالخصوص في ظل إعلام متحرك ونشيط اختزل كل المسافات ومعوقات الاتصال.
تجربتي الخاصة فيها الكثير من الصعوبات والقسوة.
بعد دراستي في تلمسان ثم وهران ثم الماجستير والدكتوراه في دمشق وباريس، ثم الإقامة في باريس أستطيع أن أقول عن نفسي إني (كوسموبوليت).
غادرت الجزائر في ظرفية خاصة وليست اختيارية أبدا.
واستقبلتني جامعة باريس الثامنة ثم السوربون التي أدرس بها اليوم من دون أن أقطع علاقتي مع جامعتي الأساسية التي هي جامعة الجزائر المركزية.
فأنا بهذا المنطق صناعة ثقافية متعددة عربية وأجنبية، لكنها اختارت العربية كوسيلة للتعبير والتفكير أيضا لأنها موجودة في رقعة صنعت تاريخها وذاكرتها وجزءا مهما من حياتها الداخلية.
من هنا يمكنني القول إن للغربة دوراً مهما في حياتي ولكنها ليس الغربة وحدها.
في المنافي نجد أنفسنا ككتاب بين أمرين أحلاهما مر.
إما أن ندخل في دائرة الحزن والبكائيات ونموت بشكل هادئ وغير مريح وهذا طريق مأزوم في النهاية، أو نحاول أن نكون مفيدين داخل الصعوبات الجمة لأننا اخترنا طريق الحياة وهو الطريق الأصعب.
علينا وقتها أن نحول المنافي إلى وسيلة دفع إيجابية.
من هذه العملية يأتي التطور والإنتاج الثقافي.
هذا التصور الإيجابي ساعدني كثيرا على السير إلى الأمام في عملي الأكاديمي أو الإبداعي.
لقد أصبح العالم صغيراً ومعقداً أيضاً وهذا يصنع رؤيتنا ويدفع بنا إلى رؤية كل شيء بكثير من التواضع.
أفادني هذا الغرب كثيرا في الترجمة واحترام الكتاب والسير به نحو قارئه الذي يبحث عنه، وساعدني هذا الشرق الصعب في الذهاب نحو نفسي.
عندما يقول قارئ أو قارئة: يا سيدي عبرت عما بداخلي، أجدني قريبا منه أو منها لأن المشترك كبير وعميق.
إذن يجب النظر بمسؤولية وإيجابية لهذه الأشياء.
الأكاديمي والإبداعي
* العمل الأكاديمي والكتابة الإبداعية.
.
.
ما هي حدود الالتقاء وحدود الاختلاف بينهما، وهل ساعدك موقعك كأستاذ كرسي في جامعتين كبيرتين هما: السوربون والمركزية بالجزائر، على الوصول إلى ما وصلت إليه؟
** يجب أن أقول إنني أوقفت البحث والانتماء لفرق بحث علمية في فرنسا أو في الجزائر.
حتى تلك التي أسستها تخليت عنها في النهاية لطلبتي، لسبب يتعلق بالوقت، ولم أحتفظ في النهاية إلا بالدرس الجامعي والإشراف، وهذا أيضا يقتضي جهدا معتبرا.
وخصصت كل وقتي المتبقي للكتابة الروائية.
وأكاد أكون متفرغا للكتابة.
وهذا يتعلق بخيارات بترية خاصة.
أنا أحب العمل الجامعي ولكني لم أعد قادرا على الجمع بين الاثنين.
أشرف على الأبحاث وأتابعها بحكم موقعي الأكاديمي كبروفيسور.
طبعا النشاط الأكاديمي مفيد ومساعد إلى درجة عليا في إغناء العقل باستمرار بالمنجز المعرفي الإنساني.
وهذا يفتح الرواية على آفاق أوسع ويسمح لها بالدخول في أعماق القضايا التي تشغلنا كتاباً ومواطنين وبشراً على هذه الكرة الأرضية التي تهمنا المصائر التي تخطها في عالم يغلي ويتحرك بقوة نحو حتفه.
ما الذي يمكننا أن نفعله؟ وما هي مساهماتنا الممكنة؟ لم يعد الكاتب مهتما بالكتابة فقط، فهو يعيد أنسنة مجتمع بشري بدأ يعود حثيثا إلى سلطان الحيوانية المقيتة المتأصلة فيه.
لهذا فالبحث العلمي مهم في المجالات المعرفية المختلفة، لكنه لا يصنع الروائي لأن الرواية تظل عالما تخييليا بالدرجة الأولى، وهذا لا يجب نسيانه والتعامل معه بقوة وذكاء وإلا سنخسر البروفيسور ونخسر الروائي أيضا.
الكثير من الزملاء الأساتذة الجامعيين كتبوا الرواية وأخفقوا، لأن العقلية الأستاذية ظلت هي السيدة الطاغية حتى تحولت الكتابة إلى درس تطبيقي للرواية.
لهذا يجب الحذر من هذا النوع من الكتابة وهذه المقاربة الإبداعية.
التناغم بين الاثنين ضروري ولكنه مجرد تناغم، الروائي الذي ينسى أنه روائي ويسقط في التنظيرات الميتة يقتل نصه قبل أن يقتل قارئه ويدفع به نحو الملل والهرب.
* ما هو السر في حصول أعمالك على اهتمام كبير في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة؟
** دعني أقول لك مسألة مبدئية.
أنا أكتب باللغة العربية، فأنا إذن لا أكتب للجزائري فقط ولكني أكتب لمساحة لغوية وحضارية واسعة اسمها العالم العربي.
وهو عالم لا يمكن أن يستهان به ولو أن المقروئية فيه تعاني معضلات كثيرة.
مثل الأمريكي اللاتيني لا يكتب فقط للأرجنتين أو كوبا أو فنزويلا أو البيرو أو غيرها ولكنه يكتب لعالم لغوي اسمه العالم الإسباني بما فيه إسبانيا.
وإلا سنفرض على أنفسنا محلية ضيقة ومقيتة.
الباقي يحسمه العمل ولا شيء آخر سوى العمل المستمر والمستميت، والكتابة وتحسين الأدوات وربما الخروج من الدائرة المحلية الضيقة يعني الجزائر إلى الدائرة المحلية الواسعة يعني الوطن العربي والالتصاق بقوة بالموضوعات التي تشغلني كجزائري، ولكن أيضا بصفتي عربياً يهمّه مصير الأمة التي ينتمي لها بقوة.
أنا تعبت للحصول على اللغة العربية بينما نشأت في عالم فرانكوفوني بسبب الاستعمار.
أول لغة كتبت بها هي اللغة الفرنسية، حيث كنت أدرس في قريتي.
وأول لغة عربية تعلمتها هي لغة الكتاتيب البسيطة وفي ظروف صعبة جدا، لأن اللغة العربية كانت ممنوعة.
أنا تعبت من أجل الحصول على هذه اللغة ولم تأت ببساطة.
السبب الجوهري هو المثابرة الدائمة والإيمان بالمجتمع العربي أنا لم أيأس من تحول الأوضاع واحتمال تحسنها، على الرغم من القلق الذي ينتابني من حين لآخر ككاتب وكإنسان.
أنا أتحدث عن همومنا المشتركة التي نجدها في كل الأمكنة كالحروب الأهلية والصراعات والفساد والخوف من الآتي الغامض والحلم بمستقبل أفضل.
اللغة العربية، أداتي التعبيرية، ما زالت حية، والكتابة هي وحدها التي تحررها من قيود التقديس الأعمى، فهي لا تقول فقط خطاب الموت والتطرف ولكنها قادرة على قول الجمال والحب والحلم والشعر.
علاقتي باللغة العربية ليست علاقة عادية، ولكنها تختلف عن غيري من العرب ليست علاقة تواصلية فقط ولكنها علاقة حب.
أمنحها لمن يقرؤني ويشعر بأن اللغة تحمل شيئا منه لأن الكاتب الذي لا توجد قسمة مشتركة بينه وبين قارئه هو آيل إلى الموت البطيء.
لهذا أقول إن اللغة ليست فقط أداة ولكنها نحن أيضا بكل مخزوننا وحواسنا وآلامنا لهذا وجب الشغل عليها بقوة وجمالية واستمرارية أيضا.
وهذا كله يجعل القارئ العربي يأتي نحوك بلا تردد.
وأنا على تواصل دائم مع قرائي بالكتابة ولكن أيضا بالوسائط الحديثة كالفيسبوك وغيره.
سعيد جداً بهم وبحضورهم الجميل فهم يمنحونني كل الحب والرغبة في المواصلة والإنتاج المستمر.
هذه في الحقيقة نعمة كبيرة وأهم جائزة.
ليسوا قراء مستهلكين ولكنهم قراء سجاليون لهم كلمتهم ورأيهم في ما يقرؤونه.
الرواية في الخليج
* ما رأيك في الرواية في الخليج العربي في السنوات الأخيرة؟ هناك مؤشرات كثيرة تبين أن هناك حركية كبيرة برزت بشكل واضح في الجوائز في الوطن العربي.
** الخليج اليوم يشكل ظاهرة ثقافية مميزة ويذكر ببيروت ولبنان في وقت من الأوقات، في الستينيات والسبعينيات، قبل الحرب الأهلية.
الخليج يوفر اليوم أولا بنية تحتية ثقافية راقية ومهمة وحديثة جدا، من مجلات وجرائد وقد زرت في مناسبة ليست بالبعيدة مقرات مجمع البيان وخرجت بالفكرة التي قلتها، الوسائل في غاية التطور، كما خلق الخليج مناسبات متخصصة كالمسرح واللقاءات الثقافية الدورية لمنح المثقف العربي فرصة التواصل للتداول حول الفعل الثقافي، إضافة لمشاريع الترجمة في الإمارات والكويت والسعودية وغيرها، وهو ما يوفر مناخا ثقافيا عربيا جميلا يعود بالفائدة اليوم عربيا، ولكنه سيعود بالفائدة أيضا على الواقع الثقافي الخليجي.
على الرغم من حداثة التجربة فقد ظهرت حركة روائية مميزة في السعودية رجالية ونسائية أيضا، أعطت الكثير للثقافة العربية ومنحتها إمكانات كثيرة للتطور.
ولعل أهم تجل لها هو فوز الروائي عبدو خال بواحدة من أهم الجوائز: البوكر العربية.
الشيء نفسه ينطبق على الكويت التي عرفت أسماء عربية مميزة خرجت من الدائرة الخليجية لتصبح تجارب عربية كإسماعيل فهد إسماعيل، ليلى العثمان، طالب الرفاعي وأخيرا الروائي سعود السنعوسي الذي فاز هو أيضا بالبوكر العربية.
لا أتكلم عن الإمارات العربية بكتابها المميزين من أمثال ناصر الظاهري، علي أبو الريش وحمدة خميس، وظبية خميس وغيرهم الذين ضمنوا قدرا كبيرا من الاتساع والحضور العربي، وعمان مع علامتها المميزة سيف الرحبي، واليمن مع علي المقري وغيره طبعا، وقطر مع الروائي أحمد عبد الملك وكلهم كتاب مميزون فرضتهم تحولات الثلاثين سنة من الحركية الأخيرة التي حدثت في هذه البلدان.
وأعتقد أن هذه البنية التحتية إذا استمرت في هذا التنامي مرشحة بقوة لتغيير الوجه الثقافي لهذه البلدان.
* نرى أن هناك حركية أدبية عربية على مستوى العالم الغربي، هل ضروري أن يمرّ المبدع العربي عن طريق هذه القناة ليحقق عالميته، أم أن عالميته تبدأ من قريته وبلدته وثقافته ولغته؟
** يجب أن لا نعطي للمسألة أكثر مما تستحق.
صحيح أن الاعتراف مهم جدا بالخصوص عندما يأتيك من جهة أخرى ويمنحك جواز مرور عالميا بما في ذلك بلدك.
مهم ولكنه ليس طبيعيا.
لأن الطبيعي هو أن تعترف بك أولا أمتك وثقافتك ولغتك التي تبنيتها أوتبنتك.
لهذا علينا أن نخلق الآليات التي تضع ثقافتنا في أفق إنساني.
كل ما حصل للكثير من الكتاب العرب عالميا وغربيا تحديدا مصدره اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، واجتهاداته الخاصة طبعا.
فالمؤسسة الثقافية العربية لم تفعل الشيء الكثير لفرض لغتها وأسماء أدبائها على الصعيد الواسع كما هي العادة بالنسبة للآداب العالمية الأخرى.
مؤلم لمثقف عربي أن يأتيه الاعتراف من خارج بلاده أولا، أو من خارج لغته ودائرته الثقافية.
أومِن بالجانب الإنساني والعالمي للآداب، وأن لا حدود للآداب إلا ما تصنعه من قيم إنسانية، إن الأدب العربي في بعض نماذجه يصنع هذه القيم ويسير بها عميقا، لكن ذلك كله محدود جدا.
غارسيا ماركيز احتفت به أمريكا اللاتينية كلها والعالم الإسباني لأنه يندرج داخل هذه اللغة، قبل الاحتفاء به عالميا.
حقق عالميته قبل حصوله على نوبل، لأن كتاباته أصبحت تشغل حيزا عالميا مهما.
لا يمكن للكاتب أن يكون عالميا إذا لم يضف لمسة الخصوصية والمحلية على الثقافة الإنسانية.
من قريتك طبعا تستطيع أن تمنح العالم الحب والقيم الإنسانية العالية والخير.
المبدع والجائزة
* هل يمكن القول إن الجوائز الأدبية ساهمت في إثراء المشهد الأدبي بالكثير من الأعمال الإبداعية، وما رأيك فيها إذ يكثر الجدل كلما ظهرت النتائج بالخصوص في الجوائز العربية الكبرى كجائزة الشيخ زايد والعويس والبوكر وجائزة الإبداع العربي؟
** لنتفق منذ البداية على أن الجائزة لا تصنع كاتبا.
ربما تساعد في إبرازه، لكن عليه أن يفرض نفسه لاحقا بالشكل الذي تتطلبه الصورة التي فرضها.
الكثير من الناس في العالم العربي يحددون قيمة الأدب من الجائزة التي يحصل عليها.
بينما القيمة لا تتحدد من الجائزة مطلقا مهما كانت قيمتها.
مارسيل بروست، جميس جويس، نيكوس كزانتزاكي وغيرهم لم يحصلوا على نوبل لكنهم ظلوا كباراً بل علامات في الآداب الإنسانية.
الكثيرون ممن يفوزون بالجوائز يأكلهم الزمن ولا نسمع لا بهم ولا بنصوصهم.
يتلاشون.
يجب أن ننظر للمسألة بحكمة.
أية جائزة طبعا اعتراف نقدي جميل له أهميته في الرواج للكتاب وترسيخ الكاتب.
هي حظ ربما كان منتظرا أو غير منتظر.
ولكن له حدوده أيضا.
ويمكننا طبعا أن نجادل في ذلك طويلا.
ومع ذلك بالنسبة لأية رواية كانت، الجائزة لحظة جميلة تعيد الرواية إلى الواجهة.
التي تكون ظهرت في السنة التي مضت رفقة نصوص عربية ممتازة ومهمة بعضها فاز بجوائز أو وصل إلى القوائم الطويلة أو القصيرة، وبعضها ظل في الظل على الرغم من قيمته العالية وأعني ما أقوله.
الكثير من النصوص نقرأها ولكنها تنسحب داخل البياض الكلي على الرغم من قيمتها.
ربما هذه تراجيديا الكتب التي تشبه بقوة تراجيديا الإنسان وهو يواجه قدره.
طبعا، وجود الجوائز في حياتنا الثقافية العربية مهم ومفيد، إذ يحث على الكتابة نسبيا والتنافس بالخصوص بالنسبة لجيل شبابي يبحث عن حقه في الاعتراف به وبجهوده.
يكذب حقيقة من يقول غير ذلك.
لكن الجائزة لها حدودها ويجب أن تؤخذ بهذه الصيغة لأنها في النهاية ليست إلا حادثا عرضيا جميلا والأبقى هي الكتابة والمشروع العميق الذي نحمله.
لهذا أرى أن هذه الصراعات والتهم المكالة للجان هي مظهر من مظاهر تخلفنا الثقافي.
اللجنة من حقها أن تختار ما تشاء ولي ذاقئتي الخاصة التي تمنحني حق الاختيار أيضا.
لا يجب تعويض أية لجنة ولكن يمكننا أن نقول بأن النصوص الفائزة في أية جائزة هي صورة صادقة عن اللجنة التي اختارتها.
إذا كانت جيدة فهي تعكس جودتها، وإذا كانت ضعيفة، تعكس ضعفها.
* هل أنت مع القول بأزمة القراءة في الوطن العربي؟
** يمكننا أن نختار السهولة طبعا ونقول إن القارئ العربي لا يقرأ لأنه لا يملك الآليات الكافية لذلك تربوياً وثقافياً وغيرها، ومعاد لكل ما هو حداثي بسبب المخزون الديني.
طبعا أنا أستغرب من كلام سهل كهذا وهو منتشر كثيرا، يعيد إلى الواجهة وضعا ثقافيا استعماريا، حيث اعتبرت الثقافة العربية في عمومها مولدة للتخلف.
مع أنه يمكن بسهولة ملاحظة أن الفضاء الثقافي القرائي العربي موزع إلى قطاعات متعددة.
القارئ العادي القادم من الثانويات والجامعات والمؤسسات التعليمية المختلفة.
وهو مهم جدا.
ثم قارئ القطاع الديني وهو يستهلك أيضا باللغة العربية كل ما له علاقة بالدين ويخرج عنه أحيانا.
هناك القارئ الديني السلفي والمغلق وهناك القارئ الديني المتنور الذي له وجهة نظره في الحياة، ولا يمنع نفسه من الانفتاح على الثقافة الإنسانية الخارجة عن الدين.
هذا التعدد يمنع طبعا وحدة قرائية في علاقتها بالأدب والشعر والرواية.
مما يقلل من المقروئية ظاهريا ولكن للتوزيع العام دوره الكبير.
أي حكم عام على عدم المقروئية التي يدعيها البعض لا يستقيم.
يكفي أن نلمس هذا القارئ عن قرب لنكتشف أن حماسه لبعض الكتب كبير.
على الرغم من الظروف التربوية التي خضع لها هذا القارئ والتي لا تشكل فيها القراءة رهانا كبيرا إلا أن جهوده مضنية وكبيرة للتقرب من النصوص العربية الناجحة.
وإلا كيف نفهم هذا القارئ الذي يذهب بحماسة كبيرة، نحو كتابه المفضلين، لا تقل عن القارئ الغربي المهيكل ضمن منظومة قرائية مدروسة منذ الطفولة حتى سن الرشد؟ لا القراءة ليست بكل هذا السوء.
فوجئت وأنا أوقع مملكة الفراشة في رام الله ونابلس بعدد لا يوصف وغير معقول من القراء الذين جاؤوا نحو الكاتب ونحو الرواية.
وهذا لاحظته في الكثير من المعارض العربية.
هذا يعني أن الخامة القرائية العربية موجودة بقوة تحتاج إلى من يضعها في مساراتها الصحيحة ويفهم انشغالاتها وهمومها وشروطها القرائية.
المرأة سيدة رواياتي
ما مدى حضور المرأة في حياتك وأعمالك الإبداعية؟
لا هي سيدة رواياتي.
انظر العناوين.
مريم الوديعة، سيدة المقام، أصابع لوليتا، مملكة الفراشة، وغيرها.
السرد يتم عبرها وهي المتحكم الرئيسي في المعمار الروائي ولا أحد ينافسها في الحكي، فهي الأقدر عليه منذ شهرزاد.
طبعا الذي يهمني أكثر هو أن أضعها في شروط ثقافية وحضارية وفكرية داخل النص، تستطيع من خلالها أن تقول انشغالها الإنساني من دون المرور على رقابة الذكورة المقيتة.
الرجولة مقبولة لأنها مقياس لشجاعة ما في الميراث الرمزي العربي، ولكن الذكورة هي سلطان جنسي مسبق.
أن يولد الإنسان امرأة فهو ناقص بالقياس لمن يولد ذكراً.
رواياتي في مجملها هي حرب ضد هذه الذكورة بمعانيها الاستلابية التي تمنع الرجل من التطور قبل المرأة لأنها تضعه في دائرة مغلقة وتجمده أبداً.
فالقوة بهذا المعنى مسلك ذكوري بالدرجة الأولى وبدائي وحيواني لهذا تضعها رواياتي مثار جدل ونقاش.
رهان هذا النوع من الممارسة البشرية ليس العقل والحب، ولكن السيطرة والهيمنة.
طبعا يجب أن لا ننسى أننا في مجتمعات إنسانية وليست ملكوتية افتراضية.
كل يوم تكبر فيها الكراهية بسبب المصالح الكبيرة أو الصغيرة أو حتى الغيرات الذاتية المعمية للأبصار.
ليست للأحقاد لغة إلا التدمير الأعمى.
كل نسائي يندرجن ضمن هذا المنظور وهذه الأسئلة الوجودية المعقدة التي تطرح على المرأة وعلى الرجل أن يعرفا المعوقات التي تمنعهما من حياة طبيعية.
إن شخصيات مثل مريم، دنيازاد، لوليتا، مي، ماسيكا، ياما وغيرهن من اللواتي يؤثثن رواياتي، تملك من الشجاعة ما يكفي لدرجة أن تحمل مصائرها في أيديها مثل حاملات القرابين الإغريقيات، وتنشدن الحياة في أفقها الأكثر إصرارا وتراجيدية أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.alittihad.ae/details.php?
id=81355&y=2014&article=full
تعليقات
إرسال تعليق