النظريات العلمية والأكوان الممكنة / حسن عجمي


النظريات العلمية والأكوان الممكنة


حسن عجمي
  
يوضح الفيزيائي براين غرين أرجحية وجود أكوان ممكنة عدة ومختلفة في كتابه " الواقع المختبىء". لكن الفلسفة لا تحيا من دون علوم .مهنا, الفرضية العلمية القائلة بتعدد الأكوان تدعم مقبولية السوبر حداثة كنظرية فلسفية. على هذا الأساس, يبدو أن الله ديموقراطي بامتياز لأنه لم يخلق عالمنا الواقعي فقط  بل خلق كل الأكوان الممكنة العديدة و المختلفة في حقائقها وقوانينها الطبيعية . وبذلك لم يميّز بين كون وآخر ولم يفضّل عالما ً على آخر ما يتضمن المساواة بين كل الأكوان الممكنة؛ فكلها متحققة و واقعية بالفعل.هكذا الله ديموقراطي.

     يقول غرين إن النظريات العلمية المعاصرة في الفيزياء تشير إلى أنه توجد أكوان ممكنة متنوعة.  هذه الأكوان ليست المجرات المختلفة في عالمنا، بل هي منفصلة عن عالمنا و عن بعضها البعض، و كل كون منها له حقائقه و قوانينه الطبيعية التي قد تشبه أو تختلف عن حقائق و قوانين الأكوان الممكنة الأخرى. فمثلاً , يستنتج بعض العلماء كالفيزيائي " إيفريت " أنه توجد أكوان ممكنة على ضوء نظرية ميكانيكا الكم . بالنسبة إلى ميكانيكا الكم ، من غير المحدَّد سرعة الجسيم و مكانه في آن كما من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. و يعبّر الفيزيائيون عن ذلك أيضا ً بقولهم إنه من غير المحدَّد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. لكننا نعلم أن أية قطة لابد أن تكون إما حية و إما ميتة ما يعارض ميكانيكا الكم بشدة. على هذا الأساس حلّ بعض العلماء كالفيزيائي إيفريت هذه الإشكالية من خلال الموقف التالي : قطة شرودنغر حية في كون  ممكن، لكنها ميتة في كون ممكن آخر، وبذلك تتجنب ميكانيكا الكم مشكلتها السابقة. هكذا تؤدي نظرية ميكانيكا الكم إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة عديدة و مختلفة. كما أن فيزيائيين آخرين كالفيزيائي ميشيو كاكو يصلون إلى النتيجة ذاتها بطريقة أخرى هي التالية : بالنسبة إلى ميكانيكا الكم ، يوجد الإلكترون في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة بدلا ً من أن يوجد في مكان معين حول النواة. لكن العالم كان أصغر من الإلكترون قبل الانفجار العظيم . و بذلك إذا طبقنا ميكانيكا الكم  على الكون كله سيتضمن ذلك وجود الكون في كل الحالات الممكنة المختلفة تماما ً كما يوجد الإلكترون في كل الأمكنة الممكنة حول النواة. و ما هذه الحالات المختلفة للكون سوى الأكوان الممكنة المتنوعة في حقائقها و قوانينها الطبيعية. هكذا نصل أيضا ً إلى نتيجة أن  الأكوان الممكنة موجودة  من خلال ميكانيكا الكمBrian Greene : ) The Hidden Reality.2011. Knopf ).


      بالإضافة إلى ذلك , يوصلنا المفهوم العلمي للعدم إلى نتيجة أنه توجد أكوان عديدة  وذلك اعتماداً على مبدأ التقلب الكمي الخاص بنظرية ميكانيكا الكمّ. يقول الفيزيائي آلن غوث  إن الكون قد نشأ من العدم من جراء التقلبات الكمية التي تصيب الفراغ. يتكوّن العدم من طاقات متعارضة و بذلك تختزل بعضها البعض فيتشكل العدم. و لأنه لا يوجد ما هو ثابت من جراء التقلب الكمي الخاص بنظرية ميكانيكا الكم، إذن قد تنجو طاقة من العدم ولا يتم اختزالها ما يحتم نشوء عالمنا. وإذا جمعنا طاقات عالمنا سنجدها تساوي صفرا ً لأن الطاقة الإيجابية لعالمنا تساوي طاقته السلبية . من هنا يستنتج الفيزيائي " غوث " أنه يوجد الوجود لأنه عدم ؛ فجمع طاقات الكون يساوي صفرا ً. يضيف آلن غوث قائلا ً : بما أن عالمنا وُلِد من نقطة في العدم، و بما أن العدم يتشكل من نقاط عدة إن لم تكن لامتناهية في العدد، إذن من الممكن أن تنمو أكوان ممكنة عديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد من نقاط العدم المختلفة. هكذا تصر هذه النظرية العلمية على أرجحية وجود أكوان ممكنة عديدة ( المرجع السابق ).

    من جهة أخرى , تؤدي نظرية الأوتار العلمية إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة عدة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، يتشكّل العالَم من أوتار قائمة في عشرة أبعاد مكانية وبُعد زماني واحد بينما العالم الذي نحيا فيه يتشكّل من ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد زماني واحد. أما الأبعاد الأخرى فملتفة بشكل يجعلها خفية عنا، وقوانين الطبيعة فيها تعتمد على طبيعة هندستها الرياضية. لكن هندساتها الرياضية متعددة و مختلفة , و بذلك تختلف قوانين الطبيعة في تلك الأبعاد الإضافية. و لذا الأبعاد الأخرى تُشكِّل عوالم ممكنة عديدة تختلف عن عالمنا الواقعي. هكذا تقترح نظرية الأوتار أن العوالم الممكنة موجودة. كما تقول نظرية الأوتار إن الكون يتكوّن من أوتار و أنغامها ؛ فمع اختلاف ذبذبات الأوتار، تختلف مواد الكون و طاقاته. لكن ثمة بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، و كلها حلول ناجحة رغم اختلافها و تعارضها . بذلك كل حل منها يصف عالما ً ممكنا ً مختلفا ً عن الأكوان الممكنة الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لمعادلات نظرية الأوتار. هكذا تصل بنا نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه فعلا ً توجد أكوان ممكنة عديدة ( المرجع السابق ).
  
     أما غرين فيقدّم حجته الخاصة على إمكانية وجود الأكوان الممكنة معتمداً على النظرية النسبية لأينشتاين. يقول إن نظرية النسبية لأينشتاين تؤدي إلى إمكانية وجود أكوان ممكنة عدة لأنها تسمح بوجود عالم لامتناهٍ بينما توجد طرق متناهية لتشكيل المادة وبذلك سيُعاد خلق عالمنا مرات عدة و لامتناهية ما يضمن تعدد الأكوان الممكنة. يشرح لنا غرين برهانه من خلال المثل التالي : إذا خلطنا ورق اللعب مرات عديدة ولامتناهية سوف تتكرر سلسلة الأوراق نفسها إلى ما لانهاية لأن عدد الأوراق محدود. هذا ما يحدث تماماً مع الكون بما أن الكون غير متناهٍ بينما طُرق انتظام وتشكّل المادة محدودة. الآن, بالنسبة إلى النظرية النسبية لأينشتاين , الزمان والمكان يشكّلان كياناً واحداً هو الزمكان , والجاذبية هي مجرد إنحناء الزمكان بينما المادة هي مجرد اضطراب الزمكان. ويعتبر أينشتاين أن الزمن نسبي يختلف مع اختلاف السرعة فمثلاً زمن الشخص الجالس في قطار يعدو مسرعاً يختلف عن زمن الشخص المراقب للقطار من خارجه. فمع زيادة السرعة يبطأ الزمن ؛ فالأب الذي يسافر بسرعة هائلة إلى الفضاء سوف يعود إلى الأرض أصغر من إبنه. لقد حلّ أينشتاين مشكلة انتقال قوة الجاذبية عبر الفضاء من خلال اعتبار أن الجاذبية ليست سوى انحناء الزمان والمكان. لكننا نعلم أنه إذا كانت الجاذبية وحدها المتحكمة بمواد الكون لانصهرت مواد الكون كله في مكان معين على نقيض مما يوجد بالفعل , لذا أدخل أينشتاين إلى نظريته النسبية ما يدعى الثابت الكوني المسؤول عن نشر القوة الطاردة النقيضة لقوة الجاذبية. و رغم أنه رفض الثابت الكوني لاحقاً فإن إضافته إلى النظرية النسبية يوصلنا إلى نتيجة أن الكون يتمدد وأن تمدده يتسارع كما أوضحت الاختبارات العلمية لاحقاً. هكذا تؤدي نظرية النسبية إلى نتيجة أن الكون يتمدد ويتسارع في تمدده , وبذلك تؤدي نظرية النسبية إلى أن الكون غير متناهٍ ما يسمح لغرين في طرح برهانه على إمكانية وجود أكوان ممكنة عدة ( المرجع السابق ).

     يضيف غرين أنه توجد نماذج مختلفة ضمن فرضية الأكوان الممكنة. فمثلاً, ثمة نموذج يعتبر أنه توجد فضاءات لامتناهية تباعد بين الأكوان الممكنة المختلفة فلا تتمكن من التواصل فيما بينها. نموذج آخر يقول إن أزمنة لامتناهية تباعد بين الأكوان الممكنة المختلفة بحيث تنشأ الأكوان بشكل متعاقب من دون أن تتواصل أو ترتبط فيما بينها. أما بالنسبة إلى نموذج آخر فالأكوان الممكنة تولد من بعضها البعض فثمة أكوان أمهات وأخرى أبناء لتلك الأكوان الأمهات. بالإضافة إلى ذلك , يميّز غرين بين اتجاهين ضمن فرضية الأكوان الممكنة. الاتجاه الأول يعتبر أن الأكوان الممكنة مجرد نتيجة بعض النظريات العلمية الأساسية كنظرية ميكا نيكا الكمّ بينما الاتجاه الثاني يقدّم فرضية وجود الأكوان الممكنة كنظرية علمية مستقلة بحد ذاتها ويعتمد عليها من أجل الإجابة على السؤال العلمي والفلسفي الأساسي ألا وهو : لماذا يوجد عالمنا بحقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات؟ ويجيب هذا الاتجاه على هذا السؤال على النحو التالي : بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد , إذن من الطبيعي أن يوجد عالم  كعالمنا بحقائقه وقوانينه بالذات , ولذا يوجد عالمنا. مثل ذلك إذا دخلنا إلى متجر لبيع الألبسة حيث توجد ألبسة عديدة جداً وبمقاسات مختلفة عدة سوف يكون من الطبيعي أن نجد لباساً يناسبنا ( المرجع السابق ).
  
     كل هذه النظريات العلمية تدعم مقبولية السوبر حداثة. فبينما السوبر حداثة تدرس الأكوان الممكنة، تؤكد النظريات العلمية السابقة على إمكانية وجود تلك الأكوان الممكنة و بذلك تشرِّع أبحاث السوبر حداثة. كما أن هذه النظريات العلمية قد أوضحت أن الديموقراطية تحيا  في نبض الكون و الوجود؛ فكل الأكوان الممكنة متساوية في تحققها و وجودها ولا تفضيل  لكون على آخر. من المنطلق نفسه ، تسعى السوبر حداثة إلى أن تصبح نظرية فلسفية ديموقراطية. لذا السوبر حداثة تدرس الأكوان الممكنة فتبني نظريات من الممكن أن تكون صادقة لأنها نظريات تصف الأكوان الممكنة نفسها . لكن إذا نظرنا  إلى الأكوان الممكنة مجتمعة ، و لكونها مختلفة و معارضة لبعضها  البعض في حقائقها و قوانينها ، إذن سيبدو اللامحدَّد على أنه حاكم الوجود و سيده. من هنا، تعتمد السوبر حداثة على اللامحدَّد من أجل تفسير الكون وظواهره , وبذلك تجمع السوبر حداثة بين اللامحدّد و إمكانية المعرفة. فرغم لامحددية العالم , المعرفة ممكنة لأن من خلال لامحددية العالم يتم تفسيره.
      مثل تطبيقي على السوبر حداثة واعتمادها على اللامحدّد من أجل تحقيق المعرفة هو التالي : بالنسبة إلى السوبر حداثة , من غير المُحدَّد ما هو الكون ولذا من الطبيعي أن توجد نظريات علمية عديدة ناجحة في وصف وتفسير الكون رغم الاختلاف والتعارض فيما بينها ؛ فلو كان الكون محدَّداً لكانت توجد نظرية علمية واحدة ناجحة في تفسير الكون بدلاً من نظريات علمية عديدة ومختلفة. هكذا تفسّر السوبر حداثة لماذا توجد نظريات علمية عديدة ناجحة رغم اختلافها وتعارضها , وبذلك توصلنا السوبر حداثة إلى المعرفة رغم اعتبارها أن الكون غير محدَّد ما هو؛ فمن خلال لامحدديته نتمكن من تفسيره. الآن , بينما نظرية النسبية لأينشتاين تعتبر أن العالم حتمي , تؤكد نظرية ميكانيكا الكمّ على أن العالم غير حتمي. لكن كلا ً من نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكمّ ناجحة في تفسير الكون وظواهره رغم التعارض بينهما. من هنا, لابد أن نسأل : كيف من الممكن أن تكون هاتان النظريتان ناجحتين في وصف وتفسير العالم رغم  تعارضهما؟ من الممكن ذلك, بالنسبة إلى السوبر حداثة, لأنه من غير المحدَّد أية نظرية منهما هي النظرية الصادقة. فبما أنه من غير المحدَّد أية نظرية منهما هي الصادقة , إذن من المتوقع أن تنجح كل نظرية منهما في وصف وتفسير العالم رغم الاختلاف بينهما. هكذا تفسّر السوبر حداثة لماذا تنجح النظريات رغم اختلافها, وبذلك تكتسب قدرة تفسيرية ما يدعم مقبوليتها.    

     أخيراً , لا تختلف الفلسفة عن العلم اختلافاً جذرياً لأن لديهما الوظائف ذاتها ؛ فالعلوم كما الفلسفة تسعى إلى تحليل المفاهيم وتفسير الظواهر وتقديم الحلول للمشاكل الفكرية. فكما تهدف الفلسفة إلى تحليل مفاهيم العقل والزمن والمكان إلخ , يهدف العلم إلى تحليل تلك المفاهيم عينها. فمثلاً, حلّل أينشتاين مفهوم الزمن على أنه ما تشير إليه الساعة التي على هذا الحائط أو على تلك اليد و حلّل الجاذبية على أنها مجرد انحناء الزمكان. من هنا , كما أن الفلسفة تقدّم نظريات متنوعة تصف أكواناً ممكنة مختلفة كذلك يقدّم العلم نظريات متنوعة تصف وتفسّر أكواناً ممكنة مختلفة تماماً كما تقول السوبر حداثة. فمثلاً , بينما تصف نظرية النسبية لأينشتاين عالماً ممكناً محكوماً بالحتمية , تصف نظرية ميكانيكا الكمّ عالماً ممكناً مختلفاً يتصف باللاحتمية. هكذا تتفق العلوم والفلسفة في كونها دراسة للأكوان الممكنة المختلفة كما تؤكد السوبر حداثة وإلا لم تقدّم الفلسفة والعلوم نظريات مختلفة ومتعارضة. أما نجاحات النظريات العلمية فسببه أنها تصف أكواناً ممكنة شبيهة جداً بعالمنا ما يضمن نجاحها رغم اختلافها. الكون ديموقراطي بتعدد أكوانه. مَن لا يبحث في الأكوان الممكنة لا يبحث في كوننا بالذات.

حسن عجمي
 http://www.alnoor.se/article.asp?id=166031


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح