يوكيو ميشيما... لماذا أصبح الامبراطور انسانا؟!
يعد
(يوكيو ميشيما) (1925-1970) أكثر أدباء اليابان موهبة غزارة في الانتاج،
اذ كتب أكثر من ثلاثين رواية، فضلا عن العديد من المسرحيات والمقالات
والقصص وغيرها من مواد الصحافة والسينما والسيرة الذاتية، ومع حماسته في
الكتابة، كان شغوفا بممارسة رياضة (الكندو) والكاراتيه ورفع الأثقال،
والتمارين العنيفة الخاصة ببناء الجسم، كذلك وجد متسعا في ممارسة هوايته
الاخراج والتمثيل في السينما، مثلما واظب على دراسة القانون في جامعة
طوكيو، هذا فضلا عن تأسيسه لميليشيات عسكرية، وضع لها نظاما مستوحا من تراث
وروح اليابان القديم، لكنه رغم اهتماماته المتنوعة، برز أكثر بصفته كاتبا
ذاع صيته الى خارج حدود بلده، حيث شكلت انجازاته الابداعية شهرة واسعة خاصة
لدى الأجيال الشابة، وذلك يعود الى أساليبه وأفكاره المؤثرة التي تناول
فيها أخلاق وقيم الجيل الضائع ليابان ما بعد الحرب، اذ جسدت معظم رواياته
وقصصه بصور رائعة، مشاعر القنوط والحيرة، التي كانت سائدة بين كثير من
اليابانيين منذ زمن الحرب، لكن اللافت للانتباه في أدب ميشيما في أعمال
عديدة الانتحارات بطريقة الـ(سبوكو) ففي روايته (اعترافات قناع) التي تمثل
سيرته الذاتية، نتلمس فيها تقلبه منذ فتوته لفكرة الموت المبكر، بالانتحار!
أما في رواية (خيول هاربة) فيمكننا متابعة بطله الذي يبدي استعدادا وحماسا
مفرطا للموت في سبيل أفكاره، وفي النهاية يقدم باصرار على قتل نفسه، وفي
الرواية ذاتها تقوم مجموعة الساموراي المتمردة بالانتحار الجماعي، بعد ان
منيت بالهزيمة على يد القوات النظامية، حيث شرع ثمانون من الناجين منهم
باقامة الشعائر التقليدية للانتحار، مما حدا بالجنود الذين كانوا يطاردونهم
الى التباطؤ قي ملاحقتهم كيما يمنحوا لهم الوقت الكافي للانتحار فوق قمة
الجبل. وفي احدى المسرحيات كان ميشيما يمثل دور (ساموراي) ينتحر، أما في
فيلم (شعور وطني) فقد لعب دورا مماثلا في تنفيذ الانتحار، وتصفه الكاتبة
(مارغريت يوسنار) (يظهر ميشيما، نصف عار، معصوب الرأس بالوشاح التقليدي،
شاهر سيف (كندو) مصوبا نحو بطنه النصل الذي سيخترقها يوما ما) وفي البوم
الصور الفوتوغرافية الذي عرض بعد وفاته بعنوان (تعذيب بواسطة الزهور) يبدو
ميشيما في معظمها وهو يتلقى ضروبا مختلفة من الموت على حد تعبير (مارغريت
يوسنار)، لكن من خلال مجمل كتاباته ومسارات حياته يتضح اقتناعه شيئا فشيئا
تصميمه على الموت، بطريقة احتفالية، كما كان يفعل أبطال اليابان القديمة
الذين يتعمدون الموت في دروعهم التي هي من حديد او فولاذ بعد اعتناقهم
لفلسفة الساموراي، ويذكر كتاب سيرة ميشيما ان ستة كتاب يايانيين معروفين
كانوا قد انتحروا قبله، ولكن أحد من هؤلاء الكتاب لم ينتحر بطريقة احتفالية
ووحده ميشيما سيموت بطريقة الـ(سبوكو) العنيفة، (كذلك شهدت اليابان آخر
الانتحارات الكبيرة في فترة الاضطراب والهزيمة أبان الحرب العالمية الثانية
عندما انتحر اميرال (أونيشي) قائد وحدات الكاميكاز والجنرال (آنامي) وزير
الحربية، ومعه نحو عشرين ضابطا كانوا قد انتحروا بطريقة الـ(سبوكو) بعد
استسلام اليابان)، وقد عجل من اندفاع ميشيما على الانتحار، مجمل الوقائع
والأحداث السياسية الخطيرة التي سبقت أو رافقت هزيمة بلاده، بما فيها فترة
الاحتلال الأميركي في أعقاب الحرب، وما تبعها من معاهدات أبقت اليابان في
دائرة النفوذ الأميركي، فضلا عن الحدث الأكبر (المتمقل بإعلان الامبراطور
عن تخليه من صفته كممثل لسلالة الشمس، وعن العصمة وعن اعتبار نفسه ممثلا
للقدرة الالهية)، واعترض ميشيما لتحول الامبراطور من اله الى انسان! (لماذا
أصبح الامبراطور إنسانا؟!) أما التحولات والتغيرات التي تلت هذه المرحلة،
ودفعت باليابان الى التحديث والتصنيع والحياة البرلمانية، كما حصل في قارة
أوروبا، فقد لاقت هذه المظاهر الجديدة معارضة شديدة من (ميشيما) وأتباعه من
فصائل الساموراي، وبقي يشكل مع جماعته أشد النقامين على أوضاع التحديث،
التي من شأنها -كما يرى تلويث (الروح اليابانية) ومسخها، فراح ينادي ويعمل
مع المعترضين على إعادة الاعتبار للامبراطور بوصفه مثلا أعلى، وسعيا للتمسك
والحفاظ بعقيدته المثالية، للدفاع عن روح اليابان، سارع لانشاء جيش خاص
سمي (جماعة كبش الفداء في سبيل الامبراطور) الذي ضم بضع مئات من الرجال،
الذين اتخذوا لهم زيا خاصا، وكان (ميشيما) قد كتب نشيدهم الوطني بنفسه،
وتذكر (مرغريت يوسنار) (ان ميشيما بقي يهيء لموته الاحتفالي لعدة أعوام،
ولما أعد العدة لكل شيء وبات جاهزا، حدد يوم (25) تشين الثاني عام 1970،
وفي هذا اليوم كان يمارس حياته (الاعتيادية حيث قام بتسليم الناشر الجزء
الاخير من روايته الثلاثية، بعد ان استحم وأحلق ذقنه بعناية، في الصباح
الباكر، قام بارتداء بزته النظامية، (لجماعة كبش الفداء) أنها عاداته
اليومية، لكنها في ذلك الصباح اكتسبت رهبة ما، وقبل مغادرة مكتبه ترك على
الطاولة قصاصة ورق كتب عليها (حياة البشر قصيرة، لكني أود ان أحيا الى
الأبد) وبعيد انتحاره قال رئيس الوزراء (لقد كان معتوها)، ووالد ميشيما كان
قد تلقى الخبر الأول من المذياع، وكان رد فعله هو (كم سيسبب لي من متاعب)،
أما زوجته (يوكيو) فقد تلقت الخبر وقالت (أنها تتوقع ما حدث ولكن ليس قبل
سنة او سنتين) لكن الأقوال المؤثرة قالتها والدته أثناء استقبال المعزين
(لا تشفقوا عليه، لأول مرة في حياته فعل ما كان يرغب) مما يذكر (ميشيما)
نفسه حين كتب ذات مرة في عام 1969 (عندما استرجع الأعوام الخمسة العشرين
المنصرمة تمتلكني الدهشة من الفراغ الذي كان يسودها، أكاد لا أستطيع أن
أقول أنني عشت).
كاظم حسوني
تعليقات
إرسال تعليق