حينما يصبح العمل الفني فعلا تحريضيا في إعمال الفنان التشكيلي فلاح العاني / الفنان والناقد علي النجار
حينما يصبح العمل الفني فعلا تحريضيا
في إعمال الفنان التشكيلي فلاح العاني/ الفنان والناقد علي النجار
لم يكن الفنان التشكيلي العراقي فلاح العاني بعيدا عن منجز التشكيل العراقي الحديث, ولم ينسى علاماته البارزة, وهو الذي يقيم في السويد منذ عدة اعوام. كذلك لم يكن بعيدا عن الوسط التشكيلي السويدي في المدينة التي يقطنها(نورشوبن). بل حاول بكل جهده لأن يكون متواجدا ضمن نشاطاته الفنية بما استطاعه من اقامة علاقات متوازنة مع الفنانين والقيمين على هذا النشاط, وبما يوازي ما اكتسبه من المهارات الفنية التي تؤهله واحدا من صناع الفن في مدينته التي يقطنها. وهذه حسنة تحسب له ضمن هذا الوسط التشكيلي الشمالي, بما معروف عنه من صعوبة اختراق من قبل الآخرين, خاصة اللاجئين, او المقيمين الجدد. لكن فلاح استطاع اختراقه بما امتلك من اداة فنية وثقافية انسانية هي قريبة من الحس العام الشمالي, متسلحا بارثه الفني الذي هو ليس ببعيد عن الارث الفني الغربي الحديث وبما اكتسبه من مهارات دراسية جديدة في هذا البلد. وان كان ثمة اختلاف, وهو وارد, كونه مهاجر جديد. فقد ثبته من خلال اختيار بعض ثيمات أعماله من فضاء ارث المعاناة العراقية اليومية المعاصرة. دون اغفال او اقصاء مطلق لبيئة حاضنته المدنية الغربية الجديدة.
تبدو بعض أعمال فلاح, ومنذ الوهلة الأولى, كأنها لم تغادر منظقة اشتغالات السطح الحداثية العراقية بمرجعياتها الحفرية الأوربية المعروفة. لكنه استطاع وبمهارة ان يفلت من أسار فضاء بعدها الواحد الحروفي, وليحفر او ينشأ ابعادا فضائية اخرى. كما انه لم يحاول تكريس, كما التجريد للزمن الحداثي الأول. بل اشتغل على إمكانية احتواء الفضاء الملائم لمفرداته التصويرية بصياغات تعلي من شأن المفهوم ضمن وسط فضاء تجريدي حاضن. ما دام الفعل الفني المعاصر صور قابلة عن الافصاح عن مخبوئات دلالاتها التي هي جزء لا يتجزأ من فعل الحراك الثقافي او السياسي او البيئي المعاصر. بالتأكيد هناك العديد من الامكانيات التنفيذية والتصورية, وكم هائل من الصور الحية المعاشة, او المؤرشفة. لكن وبما ان الفنان اجترأ طريقة تنفيذه لعمله بمرجعيات الف الاشتغال ضمن احيازها الافتراضية. فقد نجح فلاح في انجاز خطابه الفني بمعادله الثقافي والجمالي, ضمن انشائات سطوح عمارته الخاصة.
لا تبتعد اشتغالات أعمال فلاح التشكيلية عن اشتغالات بعض التشكيليين العراقيين المغتربين. إن لم تكن نموذجا واضحا للحالة الاغترابية نفسها. فهي تشتغل على منطقتين مختلفين, لكنهما متجاورتين, بلاد الاغتراب, أو الوطن الجديد(الثاني), وبلده الأم المفقود. بالتأكيد, وحسب مشاهدتي لطبيعة أعماله الفنية السابقة لمرحلة الاغتراب. لم تكن هذه الثنائية موجودة في تلك الفترة الزمنية, ذلك لانعدام الظرف أو الضرورة. لكن وهو يخوض تجربة الاندماج في المحيط الجديد لبلد جديد كل الجدة, ثقافة ومحيط جغرافي. فلابد أن تظهر علامات حوارية جديدة, لا تلغي تاريخه السابق كليا, لكنها تعمق نظرته لمحيطه الجديد. وبما أن تاريخ العراق المعاصر ملغوم بنكباته(حرب, حروب, احتلال, حروب صغيرة مستمرة من تهجير وقتل خرافي النوازع ). وهو الذي خبر كل ذلك قبل هجرته, لذلك بقيت أثارها عالقة في ذهنه وشخصه ولا تزال عصية على النسيان أو الانمحاء, وكما تخبرنا به أعماله الفنية العديدة المكرسة للحدث العراقي والتي بدت تداعيات أثاره واضحة على سطوح أعماله الفنية.
تستقي أعمال فلاح الفنية مصادرها الدلالية من بيئة مدينتين مختلفتين تقع كل منهماعلى خطي عرض مختلفين من الكرة الأرضية. احداهما من المدار المعتدل الشمالي, والثانية من المدار الشمالي. مدينته الأولى هي بغداد وما يجاورها, أما الثانية فهي(نورشوبن). الأولى حفرت آثارها عميقا في ذاكرته, ولا تزال. الثانية احتضنته بعد انعدام ظروف الإقامة في الوطن الأم. وان تكن هذه الإقامة الجديدة لا تتعدى سنواتها أصابع اليد. الا أنها استطاعت أن تحتويه. والإقامة فنا تحمل اشكالياتها التي هي وليدة تراكمات ومستجدات متحركة. فهل استطاع فلاح اكتساب خبراته بتأثير من هذه المستجدات.
لنعاين نماذج من أعماله الأخيرة:
عمله المعنون(بغداد 1 ـ أنشودة الرماد). استوحى ملونته من الرماد, رماديا مسكوبا على سطح العمل الصلب كله وبشريط ابيض في أعلاه يخترقه سرب طائرات هليكوبتر, مخلفة ثقوب سطحية مموهة بأحياز محدودة, ربما هي وجوه فانية غطاها رماد فنائها, أو هي بعض من مخلفات اثر القصف, آثار اطلاقات لا مبالية باصطياد مصائر عاثرة. وبشكل عام, خلق الفنان عالمه الرصاصي الاختزالي, بقسماته الميكانيكية الآلية المستلبة. و اشتغل عمله بوازع من هاجس التوثيق لحرب لم تخلف سوى الرماد, خواء ما بعده خواء. وبالرغم من اختزاليته العالية لتفاصيل موضوع كثيف وصعب كهذا. الا انه استطاع أن يوصل رسالته بكل وضوح.
العمل الثاني معنون(محطة), محطة مترو المدينة كما يراها الفنان. استعمل الفنان الاسمنت لبناء سطح عمله, اشتقاقا من عمارة ممارات المترو. وما بين الرماد افتراضا في عمله السابق ومادة الاسمنت وشائج مظهرية لا تخطئها العين. وان كانت الهشاشة رمادا تتصلب رصاصا في عمله الأول. فان الاسمنت هو الآخر رصاص مسكوب. وان كان نفق المرور للطائرات الحربية ينفذ من علو العمل(اللوحة). فان النفق معدنا(شبكة معدنية) تتوسط هذا العمل شخوص متناسخة وحركات سيرها, ربما لمجهولة مقاصدها أو لمعلومها. استنساخ الحركة الشخصية وتكرارها المروري, ليس لها سوى معنى عدمي, فرغم اختلاف المصائر, السحنات, وملامح الأماكن المختلفة التي يمر بها المترو. الا أن فلاح اشتغل عمله بهادس ارتدادي لم يتجاوز مخلفات ازمنتة الرمادية السابقة. على الرغم من الإمكانية الافتراضية لهكذا صيغة تعبيرية لموضوعة محطة المترو والمارين أو النافذين من خلال احيازها. فهو وبكل الاحوال لم يغادر صيغته التكرارية اللا مبالية في هذه العمل ايضا. مما يؤكد ان اعماله وبشكل عام تحمل بذرة عدميتها من خلال تأكيدها على التكرار القدري لمظهرية الشخوص, مصائر متوحدة ووحشتها.
عادة ما تخصص احياز عديدة في متاحف الحرب والإبادات لصور وثائقية للأسرى المنتهكين أو المبادين ولظروف الإبادة وأماكنها. وثائق تمتد على امتداد جدران العروض. فلاح العاني هو الأخر صنع وثائق الإبادة(قتلى الحروب والتفجيرات في العراق) جدران افتراضية. لكنه مسح وعفر ملامح شخوصها, مثلما عفرتها وحرقتها انتهاكات أزمنة الحرب وتداعياتها. وثائقه( أعماله الفنية ذات الشكل ألجداري) التي حملت عنوان(نشيد الرماد), لا تؤبن موتانا, بقدر ما تعرضها للعلن انتهاكات للذات الإنسانية التي لا تزال مستمرة أثارها التي ملأت الشوارع و لا تزال شاهدا على فجيعتنا. واعتقد أن عرضه هذا أوصل رسالته الإنسانية وبكل وضوح.
في عمله الأحدث(مدينتي) حاول فلاح محاورة منطقة أدائه الجديدة, مراكما ومضيفا تفاصيل اشارية لخرائط المواصلات والأبنية وفضاءات أخرى. وبالرغم من انه لا يزال يفضل الاداء الاختزالي, الا انه وسع من تفاصيل مفرداته في هذا العمل, ليحيط بسعته المحيطية ولو افتراضا, مدينة سكنه. لذلك اشتغل تفاصيله الاشارية المبعثرة على امتداد سطوح عمله المتتابعة والمتراكمة, مستفيدا في نفس الوقت من اثار منطقة أدائه التعبيرية السابقة في تكنيكها و ملونتها واستطاع أن ينتج لنا عملا استوفى شروط إخراجه كعمل فني بيئي معاصر بشروط دلالاته الاشارية, كمحيط بيئة مدنية اخترقتها جغرافيا حقل غاباتها وبحيراتها الشمالية, مساحات هندسية متجاورة و متنافذة. واعتقد انه , وفي هذا العمل بالذات, مثلما استفاد من منطقة أدائه التعبيري التجريدي الاشاراتي السابقة. الا إن مثابرته المستمرة لتشذيب أدائه الفني واغناء أدواته التنفيذية بموادها المختلفة وتطوير مستواه الأدائي ألتقليلي والدال في نفس الوقت, حققت له نتائج متقدمة تؤهل أعماله لأفضل العروض التي تقام في صالات مدينته السويدية وغيرها.
لا تزال ذات الفنان فلاح العاني منشطرة بين ضفتي شواطئها. ما بين السكن الشمالي وفنتازيا بيئته الخضراء, وبين السكن الماضي الملغوم بفناء بيئته وانحلالها. لكنه وكأي ذات فنية تختبر وسائلها التعبيرية عبر دروب مشقة الحياة وسبلها المتشعبة. لم يجد من منفذ لخلاصه الا في الإقامة وسط متاهات مسالك حياته التي خبرت نقائض عوالمها. وما مدوناته الفنية الا جزء من حل لغز الإقامة المتأخرة عبر خطوط الجغرافيا التي ضيعته أو التي التقطته بالصدفة أو بالإرادة التي رصدت صدفتها, والتي صنعت منه فنانا مهاجرا حاول جهده تجاوز ضروف هجرته لكي يقيم في منطقة الفن المحايدة جغرافيا.
........................
ولد فلاح العاني في مدينة بلد / ١٩٦٧ ـ بكالوريوس فنون جميله / جامعة بغداد ١٩٩٢ ـ متخرج من المدرسة العليا للفنون /. السويد ٢٠١٣ ـ أقام خمسة معارض شخصية في كل من بغداد ٢٠٠١ , دمشق. ٢٠٠٧ , ثلاث في السويد, آخرها في عام ٢٠١٢ ـ
معارض مشتركة في كل من العراق, فرنسا ، ايطاليا ، ألمانيا ، الولايات المتحدة, الشارقة ، البحرين ، الأردن ، سوريه ، مصر. ـ
حاصل على عدة جوائز تقديريه من دائرة الفنون في بغداد وحاصل على الجائزة الثانية من وزارة الثقافة في بغداد عام ٢٠٠٦.
عضو في جمعية التشكيليين العراقيين ـ عضو في جمعية KI FiN لفناني مدينة Norrköping ـ عضو جمعية KRO / Stockholm.
.........................
علي النجار
مالمو ـ 2013ـ08ـ14
تعليقات
إرسال تعليق