رسالة إلى مُفكر إسلاميّ مُعاصر: شَهوةُ المُطلق أم شهوةُ الوصَاية؟ / المفكر الجزائري أحمد دلباني




رسالة إلى مُفكر إسلاميّ مُعاصر:

شَهوةُ المُطلق أم شهوةُ الوصَاية؟
Photo : ‎مقطع من رسالة المفكر احمد بوعلام دلباني "الى مفكر اسلامي معاصر "

أكتبُ إليك، صديقي، ويقيني أنَّ ما يصنعُ هُويَّتنا المُشتركة الواحدة ليس الانتماء إلى تاريخ ذي وجهٍ واحدٍ تمَّت كتابتهُ وأسطرته في ديوان السلطان. ما يُؤسِّسُ لهويَّتنا ليس الموقف المبدئي في النظر إلى العالم. فالهُويَّة الثقافية العميقة، برأيي، لا تكمنُ في وحدة الموقف الفكري / الإيديولوجيّ أو الرؤية الثقافية إلى الأشياء بقدر ما تكمنُ في وحدة المُشكلات التي نُواجهُها. نحنُ، عُمقيا، انتماءٌ إلى عالم مأزوم يعيشُ تعثرًا على أعتاب الحداثة منذ اكتشفَ غربته عن تاريخ أصبحَ يُصنعُ عند الآخر. نحنُ هُويَّة ضلت طريقها إلى العصر ولم تتأسَّس على الوعي بضرورة التفكير في الهجرة بعيدًا عن بيت الأب‎
أحمد دلباني

1
صديقي المُفكر،
أكتبُ إليك وكل همّي أن نفتحَ، سويّا، نقاشا إيجابيا حول حضورنا في العالم اليوم، وحول مُشكلاتنا ومُعيقات حوارنا مع اللحظة الحضارية الرَّاهنة. أكتبُ إليك رجاءَ التحديق المسؤول في إشكاليات كثيرة تفرضُ علينا التحلّي بشجاعة المُجابهة مع الذات الموروثة ومع الآخر في الآن نفسِه. إنَّ المرحلة التي نعيشُ تطرحُ تحدياتٍ ضخمة على الوعي الإسلاميِّ الذي نعتقدُ أنه لم يقطع بعدُ – في صورته السّائدة والنمطية - مع بناهُ التقليدية في النظر إلى العالم والتاريخ ومُشكلات المُجتمع والإنسان. لم يقطع الفكرُ الإسلاميّ السَّائد والمُروَّج له مع الموروث الكلاسيكي الجوهرانيّ في النظر إلى مُشكلة المعرفة وقضايا المعنى والقيمة. كأننا نُريدُ أن ندخلَ بهوَ العالم المُعاصر وأن نُسهمَ فيه – إضافة ونقدًا وتفكيكا - دون مُحاولة امتلاك مفاتيحه وأبجدياته التي دشنت عهدًا جديدًا من مُغامرة الإنسان في الوجود. كأننا نُريدُ أن ندخلَ مسرحَ العالم فاعلين مع البقاء خارج التاريخ. كأننا نخافُ مُغادرة بيت المُطلق الذي نشأنا قي زنزانته خشية السقوط في الزمنية. كأنَّ مخيالنا الجمعيّ مسكونٌ أبديا – أمام ضرورة الانفتاح على العصر وانقلاباته - بذكرى مدّ اليد إلى الشجرة المُحرَّمة.
أكتبُ إليك، صديقي، ويقيني أنَّ ما يصنعُ هُويَّتنا المُشتركة الواحدة ليس الانتماء إلى تاريخ ذي وجهٍ واحدٍ تمَّت كتابتهُ وأسطرته في ديوان السلطان. ما يُؤسِّسُ لهويَّتنا ليس الموقف المبدئي في النظر إلى العالم. فالهُويَّة الثقافية العميقة، برأيي، لا تكمنُ في وحدة الموقف الفكري / الإيديولوجيّ أو الرؤية الثقافية إلى الأشياء بقدر ما تكمنُ في وحدة المُشكلات التي نُواجهُها. نحنُ، عُمقيا، انتماءٌ إلى عالم مأزوم يعيشُ تعثرًا على أعتاب الحداثة منذ اكتشفَ غربته عن تاريخ أصبحَ يُصنعُ عند الآخر. نحنُ هُويَّة ضلت طريقها إلى العصر ولم تتأسَّس على الوعي بضرورة التفكير في الهجرة بعيدًا عن بيت الأب. إننا نعرفُ، جميعا، أنَّ الهُوية الواحدة لديكارت ولوك في الفكر الغربيّ الحديث - على سبيل التمثيل - ليست في وحدة الموقف الفلسفيّ وإنما في المُواجهة الواحدة لأزمة الوعي الأوروبيّ الكلاسيكي وهو يُعيدُ تأسيس ذاته في القرن السَّابع عشر بعد فتوحات المعرفة العلمية التي قوَّضت أركانَ الرؤية اللاهوتية / الأرسطية للعالم. إنَّ ما يدفعني إلى التأكيد على هذا، صديقي المُفكر، هو ضرورة الحوار والبحث عن مخارجَ لمآزقنا التاريخية الكثيرة. ولا يكونُ هذا، على ما أرى، إلا بالوقوف على مكامن الأزمة المُعقدة التي تسبَّبت في شللنا التاريخيّ وضمُور فاعليتنا على مسرح العالم.
أعتقدُ، شخصيا، أنَّ جوهرَ المُشكلة يكمنُ في عدم قدرتنا على التثاقف مع العالم ومع الحداثة بالأخص. ورُبَّما هذا ما يدفعُ بنا دفعا إلى ضرورة التفكير في اختراق ذاتنا المورُوثة، نقدًا وتفكيكا، من جهة أولى؛ وتمثل العالم الحديث بفتوحاته وأزماته من جهة ثانية. مُشكلتنا أننا نُريدُ دخول التاريخ والتأثير فيه أو تصحيحَ مساره - إن أمكن - دون أن نتخلى عن خوفنا القديم من "السّقوط" في عالم الصَّيرورة والتغيّر. كأننا لم نعلم، إلى اليوم، أنَّ الحداثة ليست إلا تلك التفاحة التي أغرت الإنسانَ بالسقوط في التاريخ وهَجر بيت المُطلق. كأننا لسنا مأخوذين، أيضا، بمُشكلة الإنسان وتحمّل مسؤولية إعادة التفكير الجدّي في وضعه الوجودي والأخلاقي والسياسي. ما زلنا نُؤسّسُ حكمتنا على إبراز فضائل الآلهة أمام بروميثيوس المُكبَّل. ما زلنا نحتمي بالأب من هجمة التاريخ الذي لم يكن رحيمًا بمدينتنا منذ بدأت تعتبرُ البحثَ والمعرفة والسؤال زندقة وكفرًا؛ ومنذ طفقت تكتبُ عن تهافت العقل أمام جبرُوت المرجعية المُتعالية المعصومة.

2
صديقي المُفكر،
لا ريبَ في أننا نعيشُ كقشة يابسةٍ على هامش نهر التاريخ الهادر. علينا الاعترافُ بذلك. ورُبَّما أصبحنا نُمثل عبئا ديموغرافيا وأمنيا على العالم أيضا. فنحنُ لا نُنتجُ المعرفة. لا نُسهمُ في البحث العلميّ. لا نُقدّمُ نموذجا في أيّ مجال: معرفيا كان أو سياسيا أو اقتصاديا. لا نستطيعُ أن نتدخل في النقاشات المفتوحة حول أزمة القيم في العالم المُعاصر الذي يعرفُ انقلاباتٍ غير مسبُوقة في كل المجالات. لا نكادُ نشعرُ بأزمة المعنى وهي تعصفُ بالغائية الكلاسيكية وتكشفُ عن متاهة الوجود منذ خبا ضوءُ الألوهة في ليل الأزمنة. كأننا مشدُودون بالحبال إلى صخرة الماضي ولا نستطيعُ حِراكا بعيدًا عن دائرة التقليد وسطوته الجهنميَّة؛ وكأننا – من شدَّة جهلنا بأنفسنا - منذورُون دوما لانتظار يقظة بركان مُجتمعاتنا الخامد عُنفا وتمزقا وتفككا.
وماذا عن الحرية والعدالة والمُساواة وحقوق الإنسان؟ من المُؤكد أننا آخرُ من يحقّ له الحديث عن هذه الأمور. كأننا لا نستطيعُ الحديثَ عن قيم الحداثة والأنسنة والديمقراطية وحقوق المرأة والمُواطنة إلا كما نتحدَّثُ عن أورام خبيثة يجبُ استئصالها. فكيف وصلنا إلى هذا الحد من الاغتراب عن مأدبة التاريخ؟ لماذا لم نعُد نشعرُ أننا معنيّون بالانخراط في هذا التاريخ الأرضيِّ ومُجابهة المُشكلات التي يطرحُها بقدر ما أصبحنا نرى فيه هبوطا إلى جحيم الانسلاخ من ذاكرة أمست تُمثل، شيئا فشيئا، ملاذا لنا في عالم اشتدَّت غربته؟ كيف لنا أن نجهرَ باختلافنا مع توجّهاتِ المرحلة ونحنُ لم نستوعب جيّدًا إيقاعَها ولا دلالات انحيازها إلى الإنسان وهو يُزيحُ المُقدَّس المُتعالي القديم عن عرشِه؟
أعتقدُ، صديقي المُفكر، أننا لم نُعِد التفكيرَ في مورُوثنا الدّيني والثقافي بشكل نقديّ / تفكيكي يجعلنا نقفُ على أزمة نظامنا المعرفيّ الذي قام على مركزية المُقدَّس ومرجعية المعنى ونصيَّة الحقيقة بمعزل عن صخب التاريخ. كان علينا أن نفتحَ النقاشَ حول قيمة نظامنا المعرفي الذي كرَّس استبدادَ الحقيقة الدينيَّة وقد أصبحت " غولاغ " يأسرُ المعنى في العوالم المُفارقة واللحظات التدشينيَّة، وينفي الإنسانَ من فضاء المعرفة والفعل والمُبادرة. كان علينا أن نتساءل عن فشلنا الدَّائم في التمهيد للحظة ميلاد " الكوجيتو " العربي / الإسلامي. فهل نستطيعُ بهذه العُدَّة الصَّدئة وهذا الزاد الذي انتهت صلاحيته أن نُحاورَ العالم وأن نكونَ شركاءَ في تقرير مصير العالم والإنسان؟ هل نستطيعُ بهذا الكُساح أن نترُكَ بصمتنا في بناء المدنيَّة الحديثة التي يحلو لنا، كثيرًا، أن نتحدَّث عن أزماتها وانحرافها؟
كيف يُمكنُ أن يتقدَّمَ الفكرُ، صديقي المفكر، دون مُراجعةٍ لمساره باعتباره مُحاولاتٍ لا تنتهي في امتلاك المعنى من خلال التجربة التاريخية؟ كيف لنا أن نكونَ هُوية مُتحركة ومُنفتحة ونحنُ ننكمشُ أمام التاريخ ونجهرُ بإدانتنا للحداثة والتطور المُعقَّد للعالم المُعاصر؟ لماذا نُضمرُ عُنفا أمام مسار الحضارة التي تمحورت حول الإنسان ونعتبرُها "جاهلية جديدة"؟ لماذا أشعرُ، شخصيا، أنَّ فكرنا الإسلاميَّ المُعاصر قوةٌ كابحة للعقل والرّوح والجسد ولا تفتحُ أفقا للمُغامرة الكيانيَّة خارج أستاذية المرجعيات التي قرَّرها الأسلاف وهم يدَّعونَ الحديثَ باسم السَّماء؟ لماذا يُشكل فكرُنا الإسلاميّ المُعاصرُ حِصنا منيعا يحمي قلعة السَّماء الآفلة في عالم لا يحتفي إلا بالأرض وبالتاريخ وقد أصبحَا بيتا للإنسان مكان المُطلق؟
أرى أنَّ الإسلام بكل توجهاته الحالية، الفكرية والسياسيَّة، لا يُمثلُ قوة الرّوح أو ذلك النزوع الحارق إلى تجربة التعالي كما عرفناه عند بعض الأسلاف. أرى أنهُ لا يُمثلُ تطلع العقل إلى المعرفة وتوسيع دائرة الاستكشاف بصورة غير دوغماتية وبشكل مُتضامن مع تراث الآخر. الإسلامُ اليوم لا يُعبّرُ عن "شهوة المُطلق" وإنما عن شهوة السلطة والوصاية والاستبداد وهذا نظرًا لارتباطه بأكثر البنيات السوسيو- ثقافية تخلفا ورجعية ومُحافظة في مُجتمعاتنا. إنه ملجأ للرّوح الخائبة التي لم تستوعب، جيّدًا، زلزال التحديث وهو يُدمّرُ نظامَ مُجتمعنا البطريركيّ القائم على قيم الفحولة ومركزية الذكورة وبنية الإخضاع الهرمية وغياب الفردانية. إنَّ الإسلامَ اليوم ردّ فعل وليس فعلا. فكيف لكم، صديقي المُفكر، أن تكونوا على وفاق مع ظاهرة مُماثلة؟ كيف تستثمرُونَ في الخيبة والفشل واليأس من أجل ضمان نجاح خطابكم السوسيولوجي وهو يُعبّرُ عن الحنق والغضب من غياب العدالة والكرامة في ظل أنظمة الاستبداد؟ كيف لكم أن تتصالحوا مع هذا التوجُه الذي يجعلُ من تدخلكم في الساحة الثقافية ظاهرة سوسيولوجية لا ظاهرة معرفية، ويجعلُ من فكركم "خطابا اجتماعيّا جماعيا" يرزحُ تحت أثقال المُسَلّمات المُختلفة ويفتقرُ إلى شروط التأسيس العلمي / النقدي كما يُعبّرُ البروفيسور الرَّاحل مُحمَّد أركون؟
3
صديقي المُفكر،
لا نُريدُ للإسلام أن يكونَ وسيلة إيديولوجية لمُراقبة التاريخ تُعبّرُ عن تشبّثنا بأوضاع سوسيو- ثقافية آيلةٍ للزوال. لا نُريدُ له أن يكونَ مُحاولة يائسة في التطهُر من "خطيئة" السقوط في الزمنية. لا نُريدُ للإسلام أن يُغامرَ من جديد بادّعاء التعالي المُطلق على الزمنية والتاريخية والنسبية. التاريخُ، كما أرى، لا يُخترَق. هذه أبجدية الإبستيمولوجيا الحديثة الأولى. فكيف لا نستطيعُ الاتفاق على أنَّ التاريخية تشكلُ الغائبَ الأكبر عن فكرنا الإسلاميّ المُعاصر الغارق، إلى اليوم، في المُتعاليات والعوالم المُفارقة؟ لماذا يلبسُ فكرُنا عباءة الثبات الأنطولوجي ويدَّعي إمكانَ تصحيح مسار التاريخ بعصاه السحرية التي تتدلى من شرفة مرجعيات لم يُتح لها أن تخضعَ للنقد؟ لا غروَ في أنَّ الفكرَ المُعاصر – في أوجهه الأكثر طليعية – مثل اختراقا لكل منظومات الفكر المغلقة على ذاتها كقلاع حجرية عتيقة. فماذا فعلنا نحنُ، إلى اليوم، من أجل إنتاج لاهوتٍ جديد لا يتمحورُ حول الماضي وإنما يُحاولُ أن يُعانقَ الصيرورة باعتبارها تجسيدًا للإلهيّ؟ ماذا فعلنا بعد مُحاولات الأسلاف العظيمة في قراءة الوحي الدينيّ وتأويله من خلال تراكم المعرفة والتجربة الغنية مع البشر في الزمان والمكان؟ ما مكانة الإنسان في نظامنا اللاهوتي؟ هل وجدنا له موضعَ قدم بعد قرون من النّفي من فاعليات المعرفة والفعل والحضور؟ كيف لنا أن نفتحَ كُوَّة في ظلمة الزمن التاريخيّ بتغييب الناسوت كليا كما هو حاصلٌ معنا اليوم؟ إنَّ لاهوتا لا يُعيدُ النظر في ماضيه - الذي كان فيه الإنسانُ بلا وجهٍ وبلا ملامح وبلا قيمة - لا يُمكنهُ أن يُشكل، اليوم، مُصالحة مع الحداثة باعتبارها قدرًا جديدًا دشَّنَ مركزية الإنسان؛ ولا يُمكنهُ، كذلك، أن يستوعبَ أزمة المعنى الكبيرة وهو يهجرُ مخدعَ المطلق ليُصبحَ ولادة لا تنتهي في التاريخ والخطاب على السَّواء.
أعتقدُ، صديقي المُفكر، أنَّ فكرنا الإسلاميَّ المُعاصر بقي أسيرًا للسِّجال القديم الذي ميَّز العصورَ الوسطى بين الطوائف المُختلفة وهي تتحصَّنُ بهويَّاتها المُتعالية وتدَّعي امتلاك الحقيقة المُطلقة ومفاتيح الخلاص. نفهمُ، جيّدًا، أنَّ العلاقة بالآخر المُستعمِر كانت أساسية في تحديد توجّهات هذا الفكر وإعطائه بُعدًا سياسيا لا يخفى. أصبحت ردُود الأفعال سِمة على حضورنا غير العقلاني في العالم. أصبح التفكيرُ في الحاكمية والمُحافظة على علاقات القوة التي ميَّزت مُجتمعاتنا التقليدية / البطريركية هاجسا مركزيا ونحنُ نواجهُ التحديث باعتباره تدميرًا مُنتظما لأسُس مُناخنا الثقافي / السيميائي يفتحُ حياتنا على سديم العصور الحديثة. ظل فكرُنا مسكونا بالخوف من ضياع الوجهة وتحطّم بوصلة الاتجاه في مُحيط التاريخ الأهوج. هذا ما يدعونا إلى التأمل، عميقا، في مآل فكرنا وهو ينكمشُ أمام اللحظة وينسجُ شرنقتهُ الخاصة ويتحصَّنُ بهُويته الموروثة في شكلها الأكثر إغراقا في التقليدية. من هنا وجدنا أنفسَنا نقفُ على الفراغ. أضعنا الخيط الواصلَ بابن رشد والرَّازي المعرّي والتجارب الرّوحية من جهة أولى؛ ولم نتمكّن، من جهة ثانية، من احتضان تجربة " الأنوار " الأوروبية وهي تُعيدُ بناءَ الدّلالة على العقل الظافر والمُتقدّم أبدًا نحو السيطرة على الطبيعة وتحرير الإنسان من الاغتراب عن ذاته وتاريخه.
كيف لنا، صديقي المُفكر، أن نُسهمَ في إنقاذ العالم من الغرق في اللاجدوى وفي العدميَّة بفكر يُبشّرُ بعودة العصُور الوسطى وقِيمها؟ لماذا لم نُحدث القطيعة الضروريَّة مع مُناخ الماضي السكولاستيكي السَّابق على هجمة الحداثة وفتوحاتها المعرفية والسياسية؟ ألا تلاحظ معي أننا لم نُعِد النظرَ في مَورُوثنا السياسي / اللاهوتي الذي لم يعرف انبثاق مفاهيم المُواطنة والشعب والعيش المُشترك المبني على التعاقد الاجتماعي؟ ألا تلاحظ معي أننا لم نخرج، بَعدُ، من البنية الطائفية للفكر ومن مفهوم "الأمة الناجية"؟ كأنَّ فكرنا بقيَ عاجزا، إلى اليوم، عن اكتشاف الإنسان واكتشاف السياسة باعتبارها رابطة تتجاوز الانتماءَ الطائفي وحروبَ الأديان الماضية. إنني، صديقي، أستعيدُ هنا بنوع من المرارة مُحاولاتنا الفاشلة، منذ نحو قرنين، في إعادة بناء الرَّابطة السياسية على مفاهيم الوطن الواحد والدستور والحقوق المُتساوية. كان ذلك عهدًا جميلا اتَّسم بنوع من الرُّومانطيقية السياسية التي ظل يتربَّصُ بها الإسلامُ المُستَعاد والمُعبّر عن ردّ فعل المُجتمع الذكوري / التقليدي أمام عالم ناهض سُرعان ما تكشفت هشاشته.

4
صديقي المُفكر،
يبدُو أننا لم نستطع ن نُبلورَ مشروعا عالميَّ الملامح انطلاقا من جذوة الدفعة الخلاقة الأولى التي كانت في أساس انبثاق الإسلام. أعتقدُ أنَّ ثِقلَ التاريخ وثِقل المؤسَّسة الاجتماعية / السياسية وسُمك التراث التأويلي الكلاسيكي – هذه العواملُ كلها لا تسمحُ، في الظروف الحالية، بنفاذ ضوء النقد الكاشف إلى الأقبية المحروسة من قِبل " مُسيّري أمور التقديس " كما يُعبّر ماكس فيبر. ما زلنا أمَّة لم تتنطح للتابو الرَّاسخ في الفضاء العام ولم تتحرَّر من هيمنة المُقدَّس في أشكاله العتيقة. ولكنَّ السؤال الذي يطرحُ نفسه هو: كيف لنا أن نُجدِّدَ تجربة الإسلام مع العالم ومع مُشكلات المعنى ومصير الإنسان دون أن نخلعَ عنه أسمال تجاربه الماضية المُستنفَدة؟ كيف لنا أن نجعلَ الإسلام، من جديدٍ، تجربة كبرى في التاريخ دون مُراجعة شاملة للماضي وصراعاته اللاهوتية والطائفية والسياسية التي تُستعادُ اليوم في ظل غياب العقل النقدي المُدان مُسبقا؟ يبدو، صديقي، أنَّ حجمَ المسؤوليات المطروحة على العقل الإسلامي كبيرٌ جدا ولا يُحتَمل مع انفجار الصّراعات الرَّاهنة التي تتمّ باسم الإسلام ذاته داخليا وخارجيا. إنَّ جنونَ المرحلة يُسفّهُ كل تدخل نقديّ هادئ ومُتَّزن لصالح حضور إسلام يلبسُ عباءة التوحّش السياسي في غابة الصراع الذي لا يخمدُ أواره في منطقتنا العربية / الإسلامية.
ماذا فعلنا، صديقي المُفكر، من أجل الخروج من الطائفية التي تُمزقنا إلى سُنة وشيعة؟ لماذا نُوفرُ دائما لأصحاب المصالح في بلداننا فرصة تمزيقنا بإشعال نار الفتنة الطائفية؟ هل مارسنا - بصورة فكرية جريئة - الحفرَ الأركيولوجي الضروريّ والنقد التاريخي الذي ينزعُ الأسطرة عن تاريخنا ويكشفُ عن الجذور الدنيوية والسياسية / الإيديولوجية لنشأة عقائدنا الطائفية باعتبارها مخيالا خلاصيا ورؤية أسطورية للعالم؟ متى تتمّ لملمة أوصال ذاكرتنا بعيدًا عن صراعات الماضي ومُشكلاته؟ أعتقدُ، صديقي المُفكر، أنك لم تفعل الشيءَ الكثير من أجل تحريرنا من استبداد الذاكرة المُنقسِمة على ذاتها منذ قرون. لم تفعل الشيءَ الكثير من أجل تحريرنا من ثقل التقاليد الألفية، وأراك تسكتُ أمام من يُعيدُ إنتاجَها وتنشيطها.
هذا من جهة أولى، ومن جهة أخرى نلاحظ بقاءَ العلمنة والدنيوة اللامُفكرَ فيه بامتياز في فكرنا الإسلاميّ المُعاصر. العلمنة مفهومة بوصفها ميلادًا للتاريخ المُنتصر على المُطلق، وباعتبارها انتصارًا للنسبية والزمنية وإمكان التقدم الذي يُلغي عصمة الماضي وكماله ومرجعيَّته. هذه هي الحداثة باختصار. الحداثة التي أجبرت الآلهة على الخروج من مسرح الفعل ليولدَ الإنسانُ فاعلا يُجابهُ عالما قابلا للمعرفة والكشف والسيطرة. الحداثة التي أزاحت الشرعيات القديمة لصالح شرعية المرجعية العقلية معرفيا والشعبية سياسيا. ولكن ألا تلاحظ معي، صديقي، أنَّ مفاهيم العقل المُستقل والحريات الفردية والجماعية والإرادة العامة غائبة تماما عن فكرنا الإسلاميّ المُعاصر؟ ألا ترى أنَّ الشعب لا يُمثل، إلى اليوم، مرجعية تتأسَّسُ عليها السلطة السياسية في معظم بلداننا الإسلامية التي تحتكمُ إلى "القانون الإلهي" أو قانون الطائفة الغالبة؟ ألا ترى معي أنَّ إدانة الفكر الحر تجعلُ منا، في العالم اليوم، الأمة الوحيدة التي يُعاني فيها غاليلي من مِحنة الخلود والبقاء منذورًا لتحمّل أعباء الإدانة الأبدية؟ من أيام مُحاكمة العميد طه حسين إلى إدانة تركي الحمد مُرورًا بنصر حامد أبي زيد ظل المُفكر النقدي الحر شهيدًا بالقوة في ظل أنظمة الوصاية الدينية. ألا ترى معي، صديقي، أنَّ سلطة المرجعية الدينية التقليدية تقفُ، دائما، حاجزا أمام التفكير الجدّي في الدولة المدنية؟ ألا ترى كيف أنَّ الحلم بتطبيق "الشريعة الإسلامية" لا يكشفُ إلا عن رغبة المُجتمع الذكوري / البطريركي في استعادة مواقعه وسلطاته ووصايته على الفضاء السوسيو- سياسي الذي احتلته الدولة الوطنية المُتعثرة بفعل شكلانية التحديث وعدم كفايته من أجل القطع نهائيا مع الماضي؟ ألا نلاحظ أنَّ الشريعة التي يُتحدَّثُ عنها - بصورة فضفاضة وغير دقيقة - ليست إلا ذلك القانون الذي أنجزه فقهاءُ وأصوليو العصور الوسطى اعتمادًا على آلياتٍ مثلت اجتهادَ عصرهم في فهم النص المُقدَّس؟ هذا ما يدفعُ بي إلى القول إنَّ أمام المثقف النقدي العربي / المُسلم مسؤولياتٍ ضخمة من أجل تحرير الوعي من الاستلاب أمام المُقدَّس الجاثم بمعزل عن التفكيك والتعرية الأركيولوجية والفهم التاريخي العلمي للأمور.
أنت، صديقي المُفكر، وجهٌ ثقافي وفكريّ وسياسي هيمن على ساحة الوعي الإسلامي العام منذ عشريَّات خلت باسم مشروع أراد تقديمَ نفسه بوصفه بديلا مُنقذا لنا من التعثر التاريخي الذي لازمنا. لقد مثلتَ مشروعَ خلاص للملايين الغاضبة البائسة. ورأيناك تغتبط بانتصارك السوسيولوجي الكاسح أمام أنظمة الدولة الوطنية العربية التي لم تنجح في نقلنا إلى الحداثة وإلى إمكان تحقيق حلم الحرية والعدالة والكرامة والتنمية البشرية الفعلية. نفهمُ هذا الأمر جيِّدًا. لقد كان انتصارُك عدديا / كميا ولكنه لم يكن انتصارًا للمعرفة المُحرّرة. لك يكن انتصارًا للعقل النقدي ولا للإنسان الباحث عن الحرية والتقدم الفكري والسياسي. لم يكن انتصارًا للمرأة العربية المُسلمة التي أردت وأدها في غياهب الوصاية التقليدية. لم يكن انتصارًا لحياتنا الباحثة، أبديا، عن عُشبة الديمقراطية والعيش المُشترك في صحرائنا كجلجامش خائب. ولكن ما السَّبب في ذلك؟ يبدُو، صديقي، أنَّ الذي كان يقودك في مشروعك هو رغبة الهيمنة والوصاية على المُجتمع والمرأة. هو الرغبة الدفينة في تحيين قيم الفحولة والذكورة في مُجتمع تفكك بفعل التحديث وأصبح يهجُرها شيئا فشيئا. هو شهوة مُراقبة التاريخ الأرضي الذي لم يعُد بمقدورك الرَّقصُ مع مارده بأقدامك الكسيحة. لقد كنت تعبيرًا عن مُجتمع خائب وثقافة تصلبت شرايينها منذ تم خنق السّؤال الفلسفي والعلمي على يد العقل الفقهي / المرجعي المُنتصر قي القرون الأخيرة.
لم يعرف الإسلامُ على يديك، صديقي، نهضتَه المنشودة. ظل غريبا عن العالم المُعاصر وعن فتوحات الحداثة ومُشكلاتها من جهة أولى، كما ظل بعيدًا عن الرّوح الخلاقة التي حرَّكت الأسلافَ وهم يمنحُونَ السؤال حق الإقامة في مدينتنا التي خنقها اليقين. لم يكن فكرُك سؤالا يوقظ حياتنا من سُباتها وإنما كهفا نأوي إليه هربا من مُلاحقات حِرابِ العصر ومُشكلاته وتحدّياته. ظل الفكرُ الإسلاميّ المُعاصر معك إعلانَ هُويَّة وانتماء لا سفرًا في مفاوز العالم. ظل احتماءً من قسوة العالم وغربته. ظل يُعاني من الشعور باليُتم من أبوَّة التاريخ. هذا ما جعلهُ يتشبَّثُ بالفراديس الضائعة أو الفراديس الوهمية إن شئنا الدّقة أكثر. كأنك كنت تبحثُ، أيها الفارسُ المُتعَبُ، عن واحة الرَّاحة الأبدية فوجدتها في إلدورادو الماضي وقد أصبحَ أسطورة وجنة تطهَّرت من خطيئة السقوط في "جاهلية التاريخ".
ولكن ألا تعرفُ، صديقي، أنَّ الفكرَ الذي يتمحورُ حول الهُويَّة المُستعَادة لا يُمكنُ أن يكونَ طليعيا ولا يُمكنُ أن يمُدَّ جُسورَهُ الواثقة إلى العالم؟ والغريبُ أنك أردت أن تُمثل نموذجا بديلا لإخفاق البشرية الحديثة في إنقاذ الإنسان ورسم طرُق الخلاص. ورُبَّما وجدناك، فضلا عن ذلك، تحتفي ببعض فضائل ما بعد الحداثة وهي تُدمِّرُ المركزيات وتُعلن غرقَ العالم في سديم النسبيَّة. رأيناك تُحاولُ أن تمسحَ الصَّدأ عن وجهك باسم النسبية الثقافية كي تحتل موقعا لك ضمن من يحملُ مِعولا للإجهاز على حصُون حداثة كلاسيكية سُرعانَ ما كشفت عن أمبرياليتها ورُوح الهيمنة التي تقودُها. كنت صاحبَ حيلة ولم تكن مُفكرًا. أردت أن تدخل العصرَ باسم الدفاع عن الحق في الاختلاف الذي لا تُؤمنُ به، والحق في التعدّدية الذي قضيتَ عُمرك كله تُحاربه. أردتَ أن تُدافع عن الخصوصية الثقافية والحضارية ضدَّ كونية الثقافة الغربية المزعومة ولكنك نسيتَ أنَّ خصوصيتك - التي توقفت عن النماء منذ قرون طويلة - قد جف عودُها وأصبحت هشيما في غابات العصر الوارفة. يكفي أن نتأمَّلَ في خصوصيتك انطلاقا من القيم التي تُبشّرُ بها: كنت تنحاز دوما إلى السَّماء ضدَّ الأرض وإلى الوصاية الدينيَّة ضد الإنسان. كنت المُبشِّرَ بالحاكمية الإلهية غيرَ مُؤمن بمرجعية الشعب وسيادته. ظللتَ تجهرُ بضرورة "تطبيق الشريعة" كما بلورتها القرونُ الوسطى غيرَ آبه بالقانون المُعبِّر عن الإرادة العامة والمصلحة. رأينا فكرَك السياسيَّ يكرِّسُ استبدادَ "الطائفة الناجية" ضدَّ المُواطنة والمُساواة القانونية، ويدعو إلى استعادة أمجاد سلطة الرَّجل الموروثة ردّا على مطالب المرأة بحقها في المُساواة الكاملة والحرية. كنت دوما صاحبَ تبشير لا تفكير. أردت حز رأس العقل على مذبح الإيمان وقد أصبح دوغماتية بلهاء وتكفيرًا وسوطا في يد تاريخ / جلاد يرفضُ أن يموت. سَحرَك نموذجُ الفقيه والمُرشد والشيخ التقليدي لا الفيلسوف أو المُفكر النقدي، ورأيت في المرجعيَّة المعصومة سدًا منيعا يقيك طوفانَ احتجاجاتِ العقل النقدي. لم تفتنك مُغامراتُ الإبحار نحو المجهول في العالم والإنسان ووقعتَ أسيرًا بين يَديْ ندَّاهة ماكرة أشربتك نوستالجيا الأصل وطمست فيك نداءاتِ المُستقبل. تلفعتَ بقدَّاس النهايات الجنائزي ولم تشهد غبطة نشيد البدايات. وبقيتَ تجهرُ: لقد وُلدَ العالمُ من رحم أمي. بينما يعرفُ الجميعُ أنَّ أمك العجوز المريضة جاءت كغيرها إلى هذا العالم. أليس كذلك؟ اسمح لي، إذا، أن أعلنَ يا صديقي عاليا: أنا أختلفُ معك.

5
صديقي المُفكر،
يقولُ المُتصوفُ المُسلمُ الكبير أبو بكر الشّبلي في إحدى شطحاته: "الصوفية أطفالٌ في حِجر الحق". ولكنني، بكل أسفٍ، أراك بعيدًا عن هذا الدَّفق الرّوحي المعرفي الذي جعل بعض المُسلمين - في الماضي – يعيشون تجربة العلوّ ومُطاردة المُطلق كيانيا، وبصُورةٍ عاشقة، بمعزل عن هاجس الوصاية الذي يَسكُنك. أراك بعيدًا عن الذين كانوا مسكونين – كالأطفال - بالدهشة أمام حضرة اللانهاية. كان الإسلامُ معهم تجربة محمُومة في الإلهيّ وظمأ لا يرتوي إلى الكمال الوجودي. كان تمزقا وحرقة وسفرًا مُضنيا إلى الضوء. كان بحثا عن عناق الجوهر الكامن في المظهر. كان رحلة تراجيدية في البحث عن أمومة كونية تردمُ الهوة بين الأنا و الأنت. كان فتوحاتٍ تتمّ بسيف العشق وتُبشّرُ بدين الحب كما شهدنا مع الشيخ الأكبر ابن عربي. لم يكن الإسلامُ مع الأبطال الرّوحيّين هوية مُغلقة مُتعالية تُستخدمُ كسلاح في وجه الآخر المُختلف. لم يكن حربا على العالم وإنما إنقاذا للعالم من خلال إنقاذ الإنسان من غربته الوجودية. فأين أنت من هذا؟ وما مكانة مشرُوعك وقد جعل شهوة الوصاية نزوعا إلى الانتقام من عالم هجرَ فيه الإنسانُ بيتَ الجبلاوي؟
رُبما كانت المُشكلة تتمثلُ في استخدامك الدّينَ وسيلة دنيوية / سلطوية وفي هَجرك للتجربة الدينيَّة. فأنت تعرفُ أنك لم تُخلّص شهوةَ المُطلق فيك من رغبة الهيمنة على الفضاء العام الذي يجبُ أن يسُودَه التعددُ والاختلاف والرَّيبية والنسبية والمنظورية في كل مجالات المعرفة والنقاش من أجل عيش مُشترَكٍ مُتخلّص من الاستبداد والأحادية. أنت تعرفُ أنَّ مشروعك كان سياسيا لا دينيا. كان إعلانَ حربٍ باسم السَّماء على الأرض، وباسم الماضي البطريركي على طفل التاريخ الرَّهيب الذي اغتبط بمَحو الوصايا المُقدَّسة من ذاكرته الغضة. كان مشرُوعُك شجرة ملعونة طلعت في أصل جحيمنا التاريخيّ الذي ورثَ الخيبة والفشل. لم تكن، صديقي، بتدخلك في حياتنا المُعاصرة تُعبّرُ عن معنى جديدٍ قد يُشيعُ النورَ في ظلمة تاريخنا المُتعثر، وإنما كنتَ مُعبِّرًا عن معنى القوة الكابحة الرَّابضة في مُجتمع شائخ مُنهَك لم تتجدَّد مُؤسَّساته ولم يشهد ميلادَ الفرد العربيّ / المُسلم المُستقل فكرًا وعملا. كان حلمك أن تُنقذنا من السّقوط فإذا بك تُجسِّدُ سقوطنا التاريخيّ المُدوّي أمام العالم.

إنني أسألك يا صديقي: متى نعودُ، من جديدٍ، أطفالا في حِجر الحق؟


أحمد دلباني
24 أيلول (سبتمبر) 2013

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)