الدكتور أحمد دلباني لـ ”الخبر” ”الإسلام تحوّل إلى فزاعة تؤرِّقُ حرسَ الحدود الحضارية المُقدَّسة” الثلاثاء 13 جانفي 2015 الجزائر: حاوره حميد عبد القادر
الدكتور أحمد دلباني لـ ”الخبر”
”الإسلام تحوّل إلى فزاعة تؤرِّقُ حرسَ الحدود الحضارية المُقدَّسة”
الثلاثاء 13 جانفي 2015 الجزائر: حاوره حميد عبد القادر
خطاب المُحافظين نتاج لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة
يعتقد أحمد دلباني، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة بسكرة، أن خطاب المحافظين الجدد تغوّل وأصبح يستقطب فئاتٍ عريضة من المُجتمع الغربي، أصبحت ترى فيه تعبيرًا عن مخاوفها وهواجسها الثقافية والأمنيَّة المُتزايدة، مع حضور المُهاجرين من أبناء المُستعمرات والباحثين عن ”الإلدورادو” في أوروبا. واعتبر دلباني مؤلف كتاب ”قداس السقوط” في حوار خص به ”الخبر” أن خطاب المُحافظين نتاج لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة، وهو لا يكشفُ عن عبقرية هذا الفكر بقدر ما يكشفُ عن حيلته في الانكماش بعد تراجع خطاب الكونيَّة.
هل تعتقدُ أنَّ الاعتداءَ على ”شارلي إيبدو” يُعبِّرُ عن صراع تطرف مجموعات مختلفة؟
أريدُ أوَّلا هنا، باعتباري مُثقفا، أن أعبِّرَ عن رفضي الشديد لكل أشكال العنف والإرهاب مهما كانت الأسبابُ والدَّوافع. كما أودّ الإشارة إلى أنَّ إدانة التطرف واجبٌ أخلاقي وإنسانيّ لا يحتمل أبدًا أشكال التردّد التي لاحظناها عند بعض المُثقفين. الحياة الإنسانية قيمة مُطلقة، كما أنَّ حرية التفكير والتعبير والنقد تمثل قيمة أساسية من قيم الحداثة والتنوير، يجبُ أن نناضل جميعا من أجل ترسيخها عندنا في الفضاء العام. أما بخصوص الاعتداء الأخير على صحيفة ”شارلي إيبدو” الفرنسية قبل أيام، أعتقدُ أنه لا يندرجُ ضمن صراع ”أطراف التطرف”، إلا إذا اعتبرنا الكاريكاتور بدوره تطرفا، يجبُ أن يُقابَلَ بالرصاص إن تمادى في فن السخرية. وهذا، تحديدًا، ما يجبُ استنكارهُ في المطلق على ما أرى. إنَّ للمُشكلة، برأيي، جذورًا أعمقَ من مُجرَّد الاعتداء على صحيفةٍ ساخرة نشرت رسوما اعتُبرت مُسيئة لنبيِّ الإسلام. إنها تطالُ الوضعَ العام للجاليات الإسلاميَّة التي تشعرُ – منذ عقودٍ – بنوع من التهميش، ومن عدم قدرة المُجتمعات الغربيَّة على احتضانها بشكل يضمنُ لها الكرامة والحرية والعدالة، بمعزل عن أصولها العرقية والدينيَّة والثقافيَّة بعامة. وبالتالي يجبُ النظرُ إلى المُشكلة في سياقها الأوسع باعتبارها شأنا يتعلقُ بأزمة الثقافة الغربيَّة نفسها، وهي تنكفئُ على قيمها وتغرقُ في نوع من الشوفينيَّة والانغلاق العرقي والثقافيّ، والنظر إلى الآخر بنوع من الريبة والخوف، باعتباره تهديدًا دائما وجسما غريبا، قد يُعكر صفاءَ الهوية الغربية. لعلنا نستطيعُ أن نلاحظ، هنا، أنَّ قيمَ الغرب التاريخية الكبرى كالديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمنة والحريات الفردية والجماعيَّة أصبحت تبدو – شيئا فشيئا – شكلانية وليس لها امتدادٌ اجتماعي واقتصادي، يضمنُ نوعا من المواطنة الفعلية للجميع، مهما اختلفوا عرقيا أو ثقافيا. هذا ما يُفسِّرُ كيف أنَّ الثقافة الحديثة التي تُعتبرُ غربية بالأساس والتي حملت مشروعَ ”الأنوار” الكونيَّ مع الاستعمار - أصبحت اليوم في موقع الدفاع ونراها تحتفي، بصورةٍ مُبالغ فيها أحيانا، بخطابات الهوية والقيم التي تغارُ عليها من ثقافات الوافدين عن طريق الهجرة. هذا ما يُفسِّرُ، أيضا، بروز ”خطاب الحدود” في النقاشات الفكرية بين المُثقفين الفرنسيين مُؤخرًا، كما لاحظنا عند ”ريجيس دوبري” على سبيل التمثيل. لقد حلت الحدودُ محل الكونيَّة وهذا ما أعتبرهُ شخصيا فشلا لمزاعم الأنوار التي لم تستطع أن تُثبتَ جدارتها في احتضان التعدد وتجديد خطابها القائم على نزعة إنسانيَّةٍ، كشفت عن محدوديَّتها وعنصريتها أيضا. ولكن بالمُقابل يجبُ أن لا ننسى مسؤولية المُسلمين جميعا عن تخلفهم، وعدم قدرتهم على إحداث مُصالحة تاريخيَّة مع قيم الحداثة والأنسنة، بعيدًا عن خطابات التكفير والتهييج العنصريِّ والانغلاق الفقهي الموروث عن العصور الوسطى. إنَّ هناك حاجة مُلحة، اليوم، إلى خطابٍ لاهوتيّ إسلاميّ جديدٍ يحتضنُ العصرَ ومُشكلات الإنسان، وينفتحُ على القيم المُتمركزة حول الأنتروبوس وعلى مساءلاتِ العقل الحديث.
أعودُ فأقول، إنَّ التطرفَ والعنف ليسا خصيصة إسلاميَّة بالطبع. فالعنفُ لا يستندُ إلى نص دينيّ يُبرِّرهُ فحسب وإنما، بالأخصِّ، إلى واقع يُنتجهُ. إنَّ للثمرة الخبيثة جذورًا تغذيها ولن يكونَ للسَّماء ذلك البريقُ والجاذبية، إلا إذا كانت الأرض عرجاء وكسيحة أمام مطالب العدالة والكرامة. وفي واقع الأمر يجبُ أن لا يغيبَ عن وعينا أبدًا الظلمُ التاريخيّ الذي عاناهُ العربُ والمسلمون من جرَّاء الاستعمار الغربيِّ، منذ لحظة التدخل المُباشر إلى أشكال الهيمنة الحالية المُرتبطة بالمركز الأمبريالي ومُخططاته في تقسيم مُجتمعاتنا وتفتيتها واستتباعها وإفقارها وإعاقة تطورها ضمانا لمصالحِه وحماية لإسرائيل. كما يجبُ أن لا يغيبَ عنا أنَّ مناخ الغضب واليأس العام، لا يُنتجُ إلا أكثر أشكال التعبير راديكاليَّة في واقع لا تجدُ فيه الذاتُ - فردية كانت أو جماعيَّة - مجالا لتطلعاتها المشروعة إلى الكرامة وانتزاع الاعتراف.
هل معنى هذا أنَّ الغربَ لا يرغبُ في فهم المُسلمين؟
أعتقدُ أنَّ في الغرب قوى ثقافية وسياسيَّة تقدميَّة عديدة تفهمُ جيِّدًا أنَّ جوهرَ الصراع ليس دينيا، وإنما هو صدامٌ يُعبِّرُ عن الانغلاق الهوياتي في عالم أصبح أقل ثقة بالمُستقبل وبالغائيات التاريخية الكبرى، التي طالما سحرتنا بخطاب التفاؤل التاريخي، والتقدم والمصير المُشترك و«الصباحات التي تغني”. هذا الصِّدامُ الذي يُعبِّرُ عن ذاته بالعنف بكل أشكاله يُضمرُ، كما قلت آنفا، فشلا في سياسة الاندماج، ويكشفُ عن حدود الديمقراطيات الغربيَّة وعن بعض أزماتها في إدارة الشأن المُتعلق بالتعددية الثقافية. كما يكشفُ من جهةٍ أخرى، أيضا، عن فشل الطبعة السائدة من الإسلام والمُعبِّرة عن انتماءٍ لا يتجلى إلا في صورة انكماش وملاذٍ في عالم لم يستطع تحقيقَ العدالة أو ضمان شروط أفضل للمواطنة داخل الفضاء العام. فمن المعروف أنَّ الإسلام اليوم لا يعيشُ مُغامراته الحضارية الكبرى التي عرفها في الماضي فكرًا وإبداعا وتثاقفا. إنه هوية تستيقظ لحظة الشعور بالضياع والانسحاق، في عالم تجاوزها كليا لا غير. هذا ما يدعوني إلى اعتبار العنف أو التطرف ردَّ فعل، أحيانا، على التهميش وعلى أوضاع لم تعد تُحت إنَّ الهوية بيتُ المُتعب الخائب من الجانبين. وأعتقدُ– بهذا الصَّدد أنَّ حروبَ الهوية التي تستخدمُ الإرهابَ، تُفصحُ عن تعثر عولمةٍ لم تحقق نهاية سعيدة للتاريخ، كما تكشفُ عن بعض أزمات الليبرالية التي فشلت في تجاوز تناقضاتها، بعد خروجها منتصرة من الحرب الإيديولوجية ”الباردة”. والمُؤسفُ حقا، كما أسلفتُ، أن يتمَّ الاستثمار السياسيّ في أوضاع متأزمة من طرف اليمين الفكري والسياسي معا. فقد لاحظنا مُؤخرًا كيف أنَّ بعض مثقفي الميديا – في فرنسا مثلا – أصبحوا ينتجون خطابا بائسا، يتمحورُ حول الهوية المُهدَّدة، ويرفعُ صلواتٍ تائبة إلى ”الحدود” الثقافية التي طالما تمَّ تغييبها في ميراث الأنوار إبان عنفوانها الأول. أما بالنسبة لليمين السياسيِّ، فالأمرُ واضحٌ وجلي ولا أشك لحظة في أنه يصنعُ سعادة الأحزاب التي ترى وعاءَها الانتخابي ينتعشُ، ويحظى بعودة النعاج الضالة الخائفة من حضور الآخر، وقد تحول إلى فزّاعة تؤرِّقُ حرسَ الحدود الحضارية المُقدَّسة.
ألا ترى أنَّ أفكارَ المُحافظين الجُدد انتقلت من أمريكا إلى فرنسا؟ لماذا يوجدُ استعدادٌ في فرنسا لتقبل هذه الأفكار؟
المُحافظون موجودون دائما في الغرب التاريخي، ويقومُ خطابُهم على إبراز الخصوصية الحضارية، وتفوق القيم الغربيَّة ومُحاولة تأبيد صورة نمطية للنظام الاجتماعي الموروث عن الليبراليَّة التاريخيَّة، والقائم على تقاليد لا يُمكنُ مُراجعتها أو التخلي عنها. وبالتالي فمن المفهوم أن يكونوا أشدَّ الفئات مُعارضة لكل تحول ثقافيّ أو سياسيّ، قد يُعيدُ النظر في أسس العيش المُشترك بالانفتاح على التعددية الثقافية، وجعل الديمقراطية أكثر امتدادًا في المُجتمع، من خلال التجسيد الفعلي لقيم العدالة والمساواة واحترام الاختلاف بكل أصنافه، والانفتاح على مطالب المُهمَّشين التاريخيين في المُجتمع البطريركي المُحافظ. لقد علا الشحوبُ وجه فولتير في فرنسا التي صنعت مجدها على قيمة الحرية وكونيَّة القيم. وكونُ هذا الخطاب اليميني المُتطرف نبعًا فاض عن حدودِ المُختبرات الأمريكية، ليغمُرَ فرنسا يُشيرُ بدوره، دون أدنى شك، إلى الوحدة الحضارية العميقة للغرب الليبرالي بين طرفي الأطلسي، كما هو معروف. ولكنَّ المُشكلة، برأيي، لا تكمنُ في وجود المُحافظين بحدِّ ذاتهم، وإنما في تغوّل خطابهم الذي أتيحَ له أن يستقطبَ فئاتٍ عريضة من المُجتمع، أصبحت ترى فيه تعبيرًا عن مخاوفها وهواجسها الثقافية والأمنيَّة المُتزايدة، مع حضور المُهاجرين من أبناء المُستعمرات والباحثين عن ”الإلدورادو” في أوروبا. هذا ما يدفع بي إلى اعتبار خطاب المُحافظين نتاجا لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة، وهو لا يكشفُ عن عبقرية هذا الفكر، بقدر ما يكشفُ عن حيلته في الانكماش بعد تراجع خطاب الكونيَّة، وتهرّبه من مُجابهة الأسس الفكرية التي قام عليها، في ضوء المُراجعات الشاملة الحاصلة في أكثر أشكال الفكر النقدي المُعاصر طليعية. إنَّ خطابَ المُحافظين الجُدد في فرنسا اليوم ليس خطابا معرفيا / نقديا وإنما هو مُطارحاتٌ تبسيطيَّة تجدُ لها رواجا كأية رواية صبيانيَّة تتحدث عن مخاطر الأطباق الطائرة على الكوكب الأرضيِّ مثلا.
هل ساهم المُثقفون الفرنسيّون اليمينيّون من أمثال برنار هنري ليفي في تأجيج الإسلاموفوبيا في فرنسا؟
من طبيعة الخطاب اليمينيِّ أن يتمحورَ حول ضرورة الدفاع عن القيم الليبرالية التقليديَّة وعن الخصوصيَّة الثقافية والوضع القائم وتقديم التنظير الإيديولوجي / المفهومي المُتماسك لمشروع مُجتمع وأمةٍ يجتهدان في رسم حدودهما الثقافيَّة والحضارية. ولكنني أستغربُ شخصيا، بخصوص حالة برنار هنري ليفي تحديدًا، أن ينحط هذا الفيلسوفُ اليهوديّ الأصل إلى درجة الموظف أو ”الملحق الثقافي/الفلسفي” في مُؤسَّسة الأطلسي الأمبريالية – هو الذي ورث بعضَ وظائف النقد اليهوديِّ الكبير لمركزية العقل الغربيِّ وشموليته وعنصريته منذ سبعينيَّات القرن الماضي. لقد دخل الحظيرة منذ زمن، وتحول إلى خنزير صغير في ضيافة سيرسه التي لن تبخل عليه، بالطبع، بالعلف المُناسب. ويبدو أنَّ تدجينه جعل منه نجما فكريا وقذفَ به إلى الواجهة الإعلاميَّة مُنافحا بصورةٍ فجةٍ عن المشروع الصهيونيّ وعن مُخططات الأمبريالية العالمية في تحطيم بنيات الدول القومية، وتحويل العالم إلى قبائل إثنية ودينيَّة مُتناحرة. هذا الفيلسوفُ، كما هو معروفٌ، لا يستطيعُ أن يُدافعَ عن وجود إسرائيل والاستيطان، أو عن اضطهاد الشعب الفلسطينيّ إلا بالتخويف من الفزاعة الإسلامية، التي أصبحت جاهزة لأداء هذه الدور المُبتذل. إنه يحلمُ بأمن إسرائيل دون أن يتأمل في قضية العدالة التي يجبُ أن تسبقَ ذلك.
-
http://www.elkhabar.com/ar/culture/443357.html
”الإسلام تحوّل إلى فزاعة تؤرِّقُ حرسَ الحدود الحضارية المُقدَّسة”
الثلاثاء 13 جانفي 2015 الجزائر: حاوره حميد عبد القادر
خطاب المُحافظين نتاج لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة
يعتقد أحمد دلباني، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة بسكرة، أن خطاب المحافظين الجدد تغوّل وأصبح يستقطب فئاتٍ عريضة من المُجتمع الغربي، أصبحت ترى فيه تعبيرًا عن مخاوفها وهواجسها الثقافية والأمنيَّة المُتزايدة، مع حضور المُهاجرين من أبناء المُستعمرات والباحثين عن ”الإلدورادو” في أوروبا. واعتبر دلباني مؤلف كتاب ”قداس السقوط” في حوار خص به ”الخبر” أن خطاب المُحافظين نتاج لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة، وهو لا يكشفُ عن عبقرية هذا الفكر بقدر ما يكشفُ عن حيلته في الانكماش بعد تراجع خطاب الكونيَّة.
هل تعتقدُ أنَّ الاعتداءَ على ”شارلي إيبدو” يُعبِّرُ عن صراع تطرف مجموعات مختلفة؟
أريدُ أوَّلا هنا، باعتباري مُثقفا، أن أعبِّرَ عن رفضي الشديد لكل أشكال العنف والإرهاب مهما كانت الأسبابُ والدَّوافع. كما أودّ الإشارة إلى أنَّ إدانة التطرف واجبٌ أخلاقي وإنسانيّ لا يحتمل أبدًا أشكال التردّد التي لاحظناها عند بعض المُثقفين. الحياة الإنسانية قيمة مُطلقة، كما أنَّ حرية التفكير والتعبير والنقد تمثل قيمة أساسية من قيم الحداثة والتنوير، يجبُ أن نناضل جميعا من أجل ترسيخها عندنا في الفضاء العام. أما بخصوص الاعتداء الأخير على صحيفة ”شارلي إيبدو” الفرنسية قبل أيام، أعتقدُ أنه لا يندرجُ ضمن صراع ”أطراف التطرف”، إلا إذا اعتبرنا الكاريكاتور بدوره تطرفا، يجبُ أن يُقابَلَ بالرصاص إن تمادى في فن السخرية. وهذا، تحديدًا، ما يجبُ استنكارهُ في المطلق على ما أرى. إنَّ للمُشكلة، برأيي، جذورًا أعمقَ من مُجرَّد الاعتداء على صحيفةٍ ساخرة نشرت رسوما اعتُبرت مُسيئة لنبيِّ الإسلام. إنها تطالُ الوضعَ العام للجاليات الإسلاميَّة التي تشعرُ – منذ عقودٍ – بنوع من التهميش، ومن عدم قدرة المُجتمعات الغربيَّة على احتضانها بشكل يضمنُ لها الكرامة والحرية والعدالة، بمعزل عن أصولها العرقية والدينيَّة والثقافيَّة بعامة. وبالتالي يجبُ النظرُ إلى المُشكلة في سياقها الأوسع باعتبارها شأنا يتعلقُ بأزمة الثقافة الغربيَّة نفسها، وهي تنكفئُ على قيمها وتغرقُ في نوع من الشوفينيَّة والانغلاق العرقي والثقافيّ، والنظر إلى الآخر بنوع من الريبة والخوف، باعتباره تهديدًا دائما وجسما غريبا، قد يُعكر صفاءَ الهوية الغربية. لعلنا نستطيعُ أن نلاحظ، هنا، أنَّ قيمَ الغرب التاريخية الكبرى كالديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمنة والحريات الفردية والجماعيَّة أصبحت تبدو – شيئا فشيئا – شكلانية وليس لها امتدادٌ اجتماعي واقتصادي، يضمنُ نوعا من المواطنة الفعلية للجميع، مهما اختلفوا عرقيا أو ثقافيا. هذا ما يُفسِّرُ كيف أنَّ الثقافة الحديثة التي تُعتبرُ غربية بالأساس والتي حملت مشروعَ ”الأنوار” الكونيَّ مع الاستعمار - أصبحت اليوم في موقع الدفاع ونراها تحتفي، بصورةٍ مُبالغ فيها أحيانا، بخطابات الهوية والقيم التي تغارُ عليها من ثقافات الوافدين عن طريق الهجرة. هذا ما يُفسِّرُ، أيضا، بروز ”خطاب الحدود” في النقاشات الفكرية بين المُثقفين الفرنسيين مُؤخرًا، كما لاحظنا عند ”ريجيس دوبري” على سبيل التمثيل. لقد حلت الحدودُ محل الكونيَّة وهذا ما أعتبرهُ شخصيا فشلا لمزاعم الأنوار التي لم تستطع أن تُثبتَ جدارتها في احتضان التعدد وتجديد خطابها القائم على نزعة إنسانيَّةٍ، كشفت عن محدوديَّتها وعنصريتها أيضا. ولكن بالمُقابل يجبُ أن لا ننسى مسؤولية المُسلمين جميعا عن تخلفهم، وعدم قدرتهم على إحداث مُصالحة تاريخيَّة مع قيم الحداثة والأنسنة، بعيدًا عن خطابات التكفير والتهييج العنصريِّ والانغلاق الفقهي الموروث عن العصور الوسطى. إنَّ هناك حاجة مُلحة، اليوم، إلى خطابٍ لاهوتيّ إسلاميّ جديدٍ يحتضنُ العصرَ ومُشكلات الإنسان، وينفتحُ على القيم المُتمركزة حول الأنتروبوس وعلى مساءلاتِ العقل الحديث.
أعودُ فأقول، إنَّ التطرفَ والعنف ليسا خصيصة إسلاميَّة بالطبع. فالعنفُ لا يستندُ إلى نص دينيّ يُبرِّرهُ فحسب وإنما، بالأخصِّ، إلى واقع يُنتجهُ. إنَّ للثمرة الخبيثة جذورًا تغذيها ولن يكونَ للسَّماء ذلك البريقُ والجاذبية، إلا إذا كانت الأرض عرجاء وكسيحة أمام مطالب العدالة والكرامة. وفي واقع الأمر يجبُ أن لا يغيبَ عن وعينا أبدًا الظلمُ التاريخيّ الذي عاناهُ العربُ والمسلمون من جرَّاء الاستعمار الغربيِّ، منذ لحظة التدخل المُباشر إلى أشكال الهيمنة الحالية المُرتبطة بالمركز الأمبريالي ومُخططاته في تقسيم مُجتمعاتنا وتفتيتها واستتباعها وإفقارها وإعاقة تطورها ضمانا لمصالحِه وحماية لإسرائيل. كما يجبُ أن لا يغيبَ عنا أنَّ مناخ الغضب واليأس العام، لا يُنتجُ إلا أكثر أشكال التعبير راديكاليَّة في واقع لا تجدُ فيه الذاتُ - فردية كانت أو جماعيَّة - مجالا لتطلعاتها المشروعة إلى الكرامة وانتزاع الاعتراف.
هل معنى هذا أنَّ الغربَ لا يرغبُ في فهم المُسلمين؟
أعتقدُ أنَّ في الغرب قوى ثقافية وسياسيَّة تقدميَّة عديدة تفهمُ جيِّدًا أنَّ جوهرَ الصراع ليس دينيا، وإنما هو صدامٌ يُعبِّرُ عن الانغلاق الهوياتي في عالم أصبح أقل ثقة بالمُستقبل وبالغائيات التاريخية الكبرى، التي طالما سحرتنا بخطاب التفاؤل التاريخي، والتقدم والمصير المُشترك و«الصباحات التي تغني”. هذا الصِّدامُ الذي يُعبِّرُ عن ذاته بالعنف بكل أشكاله يُضمرُ، كما قلت آنفا، فشلا في سياسة الاندماج، ويكشفُ عن حدود الديمقراطيات الغربيَّة وعن بعض أزماتها في إدارة الشأن المُتعلق بالتعددية الثقافية. كما يكشفُ من جهةٍ أخرى، أيضا، عن فشل الطبعة السائدة من الإسلام والمُعبِّرة عن انتماءٍ لا يتجلى إلا في صورة انكماش وملاذٍ في عالم لم يستطع تحقيقَ العدالة أو ضمان شروط أفضل للمواطنة داخل الفضاء العام. فمن المعروف أنَّ الإسلام اليوم لا يعيشُ مُغامراته الحضارية الكبرى التي عرفها في الماضي فكرًا وإبداعا وتثاقفا. إنه هوية تستيقظ لحظة الشعور بالضياع والانسحاق، في عالم تجاوزها كليا لا غير. هذا ما يدعوني إلى اعتبار العنف أو التطرف ردَّ فعل، أحيانا، على التهميش وعلى أوضاع لم تعد تُحت إنَّ الهوية بيتُ المُتعب الخائب من الجانبين. وأعتقدُ– بهذا الصَّدد أنَّ حروبَ الهوية التي تستخدمُ الإرهابَ، تُفصحُ عن تعثر عولمةٍ لم تحقق نهاية سعيدة للتاريخ، كما تكشفُ عن بعض أزمات الليبرالية التي فشلت في تجاوز تناقضاتها، بعد خروجها منتصرة من الحرب الإيديولوجية ”الباردة”. والمُؤسفُ حقا، كما أسلفتُ، أن يتمَّ الاستثمار السياسيّ في أوضاع متأزمة من طرف اليمين الفكري والسياسي معا. فقد لاحظنا مُؤخرًا كيف أنَّ بعض مثقفي الميديا – في فرنسا مثلا – أصبحوا ينتجون خطابا بائسا، يتمحورُ حول الهوية المُهدَّدة، ويرفعُ صلواتٍ تائبة إلى ”الحدود” الثقافية التي طالما تمَّ تغييبها في ميراث الأنوار إبان عنفوانها الأول. أما بالنسبة لليمين السياسيِّ، فالأمرُ واضحٌ وجلي ولا أشك لحظة في أنه يصنعُ سعادة الأحزاب التي ترى وعاءَها الانتخابي ينتعشُ، ويحظى بعودة النعاج الضالة الخائفة من حضور الآخر، وقد تحول إلى فزّاعة تؤرِّقُ حرسَ الحدود الحضارية المُقدَّسة.
ألا ترى أنَّ أفكارَ المُحافظين الجُدد انتقلت من أمريكا إلى فرنسا؟ لماذا يوجدُ استعدادٌ في فرنسا لتقبل هذه الأفكار؟
المُحافظون موجودون دائما في الغرب التاريخي، ويقومُ خطابُهم على إبراز الخصوصية الحضارية، وتفوق القيم الغربيَّة ومُحاولة تأبيد صورة نمطية للنظام الاجتماعي الموروث عن الليبراليَّة التاريخيَّة، والقائم على تقاليد لا يُمكنُ مُراجعتها أو التخلي عنها. وبالتالي فمن المفهوم أن يكونوا أشدَّ الفئات مُعارضة لكل تحول ثقافيّ أو سياسيّ، قد يُعيدُ النظر في أسس العيش المُشترك بالانفتاح على التعددية الثقافية، وجعل الديمقراطية أكثر امتدادًا في المُجتمع، من خلال التجسيد الفعلي لقيم العدالة والمساواة واحترام الاختلاف بكل أصنافه، والانفتاح على مطالب المُهمَّشين التاريخيين في المُجتمع البطريركي المُحافظ. لقد علا الشحوبُ وجه فولتير في فرنسا التي صنعت مجدها على قيمة الحرية وكونيَّة القيم. وكونُ هذا الخطاب اليميني المُتطرف نبعًا فاض عن حدودِ المُختبرات الأمريكية، ليغمُرَ فرنسا يُشيرُ بدوره، دون أدنى شك، إلى الوحدة الحضارية العميقة للغرب الليبرالي بين طرفي الأطلسي، كما هو معروف. ولكنَّ المُشكلة، برأيي، لا تكمنُ في وجود المُحافظين بحدِّ ذاتهم، وإنما في تغوّل خطابهم الذي أتيحَ له أن يستقطبَ فئاتٍ عريضة من المُجتمع، أصبحت ترى فيه تعبيرًا عن مخاوفها وهواجسها الثقافية والأمنيَّة المُتزايدة، مع حضور المُهاجرين من أبناء المُستعمرات والباحثين عن ”الإلدورادو” في أوروبا. هذا ما يدفع بي إلى اعتبار خطاب المُحافظين نتاجا لأزمةٍ تعيشها الثقافة الغربيَّة، وهو لا يكشفُ عن عبقرية هذا الفكر، بقدر ما يكشفُ عن حيلته في الانكماش بعد تراجع خطاب الكونيَّة، وتهرّبه من مُجابهة الأسس الفكرية التي قام عليها، في ضوء المُراجعات الشاملة الحاصلة في أكثر أشكال الفكر النقدي المُعاصر طليعية. إنَّ خطابَ المُحافظين الجُدد في فرنسا اليوم ليس خطابا معرفيا / نقديا وإنما هو مُطارحاتٌ تبسيطيَّة تجدُ لها رواجا كأية رواية صبيانيَّة تتحدث عن مخاطر الأطباق الطائرة على الكوكب الأرضيِّ مثلا.
هل ساهم المُثقفون الفرنسيّون اليمينيّون من أمثال برنار هنري ليفي في تأجيج الإسلاموفوبيا في فرنسا؟
من طبيعة الخطاب اليمينيِّ أن يتمحورَ حول ضرورة الدفاع عن القيم الليبرالية التقليديَّة وعن الخصوصيَّة الثقافية والوضع القائم وتقديم التنظير الإيديولوجي / المفهومي المُتماسك لمشروع مُجتمع وأمةٍ يجتهدان في رسم حدودهما الثقافيَّة والحضارية. ولكنني أستغربُ شخصيا، بخصوص حالة برنار هنري ليفي تحديدًا، أن ينحط هذا الفيلسوفُ اليهوديّ الأصل إلى درجة الموظف أو ”الملحق الثقافي/الفلسفي” في مُؤسَّسة الأطلسي الأمبريالية – هو الذي ورث بعضَ وظائف النقد اليهوديِّ الكبير لمركزية العقل الغربيِّ وشموليته وعنصريته منذ سبعينيَّات القرن الماضي. لقد دخل الحظيرة منذ زمن، وتحول إلى خنزير صغير في ضيافة سيرسه التي لن تبخل عليه، بالطبع، بالعلف المُناسب. ويبدو أنَّ تدجينه جعل منه نجما فكريا وقذفَ به إلى الواجهة الإعلاميَّة مُنافحا بصورةٍ فجةٍ عن المشروع الصهيونيّ وعن مُخططات الأمبريالية العالمية في تحطيم بنيات الدول القومية، وتحويل العالم إلى قبائل إثنية ودينيَّة مُتناحرة. هذا الفيلسوفُ، كما هو معروفٌ، لا يستطيعُ أن يُدافعَ عن وجود إسرائيل والاستيطان، أو عن اضطهاد الشعب الفلسطينيّ إلا بالتخويف من الفزاعة الإسلامية، التي أصبحت جاهزة لأداء هذه الدور المُبتذل. إنه يحلمُ بأمن إسرائيل دون أن يتأمل في قضية العدالة التي يجبُ أن تسبقَ ذلك.
-
http://www.elkhabar.com/ar/culture/443357.html
تعليقات
إرسال تعليق