"الفن المعاصر وإملاءات المؤسسة والاستشراق الجديد." / د. سامي بن عامر


Sami Ben Ameur
"الفن المعاصر وإملاءات المؤسسة والاستشراق الجديد."

مقال نشر بملحق تشكيل بالجريدة العراقية "الصباح الجديد" .الاثنين  5 جانفي 2015

نتطرق في هذه المداخلة الى مقاربة حول علاقة الفن المعاصر بالمؤسسات الدولية المنظمة له. وسنبحث في طبيعة هذه العلاقة التي تربط هذه المؤسسات بالتيارات الفنية المعاصرة ، انطلاقا من أمثلة من الممارسات لمجموعة من الفنانين من اصل عرب وايراني وخصوصا ممن هم مقيمون في الغرب والذين وجدوا مكانتهم ضمن سوق الفن الدولية بعد احداث 11 سبتمبر 2001.

وما يمكن ملاحظته انطلاقا مما يقره عديد الباحثين والمهتمين، هو أننا أصبحنا اليوم نواكبفنا معاصرا بات يدعي الشمولية والكونية وينضوي ضمن تنظيم عالمي محكم تحدد توجهاتها لمؤسسات المنظمة للسوق الدولية. اذ  يؤكد"فراد فوراست"  Fred FOREST أن الفن المعاصر هو "حقل مراقب، مدبر ومدروس بحنكة ومنضوي ضمن قرارات نابعة من متحكمي السوق وعالم الفن المعاصر والذي لديهم اليد العليا في كل ما يمس  هذا القطاع الإبداعي [1]"

نحاول اذا، فهم مدى صحة هذه المقولة وكيف تصبح هذه المؤسسات المتحكمة في عالم الفن  قادرة على التاثير على الفنانين وعلى تحويل وجهة الفن وتنميطه، متسائلين عن اهمية هذا المعطى في كل مقاربة نقدية تحاول تناول مسالة الفن المعاصر.

والمعلوم ان الفن المعاصر الذي استمد جذوره من الدادائية، انطلق ناقدا ومحيرا ومشاكسا ومغيرا للتعريف التقليدي للفن ومصطدما بالمؤسسات الرسمية، وهو ما نلاحظه في المقاربات لفناني "البوب آرت" و"اللاندآرت" مثلا، إلا أن آليات السوق التجارية للفن، سرعان ما استطاعت تحويل وجهة هذا التّمشّي النّقدي  نحو ما تفرضه مصالحها التجارية، مما جعل هذهالاتجاهات الفنية المعاصرة في تناقض تام مع أهدافها الأولية التي أسست من اجلها والتيراهنت على مواجهة سلطة وسطوة المؤسسات والسوق.

وما نلاحظه بداية،انه ومنذ أحداث سبتمبر 2001، تم الاهتمام بعديد الفنانين المنتمين الى بلدان اسلامية والذين يعيش غالبهم في الغرب ليصبحوا بصفة مفاجئة منضوين ضمن سوق الفنالدولية للفن المعاصر  والذي باتت حكرا على البلدان الغربية منذ امد طويل. ولعل هذا التاريخ، يضعنا لا محالة في إطار سياسي،مثّل منطلقا لتحولات جذرية على الصعيد العالمي. فقد مثل مؤكدا بداية تنفيذ مشروع الشرق الاوسط الجديد والذي أفضى الى غزو افغانستان والعراق، وكلنا يعرف البقية...وما هو جدير بالذكر والملاحظة،  انه تم توجيه هؤلاء الفنانين  نحو مواضيع مختارة مسبقا تمس العالم الإسلامي والعربي بالخصوص من وجهة نظر نقدية، كموضوع الهويةوالمرأة في المجتمع الإسلامي والتطرف الديني بطريقة جعلت اغلبهم يتوجه نحو نفس هذاالاهتمام متبنين مقاربة فنية اجتماعية تتشابه  في اسلوبها ومضمونها. فهل يمثل هذا تعبيرا عن الطابع الثوري لهذه المؤسساتالتي تسعى الى إبراز هذه التجارب الفنية الطلائعية أم أنه يدخل أيضا في إطار ما أسميناه بتحويل الوجهة، خدمة لاستراتيجيات تخدم مصالح هذه المؤسسات المادية والإيديولوجيةوالسياسية أيضا؟

ولنا في هذاالسياق عديد الأمثلة:

فالفنان المغربي مُنير فاطمي قدم مشروعا سنة 2003 بعنوان "إنقاذ مانهاتن"  Save Manhattan  في شكل تنصيبة  وظف فيها صورة تتكون من ظلال لمجموعة من الكتب المجمعة والمرصوفة عموديا فوق طاولة والتي تتوسطها نسختان كبيرتان من القرآن الكريم واللتان تنتصبان بطريقة متوازية وعمودية لتعكس في الجانب الآخر ضلالا، راسمة طيفي برجي التجارة العالمية. أما العراقي عادل عابدين فقد أبرز في تجربة بعنوان «جهاد» صورا لجهاديين انتحاريين إسلاميين. كما يمكن استحضار أمثلة من بعض الأعمال التيتطرقت فيها منى حاطوم الى نقد المجتمع الإسلامي مثل "قيس المسافة". أماالفنانة شرين نشاة الايرانية والمقيمة بلندن، فقد اهتمت بموضوع المرأة الايرانية فقدمتها في صور فوتوغرافية تحت عنوان "نساءالله  «women of Allah». في شكل أجساد بائسة تلتحفن السواد. كما نستحضرفي هذا الإطار تجربة الفنانة الفلسطينية رائدة سعادة التي تعيش في القدس والتيركزت في جل أعمالها الفوتوغرافية على موضوع رئيسي مرتبط بوضعيتها كمرأة في مجتمعإسلامي متمزق ومتناقض. والأمثلة في هذا المجال متعددة.

وقد نتفق مع هؤلاء الفانين،ومع رؤاهم الاجتماعية، فالمجتمعات الإسلامية لا تخلوا حقا من شوائب، إلا اننا نقف متسائلين امام طابعها الإملائي الممنهج، مما يكشف عن أبعادها الإيديولوجية والسياسية المسبقة.كما نتبين تناقضا في بعضها قد يفصح عن فحواها، فمثلا ما نتبينه من خلال موقف رائدة سعادة التي تعيش في القدس المحتلة والذييتضح أن المسالة الأساسية بالنسبة لها ليست في الاستعمار الإسرائيلي بقدر ما هي في التخلص من القوى المكبلة للمرأة  والمفروضة عليها في المجتمع الإسلامي.

 ان العالم الغربي قد فرض على الفنانين المنتمين الى بلدان اسلامية والمقيمين في الغرب خصوصا، ان يجيبوا عن السؤالين التاليين: من انتم؟  ومن أين أيتم؟ وذلك مقابل انخراطهم في السوق الدولية العالمية. ألا يمثل هذا مشروعا لنحت صورة للعالم العربي الإسلامي وفق تصور مسبق قد يخدم أجندة سياسية تدخل ضمن مخطط جيوسياسي محدد لم يتوانى هو ذاته في استخدام التطرف الديني، لتقسيم المقسم ومزيد السيطرة والنفوذ؟

ففي حوار   في مجلة "جون افريك"مع فيرونيك ريفال Véronique Rieffel صاحبة كتاب ايسلامانيا Islamania [2] ، وردّا على السؤال: كيف تفسرينما يسمى بفن ما بعد 11 سبتمبر؟ أجابت فيرونيك مشيرة إلى الفنانين العرب والمقيمين فيالغرب، الآتي: "كان ينظر للفنانين الذين يحملون ألقابا عربية من طرف الآخروالجمهور، على أنهم فنانون مسلمون، وقد اجبروا على ارتداء هذه التسمية. هم أنفسهم تساءلوا عن هويتهم، لقد قادوهم إلى إعادة تعريف أنفسهم." [3]

السنا أمام توجه استشراقي جديد، ليس خاليا من الاستعلاء والتشويه والفهم الخاطئ والرغبات والتوقعات والايديولوجيا والذي بصدد صناعة صورة للشعوب الاسلامية والعربية منها بالخصوص؟ فلقد سبق ان بين المفكر الأمريكي ادوارد سعيد من أصل فلسطيني  في كتابه "الاستشراق" 1978 ان كل هيمنة تنتج نظاما تصويريا خاصا بها، تغذيه وتطوره. ولعلنا اليوم نعيش مسالة الاستشراق في أشكال مختلفة ومن خلال مصطلحات مغايرة ، باعتبار ان صراعالحضارات بيّن أن التحول في التسعينات من القرن العشرين، يسعى إلى خلق إيديولوجيات جديدة معوّضة.

ولقد تفطن بعض الفنانين العرب لهذا الصنف الجديد من الاستشراق الذي تسعى المؤسسات الدولية الىفرضه على الفنانين من دول اسلامية ومقيمين في الغرب. من بينهم ماجدة خطاري من اصل مغربي والتي اعارت  لموضوع"الاستشراق" اهتماما خاصا وتناولته على طريقتها.  وقد أنجزت سلسلة  من الأعمال تضمنت  مشاهد حميمية لنساء متبرجات في فضاءات داخلية عربية إسلامية كما صورت   وضعيات متناقضة اين نشاهد  نساء مرتديات للبرقع وماسكاتب قنابل يدوية.  ولعل  خطاري تريد أن تفهمنا أن الغرب الذي كان منبهرا بجمال المرأة الشرقية المتعرجة، أصبح مهتما بصورة أخرى لها والتي أصبحت مرعبة. ان ماجدة خطاري ترى أن  الاستشراق لم يختف. وهي بذلك تقدم لنا صورة للاستشراق الجديد الذي بدا يظهر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. إنها ترى إن الاستشراق قد تحول منالتمثيل المهين للحريم، إلى التمثيل المرعب للمرأة المسلمة الانتحارية.


ودعنا أيضا نزور احدالتظاهرات الدولية الفنية المقامة حاليا في دولة قطر لمعاينتها ولابراز ما خفيفيها.

فشرين نشأت  التي نقدت وضعية المراة في العالم الاسلامي، تقدمالآن وبداية من شهر نوفمبر 2014  معرضها الشخصي بمتحف الفن العربي في الدوحة، وقد استلهمت فيه صورا من ملحمة الشاهنامة (كتابالملوك) تلك التي كتبها الفردوسي في العصر العباسي الأول، والذي ندد فيها بملوك الفرس الذين فرطوا في الامبراطورية الفارسية لصالح العرب المسلمين والذين الحق بهمالشتائم في كتابه هذا. وهو ما جعل من هذا الكتاب رمزا للقومية الفارسية. ونفهم منكل هذا  أن شرين  نشات قد ذهبت الى قطر لتذكر العربالمسلمين  وهم في عقر دارهم، بانهم المتسببون في تأخر الحضارة الفارسية. فما الذي جعل القطريين يستقبلون مثل هذاالمعرض العنصري الشاتم لهم ولبقية العرب المسلمين؟ وهل من علاقة أيضا بما سبق ما أنجزتهشرين نشأت.؟ واي اجندات يخدمها هذا الموقف؟ أجندات معقدة اكيدا. الا انها منالثابت سياسية و اقتصادية وإيديولوجية بالأساس.


يبدو اذا من خلال الأمثلة التي استعرضناها، أن الفن المعاصر الذي تستخده  المؤسسات الدولية، بعد ان تحدد اتجاهاته ومواضيعه، اصبح يمثل سلاحا استراتيجيا لنظام سياسي واقتصادي وعالمي يسعى الى ضمان ديمومته ويعمل وفق منطلقات مرتبطة باستراتيجيات جيو سياسية لنظام تنتسب اليه. لذلك نرى انه لا مجال من تناول دراسة مسالة الفن المعاصر عموما اليوم، دون ربطه بهذه العلاقة التسلطية التي تربطه بجملة هذه الآليات المؤسساتية المتحكمة في غالبيته.. ولعل هذا يعتبر من المسكوت عنه في جل الدراسات المخصصة للفن المعاصر، لا سيما ما تعلق بالتجارب العربية. ومؤكدا ان هذا يتطلب مناجميعا مزيد البحث والتحليل والمراجعة والوعي بخصوصية المرحلة التي نعيش فيها، لبناءخطاب نقدي موضوعي خدمة لفن نريده ان يكون في منأى عن كل تأثيرات خارجية محولة لوجهته. فن يبقى بالأساس وعدا لحرية الفرد وبصمة لإنسانيته وعاملا أساسيا لتفعيل الحوار الكوني.

أ‌.       د والفنان التشكيلي سامي بن عامر

ملحق "تشكيل" في نسخته الثالثة الصادر مع صحيفة " الصباح الجديد "
http://www.newsabah.com/wp/newspaper/32903

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح