عن «ضياع المعنى» في أطروحة ما بعد الحداثة: ارتجاف الدالّ وعماء التأويل / عبد اللطيف الوراري
عن «ضياع المعنى» في أطروحة ما بعد الحداثة: ارتجاف الدالّ وعماء التأويل
عبد اللطيف الوراري*
15/08/2016
داخل فلسفته التي أقامها على استراتيجيات التفكيك، ركز جاك دريدا على ميتافيزيقا الغياب، وهو يدرس العلامة ويحدد آليات حدوث الدلالة فيها. بالنسبة إليه، تؤكد العلامة غياب الشيء الذي تُحدّده. وبالتالي، فالمُحدِّد للمعنى يعني ضرورة نفي إمكان حدوث معنى مُحدَّد أو حرفي.
هكذا بدلا من الدلالة نُواجَه بالاختلاف، وبدلا من المعنى نُواجَه بالإرجاء المستمرّ له؛ إنّ الرابط بين الدال والمدلول، الذي أدّى عند سوسير إلى وحدة العلامة لم يعد، بأيّ حال من الأحوال، أكيدا أو مُطيعا. إنّ دريدا مهتمٌّ على وجه التحديد بحركة الانتقال التي تُؤجِّل وصول المدلول بصفة دائمة. ما يحدث هو عملية لعب وعدم استقرار دائمَيْن في التحرُّك المستمر على جانبي الفاصل. وفي هذا الصدد، يُعبّر دريدا عن مالارميه بشكل رائع عن ارتجاف الدالّ الذي يقود إلى انشطار المدلول وإرجائه.
لقد أكدت أطروحة دريدا مراوغة المدلول المستمرة للدالّ، وهو ما يعني استحالة «تثبيت» معنى ما للنص؛ لأنّ المدلول في ظل ذلك المفهوم يتحوّل إلى دالٍّ لمدلولٍ آخر يتحوّل بدوره إلى دالٍّ لمدلولٍ آخر وهكذا إلى ما لانهاية، في غياب مرجعٍ محدَّد تشير إليه، أو مركزٍ خارجيّ يعطي الأشياء شرعيتها ويمكن اللغة من الدلالة. ولقد كان ذلك إيذانا بـ«ضياع المعنى» في أطروحة ما بعد الحديث، وهو يعتبر كهدم للعلاقة بين دلَّ وفهم. وقد سبق بيتر بورغر هذا الوقت عندما انتبه إلى: «أنّ الأطروحة المركزية للفكر ما بعد الحديث تعني أنّه في مجتمعـنا لا ترجع الأدلة إلي مرجع، بل دائما إلي أدلّةٍ فحسب، وأننا عبر خطابنا لا نعثر إطلاقا على شيء ما كدلالةٍ، بل إنّنا ننتقل فقط في سلسلة من الدوالّ لا تنتهي. بمقتضي هذه الأطروحة، فإن الدليل، الذي وصفه دوسوسير كوحدة للدال والمدلول، يصبح مُحطَّما».
أين المعنى؟
إذا كان المشروع التأويلي للتفكيكيّة لا يفترض وجود معنى حقيقي للنصّ بقدر ما أن «كل قراءة هي إساءة قراءة» كما شاع في خطاب أصحابها، فإن ثمّة مشاريع تأويليّة رائدة تفترض أنّه لا يمكن تفسير اشتغال أيّ نصٍّ، بما في ذلك النصوص غير اللفظية، إلا إذا أخذنا في اعتبارنا الدور الذي يلعبه القارئ من زاوية فهمه وتحقيقه وتأويله، علاوة على الكيفية التي يتوقّع بها النص صيغ هذه المشاركة، سواء تعلق الأمر بمشاريع استجابة القارئ، وفعل القراءة وجماليّات التلقّي، أو بالسيميائيات في منحاها التأويلي.
بداية نسأل: هل يعود «المعنى الكامن أو المجهول في النصّ إلى «معنى المؤلِّف» أم إلى «معنى القارئ»؟ من المؤكد أنّ هناك مجموعة من التأويلات فكرت في المسألة، ولعل أحدثها تأويل دافيد هيرش الذي أخذ على نظرية الاستقلال الدلالي للنص لدى البنيويّين، وعلى التعدُّدية التي تمنح للقارئ حقّ إبداع معنى النص، فيما هو يدافع عن «معنى المؤلّف» الذي يجب أن يُؤْخذ بعين الاعتبار، لأنّه هو الذي يوجه مقصدية النص ومعناه الأصلي. لكن هيرش لا ينكر إمكانيّة أن «يعني» العمل الأدبي أشياء مختلفة لأُناسٍ مختلفين في أوقات مختلفة، وإن كان هذا بالأحرى يبقى مسألة «دلالة» العمل أكثر منه مسألة «معناه». فالدلالات تتنوّع عبر التاريخ، لكن المعنى يظلُّ ثابتا وساكنا: يضع المؤلِّفون المعاني، فيما الدلالات يُعيِّنها القراء. ويعتبر تيري إيجلتون أنّ نظرية هيرش حول المعنى مثلها مثل نظريّة هوسرل سابقة للغة، ويُشبِّه دفاعه عن معنى المؤلِّف بالدفاع عن «الألقاب العقارية»؛ يبدأ بتتبُّع آثار عملية الإرث الشرعي عبر القرون، لكن يظهر أن هذه الألقاب هي ثمرة النزاع مع شخص آخر هو المُؤوِّل/القارئ. وبالفعل، يعود هيرش إلى الإقرار بأنّه لا يوجد في النص نفسه أيُّ شيء يُرغم القارئ على النظر إليه وفق معنى المؤلِّف، فالمعنى على الدوام هو معنى لمؤوِّل معيَّن، ويكون على النصّ تمثيله. يقول: «في الحالة الأولى يمكن للعمل النقدي أن يتوجه أوّلا نحو معنى النص، وفي الحالة الثانية يتوجه نحو إدراك دلالته آخذا بعين الاعتبار هذا السياق أو ذاك».
إن المعاني ليست قارّة ومُحدَّدة، حتى تلك التي تتعلق بالمؤلِّف؛ لأنّها ببساطة نتاج اللغة وكلماتها، أكثر مما هي نتاج الوعي ومقاصده فحسب. وليس من شكٍّ في أن معنى اللغة مسألة اجتماعيّة، وهو ما فهمه هيدغر وطوّره هانس جورج غادمر في «الحقيقة والمنهج»، بحيث لا تستنفد مقاصد المؤلِّف قطعا معنى العمل الأدبي. إنّ انتقال العمل الأدبي من سياق ثقافي أو تاريخي إلى آخر يمكن أن يُراكم معاني جديدة ما كان ممكنا أبدا للمؤلِّف أو جمهوره أن يتنبّأ بها. تلك هي الطبيعة الخاصة للعمل الأدبي شعره ونثره، ومن الغريب أن يدّعي كل تأويل مشروط بثقافة عصره ومعاييرها النسبية تاريخيّا إمكان معرفة النص الأدبي «كما هو». فكلُّ شيء في النصّ من نحوه، وإيقاعه، ودلالاته، وحقوله الاستعارية، إنّما هو نتاج التأويل.
داخل نظريات التلقي والتّأويل التي شاعت منذ السبعينيات بما يشبه ردّا على «عماء التأويل»، يتخذ المعنى قاعدة تتمحور حولها أي تجربة في القراءة، بهذه الدرجة أو تلك. القراءة الراغبة في المعنى والمفتتنة به في سيرورته، فالمعنى ليس شيئا معطى يستخرج من النص، بل يتمُّ تجميعه من إيحاءات نصية. وسيرورة المعنى قابلة للتحقيق والتنفيذ في عالم التجربة والواقع، لأن العالم الذي نطلق عليه صفة «الإنساني» ليس كذلك إلّا في إحالته إلى معنى ما. ورُبّما ذكرنا هنا بعمل غريماس المعروف والمعنون بـ»عن المعنى» وهو يربط بين البنية الدلالية والعالم الدالّ الذي يعيش الإنسان فيه. فالبنية باعتبارها توليفا بين المقولات السيمية والمحتوى، تُمثّل تمفصلا لعالم الدلالة في مستويي التعبير والمحتوى، فيصبح كل مستوى يشتمل على شكل ومادة. وينظر غريماس إلى المعنى من زاويتين: أولا، باعتباره ما يسمح بالقيام بعمليات الشرح والتسنينات التي تنقلنا من شيفرة (كود) إلى أخرى.
وثانيا، باعتباره ما يؤسس النشاط الإنساني منظورا إليه كقصدية. فلا شيء يمكن أن يقال عن المعنى قبل أن تتمّ مفصلته على شكل دلالات. ويضعنا هذا الأمر أمام تقابل جديد يصف العلاقة بين المعنى باعتباره مادة، وبين الدلالة باعتبارها شكلا لهذا المعنى ومُشتقّة منه.
وعلى هذا الأساس، إذا كان المعنى يشير إلى كمٍّ مادي عديم الشكل وسابق على التمفصل، فإن الدلالة هي الناتج الصافي لهذه المادة وهي وجهه المُتحقّق. ولهذا، فهي ليست مفصولة عن شروط إنتاجها، فكلُّ نسقٍ له إرغاماته الخاصة، وله أنماطه في إنتاج دلالاته (النصوص والصور والوقائع الاجتماعية والموضوعات…) من جهة أولى، ومن جهة أخرى ليست مفصولة عن التدليل أو مسار إنتاج الدلالة، فالدلالة ليست معطى جاهزا، بل هي حصيلة روابط تجمع بين أداة للتمثيل وبين شيء يوضع للتمثيل ضمن رابط ضروري يجمع بين التمثيل وما يوضع للتمثيل، أي ما يضمن الإحالة استقبالا على الموضوع نفسه في حالاته المتنوعة.
وبما أن الدلالة هي سيرورة لإنتاج المعنى عبر تحويله من طابعه المادي إلى أشكال مضمونية تدرك ضمن السياقات المتنوعة، فإنها ليست مفصولة عن حقل دلالي غني بمفاهيم تشير كلها إلى طبيعة هذه السيرورة وأنماط وجودها.
فاستنادا إلى مفهوم الدلالة، فقد جرى نحت مجموعة من المفاهيم التي تحيل على النشاط نفسه منظورا إليه في حالات تحققه المتنوعة من قبيل «الوظيفة السيميائية» (يالمسليف)، و«السميوزيس» (بورس) و«الدلالية» (بارث). وكلها مفاهيم تدلُّ – ضمن سياقاتها النظرية الخاصة ـ على السيرورة والشروط التي تنتج ضمنها آثار المعنى.
لقد أتاحت لنا سيميائيّات التأويل مُقْترحاتٍ جديرة بالعمل، فهي من جهة تنزاح عن فكرة المحايثة التي ارتبطت بتاريخ البنيوية في مختلف اتجاهاتها، حيث النصّ منغلقٌ على نفسه ويُنْتج معناه استنادا إلى ما يُتيحه محيط مباشر ومفصول عن كل شيء، وعن القارئ والكاتب والسياقات الخارجية. ومن جهة ثانية، تنزاح عن التأويل اللامتناهي كما تصورته تفكيكيّة دريدا.
ومن داخلها عمل إيكو على بلورة جماليّات التأويل كما يظهر ابتداء من كتابه «العمل المفتوح»؛ إذ أكد أنَّ العمل الفنّي هو رسالة غامضة ومفتوحة على تأويلات لانهائية، حيث تتساكن مجموعة من المدلولات في قلب الدالّ الواحد. وبالتالي، ليس النص موضوعا نهائيّا، وليس بإمكانه أن يقول أيّ شيء لوحده، وإنّما هو موضوع مفتوح لا يمكن للقارئ أن يتلقاه باستكانة، وعليه أن يتعاون مع النص ويتدخل ويبذل طاقته التأويلية.
وكان إيكو في حقيقة الأمر يتحرى وسائل تحديد نطاق التأويلات الممكن قبولها، بقدر ما كان يعبر عن قلقه من توجُّه بعض تيارات الفكر النقدي المعاصر التي تسمح للقارئ بإنتاج دفق من القراءات اللامحـــدودة وغير القابلة للاختيار على نحو يقود إلى «ضيــــساع المعنى». وفي جميع الحالات، يمكن القول إن التأويل ليس ترفا، بل ضرورة لتحرير المعنى بقدر ما هي لفعل إنتاج الدلالات. وإذن، فإنّ تأويل النص لا يعني البحث في قصد متوارٍ خلف النص، وإنّما يعني متابعة حركة المعنى في ارتدادها نحو مرجع؛ نحو العالم، بتعبير بول ريكور.
وعلى هذا القدر من التفاؤل الآتي، يمكن أن نطرد الخوف الذي يلحقنا به زماننا بالخوف الذي هو في مجهول معنانا الخاصّ أصلا. هذا العزاء يكون في أن يصير «المعنى استئنافا للمعنى» كما يقول هنري ميشونيك؛ وعد المعنى الذي يُسْتأنف مع كل ذات «داخل حركة المجهول» التي تظلُّ مستمرة في المعنى وعبره.
٭ كاتب مغربي
تعليقات
إرسال تعليق