الفعل الفني: رسم و محوّ قراءة في معرض "إمتلاء" للفنان التشكيلي المغربي زين العابدين الامين / بقلم الباحثة و التشكيلية التونسية: دلال صماري



 زين العابدين الامين

زين العابدين الامين

الفعل الفني: رسم و محوّ


قراءة في معرض "إمتلاء" للفنان التشكيلي المغربي زين العابدين الامين



بقلم الباحثة و التشكيلية التونسية: دلال صماري

يعرض الفنان التشكيلي المغربي زين العابدين الأمين في بحر الأسبوع المقبل انطلاقا من 3 ديسمبر إلى حدود 9 جانفي 2016 حيثيات معرضه "إمتلاء" بقاليري نظر، وهو يعد من الفنانين الشبان في المغرب و الذين يحملون نظرة حداثوية للفن، باحثين عن أساليب معاصرة في معالجة مواضيع و تقنيات جديدة لمواكبة التطورات الفكرية و الجمالية، له العديد من المعارض الفردية تقريبا في جل قاعات العرض بالمغرب كما له العديد من المعارض الجماعية داخل المغرب و خارجها كما انه يقوم بتنظيم التظاهرات الفنية و يساهم في حراك الساحة الفنية ببلاده .
ظهرت ميولات زين العابدين الأمين منذ بداياته للتجريدية و أخذ يؤسس لعلاقة جديدة مع واقعه الإجتماعي فتوطدت علاقته مع المادة و ظهر مشغله التشكيلي الذي ينصب حول المادة و تحولاتها و تفعيل المحمل، للتجاوز المادة الشكل و الخط و تنحت كيانات جديدة و كان رغبة الفنان في تصعيد نوازعه الداخلية بالمادة قد تجاوزت كيانات المحمل هذا الأخير الذي يصبح فضاء مفتوحا يتحاور فيه الهجين و يتآلف فيه المختلف و هذا راجع إلى تشعّب الأفكار و المنطلقات و تداخل تمظهرات و صور الواقع. هي بمثابة الرؤى التي يريد أن يعكسها على المحمل حيث يستخدم اللون و الخامة المتلفة كالكرتون و الخشب و قصاصات الجرائد... الخ كتعبير عن حركة الروح أولا و أخرا.


للفنان التشكيلي المغربي زين العابدين الامين
 

و من خلال هذه الرغبة الغريزية التي تجتاح كيان المحمل كصلوات يتوحد من خلالها الفنان مع نفسه أصبحت اللوحة مجالا للفعل أكثر منها حيزا للنقل سواء كان واقعا أو متخيلا و ما يجري على محمل الفنان ليس صورة بل حدثا و الهدف ليس التعبير الذاتي أو حاجة داخلية أو روحية فقط و إنما أيضا هو من ذات الخصوصية الميتافيزيقية لوجود الفنان ذاته و التي عبر عنها باختياره مفهوم الامتلاء ليخلص الأمر برمته. و بالتالي فان اللوحة التي هي فعل لصيقة بسيرة الفنان الذاتية، و إذا قيل بان العمل الفني تجربة معاشة فان ما يقوم به زين العابدين الأمين تجربة معاشة حقا لان العمل الفني ينبع من مادة الحياة التي يحياها الفنان في الحيز الزمني الذي يستغرقه انجاز اللوحة من خلال حركاته و خاماته و حتى صوره التشخيصية المغرقة في التجريد هي ارتباط كلي بما يعايشه الفنان و ما يتخيله يوميا.
الفعل الفني عند الفنان هنا على هذه المساحات المتغيرة أشكالها و أطرها بين مربع و مستطيل و دائرة يختزل الكون كخلق و نشد للفضاء أشكال تنبع من تأملات تسكنه لتشحن الأثر تعبيريا و جماليا، أنتج زين العابدين الأمين من خلال أثاره الفنية المتعددة بين فترات مختلفة عوالم تشكيلية أنصت من خلالها إلى المادة و اللون و جوهره، تكاثفت على محاملها أنواع مختلفة من الخامات و الأشكال و الألوان و المساحات العذراء بمثابة حالة صراع مع اليومي لخوض إشكاليات تجول بخاطره كطريقة لتحرير نفسه من التفكير النمطي السائد و البحث داخله و حوله عما يؤجج الممارسة التشكيلية. فجاءت أثاره الفنية متنوعة و في نفس الوقت متماسكة و لها علاقة ببعضها البعض تتغيّر فيها المادة و تختلف من عمل لأخر و لكل مادة طريقة و أسلوب تعامل مختلف يفرض نفسه فتارة مزدوجة على محمل واحد و طورا منفردة تخلق من خلال هذا الحضور المختلف إيقاعا مضطربا يأبى السكينة و يتوق للتحرر.
تعامل الفنان على أسطح أعماله مختلف فالمادة عنصر حساس يرتبط ارتباطا وثيقا بأفكار الفنان و توجهاته، و هذا ما جعل حضورها حضورا ذو دلالة سيميائية مغرقة في الترميز من خلال تركيباته الباحثة دائما عن اللامحدود من خلال اكتشاف تجليات المادة. و من خلال أثاره الفنية نلاحظ توازنا كبيرا في التركيبة رغم ذلك الانطباع العشوائي الذي يصيب أولى حواس التقبّل و هي العين، و لكن توزيع الكتل و إختيار الألوان و نوعية اللمسات سرعان ما يعيد إلينا التوازن و تلك البيضات التي تتلحف بها الأشكال و الألوان تجعل الفعل الفني مختزلا متقشفا بدراية معمقة يتواتر حينا و يترك لنا مساحات للراحة أحيانا أخرى ليعود و يكتسح الفضاء من جديد، محدثا إيقاعا بصريا ناتجا عن بناء العمل وفق جدليات مؤلفة بين المتناقضات. خطوط قوية و أخرى خفيفة، ألوان حارة و أخرى باردة، رسم و محوّ، قيم ضوئية تراوح بين النور و العتمة...كل هذه التناقضات تأتي كترجمة لما يخالج الروح و ما يسم الواقع فيتفاعل زين العابدين مع فضاء لوحاته وفق رؤية تأليفية من خلال تلاعبه بالمساحات الملونة و الغير ملونة ساعيا من خلال ذلك إلى خلق واقع خاص به. أشكال متضاربة و خطوط سريعة تلقائية يبعثرها ثم يصلها حسب منطقه المرتجل الذي يوحي لنا بذلك التضارب الداخلي حينا و من ثمة مراحل من الهدوء و الصفاء حينا أخر. تلاعب بالمسطح و بعين المتلقي لحظات من الاضطراب و الهدوء التي تقودنا إلى محاولة إيجاد علاقة بين ذلك العالم الأرضي بمختلف تعرجاته و تمفصلاته و بين عالم من المثل و الحلم يسعى من خلاله الكائن إلى إيجاد علاقة مباشرة مع عالم السماء دون وسائط و تعقيدات تسعى روح الفنان من خلاله إلى الارتفاع شيئا فشيئا فتخترق تلك البياضات و تسكنها كما يسكن العدم الوجود.
نوّع الفنان في درجات اللون و خلق له مع البياض أو السواد تضاد جعل من رؤاه الفنية في تداخل مطلوب فهناك تدرج على مستوى التركيب حيث نلاحظ حركية شديد في جزء ما من اللوحة سواء كان سفليا أو علويا أو في المركز دون غيرها من أجزاء الفضاء التصويري أو بنسب متفاوتة منهج تبسيطي تكشفي قائم على إعادة الإنتاج و إعادة البناء و التركيب، فجاءت أثاره الفنية و عيا بضرورة الانفتاح و مساحاته خصبة تحضر فيه الأشكال و الألوان و الخامات و كأني به يرسم و يمسح ما رسمه بطريقة طفولية تجعلنا نشعر و كأننا إزاء مدونة تثور على الرسم الكلاسيكي أو كأننا إزاء ألام المخاض الكبير و ما يخلفه من فوضى مطلوبة تجتاح جنبات المحمل أو ربما إزاء حلبة كانت تحتضن نزالا و صراعا عنيفا لم يتبقى منه سوى أثاره على هذا المحمل، كل هذه التناقضات و الإرهاصات تدفع بنا إلى فوهة فضاء غني بالإمكانات يطرح إشكاليات من قبيل الملأ و الفراغ ذلك الأول دقيق الحضور و ذلك الثاني باحتوائه كيان الفعل الفني.
مسطح مربع أو دائري أو مستطيل تتولد منه حركات تصاعدية ملونة و متداخلة دائما ما تكون لها علاقة بالأعلى متواصلة أو متقطعة فتتسابق الأشكال و الألوان و تتلاحق باتجاه الأعلى كأنها شطحة صوفية في أقصى حالات النشوة و التجلي. تحركت من خلالها سواكن المواد و الألوان في لحظات تعبدية طقوسية تتضارب داخله الأحاسيس و الأبعاد الروحية و عادة ما نلاحظ انه يستقي الجسد الآدمي المجرد إلى أقصى درجاته ليؤثث به فضاءاته فنلمحه حينا و يذوب في كرنفال المشاهد حينا أخر و كأني به يعي جيدا قيمة هذا الكائن و ما يختزنه من رمزية جعلته يلخص الكون بأسره.
كما أن اختيار الفنان للألوان يكسب العمل توازنا بصريا يخاطب أعماق الوجدان حيث يسعى إلى حسن التوفيق بينها في أعماله لأنها أول ما سيخاطب كيان المتلقي للوهلة الأولى فيصبغها بأبعاد دلالية تتراوح بين الواقع و الخيال فأستعان لتحقيق ذلك باستعمال متعدد لدرجات اللون الواحد كالأبيض متعدد التدرجات نحو الرمادي، و الأزرق من الداكن إلى الفاتح و الألوان الترابية مختلفة التدرجات كذلك الأحمر... مراوحة بين مضيء و معتم و حار و بارد باقتدار بالغين و هذا يجرنا إلى استنتاج أن زين العابدين الأمين طوال الوقت كان يرسم و يمحي لوحاته باللون "فاللّون كما بيّن غاستون بشلار ليس مجرد لعبة أضواء و إنما صيرورة في أعماق الكائن و أغواره" فيتآلف لونه مع أشكاله و خطوطه و يكسبها طاقات تعبيرية هامة بما هو يؤدي وظيفة انفعالية وجدانية تذكي في المتقبل انطباعات و تأثيرات مختلفة. يحتضن من خلاله الفنان الفضاء ليضفي خصوصية و يكشف الجوانب الشاعرية و السمو الروحي الذي يسكن شخصية الفنان. جاءت أعمال الفنان زين العابدين الأمين رغبة صارخة للتخلص من كل الموروثات في التعامل مع المحمل و المادة و اللون، حيث كشف آليات جديدة في التعامل مع الأثر الفني فكان يرسم من خلال فعل المحو الذي يمارسه باللون سواء من خلال البياض أو من خلال لمساته الملونة و هذا أجج عملية التلاعب بالشكل و الخلفية الذي يوصل التعبير من رحم التقطع و الفراغ و هذا ما خلق جدلا كبيرا بين الفنان و الفضاء فتارة يؤثثه و طورا يخترقه بفراغات بناءة كأداة فاعلة في إنتاج الأثر، و بالتالي يختصر الفنان الطريق إلى الدلالات و المقاصد بأسلوب يراوح بين رسم و محو في أن كرغبة في الإنعتاق من أبدية الفعل فهنا على محامل زين العابدين يمكن أن تتراجع في أي وقت عما كنت بصدد القيام به و محوه كفعل بنّاء و كتقنية خاصة و هذه التقنية هي التي وسمت "إمتلاء" زين العابدين الامين
صادرة يوم الاحد 29/11/2015 بجريدة الوطن العمانية قسم أشرعة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح