آكلو القِبلة.../ جلال حيدر
آكلو القِبلة.../ جلال حيدر
عذراً فان كوخ، عذراً لأن أذنكَ تنزف في آخر المدينة، لقد كان من المؤسف أن يراكَ أحدهم بهذه الحالة، تكتبُ رسالة سريعة، وتخرج لإهداء أذنك لآخر عاهرة، لقد انتهى البؤس، أليسَ كذلكَ يا جثتي؟ من هذا السؤال أبدأ أستاذي بوكرش، لأني أظن أن الكثيرين يتدحرجون من غير أن يوفقوا في خضمهم ذاك بتغيير شيء، ينقذفون تدريجياً نحو الأكثر بؤساً وقذارة، إلى إشعارٍ آخر كذاك الذي استفاقت عليه هولنداَ ذات يوم بفقدان أحد أعمدة المدرسة الإنطباعية، كان فان كون مفلساً في حياته من جميع الأصعدة، لكنه كان فناناً بمعنى الكلمة، واستطاع إيصال صوت العذاب والألم والمشاعر التي كان يدخرها للعالم بقوة الموهبة، تحدى كل شيء لإبلاغ رسالته، ولعل لوحة "الشمس تشرق" ـ التي كانت الأخيرة قبل نهايته ـ أفضل مثال وأجدى سبيل لفهم تجربته، التي تؤثث لعالم يتساوى فيه الجميع، عالم تشرق فيه شمس الحرية، ولعل تلكَ الحقول الواسعة، بأزهارها الأرجوانية وسنابلها، ومزارعيها المنتصبين بمناجلهم متحدين حر الظهيرة، لأحسن مثال على أن الأشياء تكون ببعضها، والناس أيضاً بفعل الإحترام والحب والكثير من المباديء يستطيعون الإنجاب، أي بهذه الأشياء سيتمخض عنهم شيء ما يستحق التنويه والإشادة... بأوجهٍ تعيسة متجهمة كانت مجموعة أشخاص تتهيأ لأكل طبق البطاطا، هكذا خيل إلي وأنا أقرأ مقالك المعنون " من سيسرق القبلة..؟" بدى لي الأشخاص الذين تحدثت عنهم محملقين بأعينٍ رمادية جارحة إلى طبقِ القِبلة ولتكن القبلة هنا المكان الذي تمت فيه التظاهرة، تخيلتهم في عتمة غرفة ضيقة كخفافيش، وأنا أعمم لأن السلوك الذي تحدثت عنه، متفشي في الوسط الثقافي، لن يخفى عنك ما كان يجري في قسنطينة حاضنة النوميديين إبان الفترة السابقة، هذه أكبر تظاهرة ثقافية مقامة في الجزائر أسندت أمورها إلى غير أهلها، وذهبت أدراج الريح ملايير كثيرة، وما تمخضَ عنها شيء، غير تلكَ الشلل العمياء المحلقة حول بعض، بمعنى أنا أعرف بوكرش في الجزائر أرسل له دعوة من المغرب ولن ينسى جميلي السنة المقبلة، سيدعوني إلى الجزائر، هكذا يحافظ اللئام عن فرصِ السياحة تحت راية الشعر والأدب والفن التشكيلي والمسرح، وتنتفي المواهب الحقيقية والأقلام الجبارة النادرة في الظلام، في تيهٍ وعزلة، أجل ألم يولد جميع الرائعين من القرى النائية التي لم يصلها كهرباء وطرقاتها غير معبدة ونساؤها موشومات حين يبتسمن ترى الينابيع تتألق برقراقِ مائها ... الفنان وجد ليرفض ويتمرد ويعلن حروبه، سيغزوكَ هذا وأنت تقرأ للماغوط، إنها تلكَ الثورة البركانية التي تسكن حلقَ الشعراء الحقيقيين الذين يموتون وهم يرفضون التطبيع مع القطيع، تلمسها في أعمال وشخصيات فنانين تشكيليين كناجي العلي الكاريكاتيري الذي كسرته قضيته وقتله رفضه وعدم تطبيعه مع القطيع لأنه آمن بفلسطين كاملة لا بجزء منها فقط ولذلك اغتيل، لكن حنظلة لا يموت إنه يدير ظهره للعرب الذين انفضوا من حوله، لهؤلاء الذين تركوا أكبر قضاياهم، وناموا في برك البترول ... وجد الفنان ليرفضَ الرداءة، ليقولها بصوت مرتفع: لا.. حتى للبؤس... كما فعل فان كوخ عندما أنهى رسالته الأخيرة واستفاقت بعدها هولندا على بركة ماء... هناكَ من يعتقد أن العالمية والشهرة تستمد من تلك العبارة الخرفة" خالفوا تعرفوا" وهناك الأردأ ممن يعتبرون العري أفضل أبواب الشهرة والبلوغ إلى مصاف العالمية، لكن هيهات بين عالمية تبلغها واثقا من هويتك، واثقاً من تراثك، واثقا من مجتمعك، لأنك جزء منه، لكن كيف سيفهم هؤلاء أنهم جزء من مجتمع؟... مسخ حقيقي... هذه كنية يجب أن تطلقَ على المتسلقين، العالمية تبدأ من أطراف أصابعك، تبدأ من محيطك من جزمتك كما في عمل فان كوخ، تبدأ من آلام شعبك من إنسانيتك الخالدة... متعب حقاً أن تخوضَ في هكذا اشياء، بعيدة جداً عن معاناتنا... الملتقيات ليست مستشفى مجانين، كي يماط عنها أي كلام، ويخرج الزائر متخماً بأحاديثٍ مقبورة منذ البدأ، يحتفظ بها لنفسه، وعلى كل فنان أن يتبصر إلى ضرورة التمييز بين الحياة الفنية والحياة الشخصية، إذ أنه أمام جمهوره أو أصدقائه الفنانين في تظاهرة يجب أن يكون بمستوى لوحاته بنفس الصرامة والرؤيا التي رسم بها، وأبدع، الأشياء لا تفتعل ببوهيمية، بل بنسيج مسبق، ورؤيا واضحة، أو أنها لا تصنف في خانة الإحترافية... كان الفنان السريالي دالي يقوم بأشياء يقرأها البعض على أنها غريبة، لكن بعد أن سعى الباحثون والمختصون لفهمها وتسليط الضوء عليها فهمت على أنها حركات ذات رسائل مشفرة، فمثلاً قام بعرض لوحاته مرة وتأخر عن موعد الافتتاح بعدة دقائق كي يكون المدعوون قد اجتمعوا في بهو المعرض ودخل عليهم مرتديا زي الغواصين، تفاجأ الجميع لكن بعد أن فهموا ان حركاته الغريبة هذه يدعوهم بها الى ضرورة قراءة العمق ولذلك يتوجب على المتأمل أن يكون مستحضرا جميع آليات قراءت العمل وتحليله... لكن لسنا بمستوى تطلعات هؤلاء، وهذه السلوكيات الغريبة التي يفتعلها البعض، مجرد كبت جنسي، وسادية، وأمراض كثيرة نحن في غنى عن ذكرها لأن لها مصالحها الخاصة لتشخيصها... متمسك بضرورة أن ننتقد هذه الأشياء في الخفاء، كي لا يأخذ الزائر والقاريء نظرة مأساوية عن كواليس هذه التظاهرات، ونزيد من نفوره عنها واحتقاره للفن والفنان... متمسك بضرورة التصالح فيما بيننا كي يتسنى لنا التصالح مع الآخر متمسك بضرورة المحاولة للعودة إلى نقائص الطبعة السابقة واحتواء الأخطاء وتنظيم طبعة أخرى بمقاييس عالمية يكون فيها الجميع يداً واحدة هكذا سيفشل كل من يحاول فتح جبهة للنيل من الفن بطريقة غير مباشرة... أنا جد متفائل ... تقبلوا محبتي
جلال حيدر 17/09/2016
تعليقات
إرسال تعليق