خواطر حول "مرض العصر": التطرف / أحمد دلباني.




خواطر حول "مرض العصر":التطرف /  أحمد دلباني.


التطرف: يبدو، في اللحظة الرَّاهنة، ملكا على عرش الغبار في الأرض المريضة. وتبدُو المرحلة الحضارية التي نعيشُ حاضنتَهُ بامتياز وهو يكشفُ، بصورة عميقة، عن بعض أزمات حداثة عولميةٍ لم تصل، بعدُ، إلى نهاية سعيدةٍ للتاريخ الأرضيّ. في كل مكان حديثٌ عن التطرف. في كل مكان خوفٌ متزايد من نتائجهِ المُدمِّرة. كأنهُ التنينُ ذو الأوجه السَّبعة الذي ظل يتربَّصُ بالمُسافر؛ أو كأنهُ ظهرُ ذلك الوحش البحريِّ الذي لجأ إليه البحَّارة اليائسون بعد تحطم سفينتهم ليكتشفوا ورطتهم الفادحة كما أشار إلى ذلك نيتشه ذات يوم. هذا يعني أنَّ التطرف ما فتئ يعرفُ، جيِّدًا، كيف يتسلل إلى حياتنا من الشقوق والتَّصدعات في جُدران مدنيَّتنا الحديثة التي أهملت العدالة واحترامَ الإنسان وغرقت في الصِّراع الأهوج من أجل الهيمنة.

التطرُّف: مرضُ العصر؟ ربما يكونُ كذلك. ولكننا لن نُوافقَ – بكل تأكيد – على النظر إليه باعتباره سببًا لمتاعبنا الحالية أو لجحيم العُنف الذي نشهدُ وإنما بوصفه، أولا وقبل كل شيءٍ، نتيجة. التطرفُ نتيجة وليس اختيارًا أو سببا أوَّل يتحكمُ بخيوط الفوضى التي تصنعُ تراجيديا العالم. إنه علامة أزمة. ومن الأنسب أن تُقرأ الأزمة المُعقدة في سياقها الثقافيّ والحضاريِّ بعيدًا عن كل روح اختزالية لا تنظرُ إلا إلى الجُزء الظاهر من الجَبل الجليديِّ. هذا ما يجعلنا نطرحُ فرضية أولى نراها ضرورية: التطرفُ علامة اختلال يجدُ أساسهُ في الثقافة القائمة على الهيمنة. إنهُ ردّ فعل وليس فعلا بادئا مُستقلا بذاته. وهو اختلاجٌ – قد يكونُ يائسا – ولكنهُ يُفصحُ عن بقية الروح التي تقاومُ الذبح. وربما أولى علاماتِه المُؤكدة تنامي الحديث عن الهوية بشكل مُبالغ فيه منذ عشريتين على الأقل في بقاع العالم التي عرفت انتكاساتٍ وفشلا في التنمية المُتوازنة كالعالم العربيِّ. إذ لا يبدأ التطرفُ بالظهور - بوصفه عنفا ماديا و رمزيا ورفضا للآخر المُختلف – إلا في شكل انكماش واحتماءٍ من سديم اللحظة التي تفقدُ فيها الذات بوصلة الاتجاه فتهرولُ باحثة عن المعنى والدفء في الماضي التدشينيّ وأساطير البدايات السعيدة. التطرفُ، في كلمة، ملجأ الذات الخائبة.
التطرفُ انغلاقٌ أيضا. وهو ليس ظاهرة تخصُ ثقافة بعينها. كما لا يتعلقُ بمظهر واحد من مظاهر الثقافة - كالدين مثلا - وإن كان التطرفُ الأبرز للعيان، اليوم، هو ذلك المُرتبط بالدِّين وتأويلاته التي تُبرِّرُ العنفَ ضدَّ المُختلِف كما هو معروف. إنَّ نقيضَ التطرف، أعني الانفتاحَ واحتضان الآخر والتعدد، لا يزدهرُ في لحظات الأزمة التي تشعرُ فيها الذاتُ الجماعية بأنها مُهدَّدة، أو في لحظات الخيبة والفشل العام في تحقيق الاندماج الواثق في اللحظة العولمية. خلافا لذلك، لا يبدُو التطرف زمنا أندلسيا. إنه نتاجُ هذا الشرخ الذي تولدهُ الفوارقُ المتزايدة والضياع المُرتبط بالشعور الطاغي بفقدان الهوية وغياب معالم المعنى في عالم يفقدُ مُرتكزاتِه الأخلاقية الواثقة. إنَّ التطرّفَ الدِّينيَّ نفسه يأخذ، دائما، شكل الدفاع عن هوية مُهدَّدةٍ بفعل التحديث المُتوحش الذي يُدمِّرُ أشكال التضامن التقليدية دون أن يحققَ نقلة واثقة – اجتماعيا وثقافيا وسياسيا - إلى أوضاع جديدة مُتحرِّرة من ثقل النوستالجيا الخلاصية. فالتطرفُ رفضٌ للعالم لحظة تحولهِ إلى حلبة صراع تكرسُ قانونَ الغاب. كأنهُ إفصاحٌ طفوليّ عن الهوية، ورغبة في الصّراخ العالي ضدَّ امِّحاء ما يشكل سندًا للذات الفردية والجماعية. إذ يبدُو أنَّ العولمة في شكلها السَّائد - وهي تعمِّمُ قانونَ السوق وتجعلُ من الربح والاستغلال قيمة مطلقة - قد خلقت ثقافة همّها الأول مُحاربة هوية الإنسان العميقة التي لا تتجلى إلا عبر ثقافاته المُتنوعة وشبكة العلاقات الرمزية المُعقدة التي يُقيمها مع مُحيطه وموروثه. هذه الثقافة العولميَّة في وجهها الأبرز – أعني ثقافة الاستهلاك المُعمَّم – لا تستطيعُ صنعَ هوية جديدة للإنسان بقدر ما تنتجُ النمطية والسطحية في كل شيء. إنها ثقافة تفتقرُ، بشكل مُوجع، إلى مُرتكزات العمل و إلى المصابيح التي تنتصبُ منارة في الطريق.
يتموقعُ عالمنا العربيّ – الإسلاميّ ضمنَ دائرة الاهتمام الاثنوغرافي والسياسيّ / الاستراتيجيّ الغربيّ منذ مدة طويلة. لقد بقيَ بعيدًا عن التطور الطبيعيّ والتثاقف الإيجابيّ مع العالم منذ وقع ضحية للمطامع الأمبريالية المُرتبطة بالسيطرة على مصادر الطاقة. وكان لنا أن نعرفَ التحديث الشكليَّ والتبعية لدوائر صُنع القرار الأجنبيَّة بعيدًا عن الحداثة والاستقلال الفعليّ والتنمية الشاملة. والنتيجة: فشل في التحديث الإيجابيّ وإخفاقٌ في بناءِ الدولة الحديثة التي تقطعُ مع بنياتِ الاستبداد القديم والسلطة الأبوية. لقد بقيت مُجتمعاتنا، بهذا، رهينة لزمن ثقافيّ وسياسيّ يُهيمنُ عليه العُنفُ الرمزيّ والماديّ ويشهدُ هزاتٍ خطيرة وعودة لقوى سوسيو- ثقافية وسياسية تمثل مُمانعة أمام التحديث الكسيح، وترفعُ شعارات الهوية والأصالة كما هو معروف. هذا ربما ما يدعوني، شخصيًّا، إلى أن أميِّز بين العنف والتطرف. فالعُنفُ بنية مُضمرة في كل ثقافة ما دامت تقومُ على سيطرة فئة اجتماعية تفرضُ نظامها القيمي والرَّمزي وتخلعُ عليه نوعا من الشرعية. هذا الأمرُ أصبح معروفا منذ نبَّهنا إلى ذلك بيير بورديو. والعنفُ الذي يُميِّز مُجتمعاتنا بالأخصّ يقومُ على البنية السوسيو- سياسية البطريركية وثقافتها التقليدية. أما التطرفُ فهو إعلانُ هذا العنف المُضمَر عن نفسه باعتباره مرجعية إلغائية للآخر المُختلف متى شعر بنوع من الضياع في عالم لم يُحقق انتقالا طبيعيا مُتوازنا إلى الحداثة والاعتراف بالذات. هنا يبدأ جنونُ التطرف. وفي كلمة: التطرفُ عنفٌ مُعلنٌ ومُمَسرَحٌ في مقابل العنف المُضمَر الذي يميِّز كل بنية سوسيو- سياسية. إنهُ عملية دفن للرأس في رمال الأوهام التي تسردُ على الذات قصة استرجاعها لمكانتها بعد فاجعة التيه في الهامش الذي فرضهُ عليها العالمُ المُهيمِن.
ولكنَّ ما أتينا على ذكره - أعني كونَ التطرف نتيجة لأوضاع غير عادلة وتجنحُ نحو طمس الهُويَّات - لا يُبرِّرُ، أبدًا، عدمَ إدانته ومُحاربته وتجريمِه إن تحوَّل إلى فعل عنفيّ أهوج وأعمى. التطرفُ سقوط مُعلنٌ للعقل والقيم. التطرفُ استسلامٌ لرغبة محو الآخر. التطرفُ هزيمة الحضارة الحديثة أمام تحدياتها وسقوط مُروِّعٌ لادِّعاءاتها المعروفة القائمة على مركزية الإنسان وقيم العدالة والمُساواة والتقدم والتنوير. التطرفُ مُؤشِّرٌ على اختلال يُصيبُ العلاقات بين البشر والثقافات أكثر من كونه ظاهرة. وهو يستدعي، تبعًا لذلك، اليقظة والعمل الصَّبورَ الواعي من أجل تطويقه ومنع مارده من الخروج من القمقم. لماذا؟ لأنَّ التطرفَ لا ينبثقُ في جزيرة خالية نائية كتلك التي عاش عليها حي بن يقظان. إنه علاقة بالآخر وردّ فعل على أوضاع. ونستطيعُ أن نقول واثقين: ليس هناك ثقافة مُتطرفة بذاتها. وإنما هناك ثقافاتٌ قد ترفدُ التطرفَ، في أوضاع وحالاتٍ مُعيَّنة، بأسلحة تمنحُ مقاومة طغيان العالم شرعية أدبية وميتافيزيقية أيضا. هذا ما يدفعُ بنا إلى القول إنَّ علاجَ التطرف يجبُ أن لا يقفَ عند الأدبيات التي تدعو إلى "الحوار بين الثقافات" و"الحوار بين الأديان" بصورة كسولة وغير نقدية يتمترسُ فيها كل طرفٍ وراءَ حصونه الثقافية وهويته المغلقة، وإنما إلى تغيير جذريّ في النظر والتطلعات العامة إلى مُستقبل مُتآلف يقطعُ مع الشوفينية الثقافية ومع الماضوية وروح التقديس من أجل تدشين عهدِ إنسانيةٍ جديدة. ولكنَّ هذا لن يكونَ مُمكنا – على ما نعتقدُ - إلا بسياساتٍ تربوية منفتحة وعمل سياسيّ مُتخلص من البراغماتية الضيقة مع احترام للآخر والتعدّد بعيدًا عن روح الهيمنة التي ميَّزت، إلى اليوم، العلاقات بين الأمم.

أحمد دلباني  الجزائر 16/09/2015

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح