البحث عن الذات في رواية (6000 ميل) للروائي الفلسطيني محمد مهيب جبر / عبد القادر رابحي.





البحث عن الذات في رواية (6000 ميل) للروائي الفلسطيني
محمد مهيب جبر







عبد القادر رابحي. 

-1-
ارتبطت نشأة الرواية الفلسطينية في ما شهدته من أسماء معروفة بموضوعة ضياع الأرض و الهزيمة و التهجير خاصة، و في الوقت نفسه بتثبيت الذات الفلسطينية في مساحة هذا الجنس الملحمي القادر على حفظ تفاصيل الذات و روائح تربة الوطن من النسيان. و قد كان ذلك مع الجيل الأول من الروائيين و من تبعهم فيما بعد من أمثال غسان كنفاني و يحي يخلف و سحر خليفة و فيصل حوراني و رشاد أبو شاور و غيرهم. و كان لا بد للرواية، على عكس الشعر، أن تجد لها مرتكزات موضوعاتية و إبداعية تستوعب حركية الإنسان الفلسطيني و هو يعبر القرن الواحد و العشرين بما استجدّ في تاريخه من متغيرات كانت شاهدة على نضاله و صموده و على تثبيت علاقته بالذات و بالأرض و بالآخر.
و الذي يتابع ما نشر في السنوات الأخيرة من روايات يدرك مدى انشغال الذات الفلسطينية بموضوعة (اليتم) في مكتوبها السردي، و الذي يلعب فيه عنصر الاستجداء بالوطن و الاستنجاد بالذات التاريخية المتشظية في أطراف العالم المتفرقة دورا حاسما في إعادة طرح المساءلات الوجودية المتعلقة بالوجود وبالكينونة من وجهة نظر تتخذ من المسافة الفاصلة بين البطل و بين موضوعه مساحة لتأثيث الفراغ الوجودي الشاغر بسبب وقع الصدمة، صدمة الاقتلاع و التهجير التي لا زالت تبعاتها تتردد بقوة على أجيال متعاقبة من الشعب الفلسطيني منذ نكبة 67.
ذلك أن كثيرا من النصوص السردية الفلسطينية نشأت من خارج الأرض الفلسطينية، بل و من خارج المحيط القريب منها، والحاضن عادةً للمخيال الأدبي الفلسطيني الذي هو محيط الشرق الأوسط و العالم العربي عموما، و تبلورت في فضاءات أخرى لا علاقة لها ظاهريا بما يمكن أن ترسخه الأرض الفلسطينية أو العيش بالقرب منها من ضمان سيرورة الانتماء لمن يعيش يوميا فوقها، لا بوصفه حارسا لظلال تربتها و أشجارها فقط، و لكن بوصفه مواجِهاً بكينونته لإمكانية التحاقه بمن هُجِّرَ قسرا عن مركز الكينونة و الانتماء.

-2-

تعيد رواية (6000 ميل) للروائي الفلسطيني محمد مهيب جبر الصادرة هذه السنة (2013) عن دار الجندي للنشر في القدس، إشكالية إعادة صياغة ما طرحه الموروث السردي الفلسطيني، و لكن من زاوية مختلفة عن هذا الموروث، و بمقاربات جديدة و برؤية أكثر مأساوية في تثبيت عنف اللحظة الوجودية و شرطها التاريخي اللذين أدّيا بهذا السرد إلى التهجير و معه صانعه البطل الذي يحيل إلى الروائي الذي يحيل إلى الشعب الفلسطيني في عمق ما تعرض له من محق، و بمأساويةِ اللامبالاة التي تعيشها أجياله المتعاقبة الموزّعة على أصقاع الأرض بطريقة عشوائية لا تعكس تعقُّد إشكالية الشتات و العودة فحسب، و لكن تطرح كذلك خطورة انقطاع عنعنة الذات الفلسطينية عن الجذور كما يبحث عنها (بيت مارتينيك) (ص: 34) و إمكانية تماهيها القسريّ مع مرجعيات انتمائية أخرى لا علاقة للشعب الفلسطيني بها تماما. غربةٌ تحيل إلى غربة مضاعفة تحيل هي الأخرى إلى غربة أعمق منها يعبر فيها التاريخ على الجرح الفلسطيني كما تعبر الأفكار السطحية على فصل ربيع مكبوت من دون سؤاله أو الإشارة إلى من يقف حجر عثرة في وجه عودته.

-3-

يأخذ السرد على لسان الراوي في رواية (6000 ميل) طابع المواجهة المباشرة مع القارئ. و يحكي الراوي قصة بطل الرواية (بيت مارتينيك) من دون تعقيدات خارج سردية بإمكانها أن تشوّش على رؤية المتلقي فتعمق سوء فهمه بإضافة غموضٍ تجريبيٍّ أو أسلوبيّ أو أسطوريّ إلى معطيات التاريخ الغامضة أصلا في وضوح أهداف صانعيه و في تورطهم العنصري في تعميق مأساة الذات الفلسطينية و غربتها داخل إحداثياته. ذلك أن السرد في هذه الحالة بالذات، و بهذه الصورة، لا يمكن أن يكون إلا سلاحا في وجه من عمّق مأساة هذه الذات، لأنه يصبح بديلا عن الأسطورة باعتبار أن ما يحكيه الراوي أعقد من الأسطورة في حد ذاتها و أكثر مأساوية من مأساوية ما تعرضه الأساطير القديمة من نهايات لأبطالها. و هو بهذه الصفة يتجاوز في غموضُ مآلاته، رغم وضوحها، غموضَ الأسطورة و سحرها التخييلي و الأسلوبي.
تسعى الرواية إلى إعادة الاعتبار للتاريخ من خلال التركيز على الأرقام المشيرة إلى الذات و تواجدها الحقيقي في الواقع قبل أن يتحوّل إلى رواية تاريخية تتلاعب بها الرؤية الصهيونية لصالحها (ص:41، 89، 95،145 و غيرها)، و كأن الأرقام هي الأداة الوحيدة القادرة على إحياء ما اختفى في الذاكرة وتثبيت أحداثها بالرواية الفلسطينية، لا من خلال سرد سِفْر خروج (البطل) ممثلا في أب البطل من جذره الانتمائي الذي هو أرضه كما تركها مضطرا بعد الدفاع عنها، و لكن من خلال سرد سِفر عودة (البطل) مُمَثّلا في ابن البطل (بيت مارتينيك) المولود في (سان بيير) في المارتينيك، و ما تحمله رحلة العودة من استذكار لحقيقة الذات:
- قبل خروجها ممثلةً في مأساة الاجتثاث و الصمود، 
- و أثناء خروجها ممثلةً في معاناة التهجير التي يحملها البطل (الأب)،
- و في لحظة عودتها ممثلةً في لحظة المواجهة الكبرى مع الذات و محاولتها استعادة الجذور و مساءلة التاريخ مستعينةً بما تدلّ عليه الأرقام من أحداث تعرض لها الشعب الفلسطيني. 
و كأن البطل في رواية (6000 ميل) يتخذ له من قصتيّ الأب و الابن امتدادا للذات الفلسطينية التي لا يمكن أن يعبّر عنها عُمرُ رجل واحد مُمَثّلا في الأب في مأساة خروجه، أو ممثلا في الابن ممثلا في ملحمة عودته. و كأن العمرين هنا هما امتداد لعمر واحد يستمد منه السرد زمنية اندراجه ضمن التاريخ الفلسطيني لأنهما عمران لحياة واحدة هي مأساة الإنسان الفلسطيني المهجّر قسرا من أرضه، و المضطر ضرورةً إلى العودة إليها على الرغم مما تحيل إليه الأرقام من تحويلات لمجرى التاريخ في اتجاه يخدم الاحتلال من خلال تفريغ أرض من شعبها الساكن فيها منذ آلاف السنين و ملئها بشعب آخر كان و لا يزال يعيش شتاتا لا علاقة للشعب الفلسطيني بأسبابه و لا بدواعيه.

-4-

"كلاّ لست يهوديا" (ص28).. يقولها البطل (بيت مارتينيك) لليهودي (أوري ليفي) الذي يجلس بجواره في طائرة العودة و كأنه تعريف بالضد، بالنفيّ، بما أتاحته الغربة لـ(بيت مارتينيك) من إجابة هي في عمق ما يعتمل بداخله من تناقضات حول هوية الاسم وهوية البيت وهوية الوطن. وكأن العدو هو الدليل الوحيد لإرشاد الشتات الفلسطيني المنقطع الجذور بعيدا عن الأرض و محيطها بالتعرف على نفسه و إرشاده إلى العودة إليها.."بل جئت كي أعرف نفسي"(ص34) يقولها (بيت مارتينيك) بما فيها من توجسات متعددة للإجابة عن الأسئلة المِلحاحة لـ(أروي ليفي) ليضعه أمام الأمر الواقع، واقع العودة إلى الجذور، أو ما عبّر عنها باللغة الفرنسية (Racines)، حتى لكأن هذه العودة إنما كان يجب أن تكون رفقة يهودي معلقةً بين السماء و الأرض على ارتفاع ثلاثين ألف قدم (ص30). و تصبح فيها الطائرة التي جمعتهما للعودة إلى الأرض المفتقدة رمزا لوطن منشود و لكنه مهزوز و ممزق عند (بيت مارتينيك) صاحب الأرض الذي اغتصبت أرضه و اقتلعت جذوره منها ، و عند (أوري ليفي) المُغْتَصِب الذي جاء هو الآخر من مكان آخر لا يقل بعدا عن (سان بيير) التي ولد فيها (بيت مارتينيك) قسرا. يدخل البطل في تصورات و أوهام سقوط الطائرة بمجرد الإحساس باهتزازتها نظرا لدخولها في تيارات هوائية. و كأن ثمة وجه مقارنة خفية بين حالة الوطن كما حمله البطل في داخله من على بعد ستة آلاف ميل، وبين تصوره له و هو يشعر به من على علوّ ثلاثين ألف قدم. 
يتقاطع الأفقي مع العمودي في بناء صورة مشوشة للذات و هي تحاول أن تبحث عن وجهها الحقيقي في صورة اليهودي (أوري ليفي) القابع حقيقةً بجوار (بيت مارتينيك) في وضعية هي أقرب إلى سخرية التاريخ منهما معا: من (بيت مارتينيك) الذي وصل إلى هذا الحد من الضياع الحقيقي، و من (يوري ليفي) الذي وصل إلى هذا الحد من الإنوِجَادِ المزيف.

-4-

تشي الرواية في بنية دلالاتها الباطنة بصعوبة انغراس البطل في الأمكنة الأخرى، و بإلحاحية استعادته لتاريخه عن طريق المساءلات المطروحة دوما على الذات و هي تحاول أن تتذكر تفاصيل التاريخ و تعيد بناءها وفق رغبة المساءلات و ما تخبر عنه من غربة رهيبة و ثقيلة بإحراجاتها الوجودية المبطّنة بالتيه. 
و من هنا، نرى خطورة ما يلعبه النسيان، نسيان اسم القرية بوصفها مكاناً/ وطناً/ مرجعيةً، و نسيان اسم الأب بوصفه وجوداً/شعبا/ واقعاً، من دور مركزي في تحريض البطل على ضرورة العودة إلى الذاكرة في ظل عدم توفر السند المرجعي الذي يسهل عليه الوصول إلى إجابة واضحة. ذلك أن البطل (بيت مارتينيك) بوصفه امتدادا للبطل الأب، لا يعاني من التهجير بمرجعيات واضحة تحدد له الانتماء كما هو الحال في العديد من الروايات الفلسطينية، و لكنه يعاني خاصة- و هنا مشكل التهجير و هدفه الأصلي- من نسيان هذه المرجعيات التي تحيله إلى أصوله الفلسطينية لا من خلال غياب المرجعيات الاسمية لأهل الأب في فلسطين وحسب، و لكن من خلال غياب المرجعيات المكانية للقرية أو المدينة التي ينتمي إليها الأب. 
كما يتجلّى غياب هذه المرجعيات في نسيان أم البطل ( بيت مارتينيك) المارتينيكية الأصل لهذه المرجعيات التي من الفروض أن تتقصاها من أبيه (زوجها)، و من ثمة افتقادها لدور المركز كما هو الحال بالنسبة لدور الأم عموما في الروايات الفلسطينية السابقة في ترسيخ هوية البطل و الحفاظ على ذاكرته، و ذلك على اعتبار أن أم ( بيت مارتينيك) غير فلسطينية مما يؤدي بابتعاد هذه الهوية عن الأطفال باعتبار أسمائهم غير العربية (بالدوين و آندرين..)، و هي أسماء قريبة في النهاية إلى هوية أمهم (سامانتا) المتجذرة في بلدها الذي لم يكن بالنسبة لأب البطل أكثر من مكان يبعد بستة آلاف ميل عن الوطن الأصلي فلسطين، و الذي هو في حد ذاته عبارة عن قرية تسمى (سان بيير) بنيت على فوهة بركان انفجر ذات يوم من بداية القرن الماضي و لم يبق من سكانها غير رجل واحد أختار أب (بيت مارتينيك) أن يتخذ منزله مسكنا له. وهو المسكن/ الوطن الذي ولد فيه( بيت مارتينيك) من دون أن يعايش لمدة كافية أباه و أمه.
تتعاقب صور الاقتلاع القسري في مخيلة البطل من أجل تكوين نوع من النظرة الانتقامية (ص:16)المشفوعة بنوع من العطف الذي يعكس تقدير ظروف الأب الذي لم يترك أثرا واضحا لانتماء اسميّ واضح (ص47) يعود بالبطل إلى منبته الأصلي و يرسم له طريق العودة إلى الوطن. كما تلعب الذاكرة المنسية دور المحرض على تسريع الأحداث التاريخية لما يقارب قرنا من الزمن من أجل رسم طريق واضحة لذاكرة هي قيد الميلاد في حشرجة الحياة التي تُنبِّه البطل إلى ضرورة العودة إلى الذات المشتتة بين ثلاثة أجيال ( أب البطل المهجّر، البطل بيت مارتينيك و أبناء البطل)، و ذلك من أجل ملء الفراغ الكبير الذي أحدثه انقطاع الصلة بالجذور و النشأة لثلاثة أجيال من الشعب الفلسطيني على فوهة بركان لم يهبه غير بيت واحد في غربة مضاعفة لم يعرف من خلالها البطل غير يتم لحقه و هو ابن الخامسة، ولا يتذكر منها غير خيوط من ضباب كثيف لا تتضح معالمه في ذاكرته المبنية على فراغ. و هي الأجيال نفسها التي سيعاينها البطل (بيت مارتينيك) و هو يبحث، في أرض فلسطين، عن مرجعيتها الاسمية و المكانية ممثلة في شخصيات (الحيفاوي) (ص:176)الذي فتح له قلبه و يرافقه في رحلة البحث عن أصله، و سائق التاكسي (المقدسي) الذي ذكره بعنف التهجير من خلال قصة منزل أم كامل الذي تم الاستيلاء عليه في القدس سنة 2009 (ص:180)، و شخصية ( العاجز) ضرير مخيم العروب) (ص:170)الذي استطاع أن يدلّه على لا جدوى البحث عن (الأب الذاتي/ البيولوجي) ما دام (الأب الأعلى/ الشعب الفلسطيني) حاضرا في كل لحظة تاريخية و في كل مكان من الأمكنة المُسيّجة بالقهر الإسرائيلي و بالتهويد المنهجي للذاكرة الفلسطينية و لتاريخها القريب و البعيد.

-5-

لا تخفي الرواية إحالتها البعيدة إلى بُعدٍ نفسيٍّ مُتخفٍّ في جيوب السرد الباطنية ، و إن كان هذا الأمر يحتاج إلى وقفة أخرى أعمق، في قصة البحث عن الأب الموجود/ الغائب، و كأنها تطرح بصورة مغايرة تماما المأساة الأوديبية لا في علاقة بطلها المَرَضِية بالأم(الأرض) والإصرار على العودة إليها و تلمس تربتها وشم رائحة هوائها و استذكار خطى الأب و هو يتحرك حرّا في ربوعها (ص:108)، و لكن في علاقته المأساوية مع العدو الإسرائيلي التي تعيده إلى قدره من الطريق نفسها التي كان العدو يعتقد أنه يبعده عن قدره بإبعاده عنها. و لعل هذا ما يشكل ذروة ما تصل إليه الرواية من رصدٍ للتناقضات داخل بنية الفكرة التي يحملها الفلسطيني المهجر عن أرضه. و تبدو الرواية و كأنها بنيت أصلا من أجل ترسيخ فكرة خطورة التلاعب بالذات من خلال الاقتناع بتشتتها في الكيانات البعيدة التي لا تمتّ إليها بأية قرابة تاريخية. و لعله من هنا كذلك، نستشف خطورة نزيف الجرح الفلسطيني في التاريخ المعاصر من خلال ما يطرحه الأدب المهجري الفلسطيني الجديد من إكراهات وجودية تعرض لها الشعب الفلسطيني المُهجّر من خلال انسياقه داخل الحدث الاجتماعي الخارج-فلسطيني، ومن ضرورات وجودية كذلك تحرضه مع الوقت إلى ضرورة طرح المساءلات المتروكة في أذهان الأجيال الجديدة المبتورة عن واقعها الفلسطيني. لقد كان القرن العشرين قرن اقتلاع الفلسطيني من جذوره و إبعاده عن أصله، و من المفروض أن تكون بدايات هذا القرن تباشير لعودة الفلسطيني إلى أرضه و إحيائه لجذوره. 
و لعل هذه الرواية، رواية (6000 ميل) للروائي الفلسطيني محمد مهيب جبر، تخبر في وعيها الباطن، كما حال الرواية الراصدة لتحركات الذات، عمّا يمكن أن يعتمل في الذات الفلسطينية المُهجّرة من رغبة ملحة في العودة إلى هذه الأرض و الارتباط النهائي بجذورها. إنها رواية البحث عن الجذور و ترسيخ تواجدها الحيّ في بنية الذات الفلسطينية المهجرة و في بنية السرد كذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح