المشهد التشكيلي التونسي في قصر خير الدين / عادل الجبالي

جمع بين الرواد والمواهب وخريجي المعاهد والعصاميين


المشهد التشكيلي التونسي في قصر خير الدين



عادل الجبالي




تتميز الساحة الثقافية في هذا الشهر بحضور لافت للفن التشكيلي التونسي ضمن فعاليات الشهر الوطني للفنون التشكيلية، الذي يشمل معارض جماعية وفردية إلى جانب الندوات والورشات التي تسلط الأضواء على مسائل تتعلق خاصة بالتعبير التشكيلي.

Photo
وفي المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين بقصر خير الدين بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة، هناك أكثر من 132 فنانا تونسيا ينتمون لأجيال مختلفة، من الرواد إلى خريجي معاهد الفنون إلى العصاميين.. ومن الأسماء الكبيرة اللامعة على غرار علي الزنايدي ومنجي معتوق والحبيب بيدة وسامي بن عامر بتقنياته المزدوجة.. إلى المواهب الواعدة ليلى العلاقي التي علقت على مشاركتها في هذا المعرض بقولها:" لَكَأنّما الْـلاَوعيَ منّي دثّرَتْه ألواني حتّى قُلْت : سَرَابِيلُ ... وسَرابِيلُ..."
ويجسم معرض خير الدين الجزء الأول من هذه التظاهرة وهو يضم 150 عملا فنيا بما في ذلك 132 لوحة لـ100 فنان تشكيلي محترف وصورة فوتوغرافية و22 منحوتة.. وسبق لأحد المسؤولين باتحاد الفنانين التشكيليين أن أوضح عند الافتتاح الذي اشرف عليه وزير الثقافة المهدي مبروك بأنه لم يتم تحديد موضوع معين لهذه التظاهرة من اجل تمكين الفنان من التعبير بكل حرية لان اختيار الموضوع يحد من الإبداع...
 والزائر لمعرض هذا العام يمكن أن يدرك الأسلوب المتغير والمعدّل، لكل مدارس واتجاهات الفن التشكيلي وتطوره في حركات ظلت تتجدد ضمن هذا الميدان من الكلاسيكية.. إلى الرومانسية.. إلى الواقعية... الى التجريدية.. وبفعل الجدة والتجدد بعيدا عما هو محافظ نجد أن لكل واحد من الرسامين في هذا المعرض أسلوبه الخاص وصورته الخاصة.. تبين طريقة تفكيره وكيفية نظرته إلى الأشياء وتفسيره لها وطبيعة انفعالاته.. فإذا كان الأسلوب من فنان لأخر مختلف، فما بالك إذا كان الإبداع نزعة تؤدي إلى التغير والإضافة والابتكار من خلال الحاجة والضرورة..
ففي لوحة علي الزنايدي"المعلمة" نجد عملا صور كعادته بتقنية مذهلة.. فاللوحة التي ينجزها علي الزنايدي، لا تتألف في اغلب الاحيان من موضوع واحد، كما درجت العادة في الانطباعية. بل من مجموعة تيمات يمكن لها ببساطة أن تمثل الثقافة التونسية التقليدية بمعناها الأشمل. كما رسخت لوحة الفنان سامي بن عامر بتقنيته المزدوجة طابعه المميز والمختلف لفن يطرح تساؤلا يتعلق بوظيفته كطريق جديد للمعرفة فهو يحاول ان يشرح التقابلات والتضادات ما بين المادة والشيء الحقيقي الذي يعيشه ويعتاده الانسان في حياته اليومية. وبين اتجاهاته الفكرية، اي استقصاء الحضور المادي وانعكاساته على الادراك الحسي للمتلقي...
اللوحات هنا جسد حامل لدلالة أو لمعنى، وكل لوحة في هذا المعرض إما أن تكون هي نفسها الدلالة أو المعنى. أو الدلالة والمعنى معا.. فأنت عندما تحاول قراءتها تكون مقروءة قراءة بصرية وحاملة لمعنى بيد أنها تصبح الدلالة نفسها عندما تقرأ قارئها. فاللوحة في هذا المكان تقرؤنا فتعيد صياغتنا لتغير خارطة ذائقتنا وتحول تفكيرنا من ترف التلقي المستهلِك إلى تلقٍ حررته اللوحة من نفس الرسام، فيتحول من داخله إلى كائن لوني، وبذلك تكون اللوحة نفسها معنى وليست حاملة معنى. والكثير من الأعمال في هذا المعرض تنتمي إلى اللوحة القارئة لقارئها.
فالتلاعب بالألوان هنا تلاعب المتمكن الأمكن، والإفراط خارج الحقيقة هو وسيلة إقناع بصحة غير الصحيح.
والألوان في هذا المعرض، تحيل الزائر -المتلقي الى قراءة صاحبها على اعتبار انها ليست غرضاً في ذاتها، وليست له من حيث ينظر بعينيه، بل من حيث ينظر بقلبه ويستعين بفكره ويعمل رؤيته ويراجع عقله ويستنجد في التكوين فهمه. ذلك أن الإبداع ارتكاز على ما هو كائن للإتيان بما لم يكن.. والمبدع الحق ليس على الحقيقة كل فنه...
ان قضية المعنى في الفن التشكيلي ليست من القضايا التي يمكن البرهنة عليها، ذلك أن الفنان التشكيلي المتميز شأنه شأن رواد العلم والفكر والفن متطلع إلى ما فوق واقعه. والتطلع إلى ما فوق الواقع يستند إلى التصور والتحصيل المعرفي كما يستند إلى المخيلات لتخيّـل شيئاً على أنه شيء آخر، وعلى سبيل المحاكاة. ويتبعه في الأكثر تنفير للنفس عن شيء أو ترغيبها فيه..
وكثيراً فيما رأينا من أعمال في هذا المعرض ما كان متعذر الإمكان، منيع الأركان، لأنه أتى بجديد في مجال الفن التشكيلي.. فما بين نسج الأرضية اللونية بالتلوين المغاير للسطح قبل البناء عليه، واختفاء هوية اللون المفرد في التركيب اللوني البارد الساخن، المحايد للأبنية الإيقاعية والتكوينات ما بين الميل إلى خلق ملمس لوني، والميل إلى تكوينات دائرية تستهدف خلق إيقاعات حركية للخطوط القوسية والخطوط المتوازية، والتظليل المتدرج، والميل إلى الكشف عن التركيب الطبقي للألوان، بما يقترب من فكرة كشف لعبة الألوان في التشكيل، هنا تبرز قيمة كل فنان، وتتجلى خاصية أسلوبه التشكيلي، وكأنه يريد القول: إن لا مزية للون الواحد منفرداً؛ وإنما المزية في نظرية النظم اللوني.
لم يكتفِ الفنانون هنا – في تقديرنا – بوضع هذه الفكرة – فكرة النظم اللوني- ليحققوا نظرية النظم التشكيلي؛ بل إننا نرى تأثير النظرية الشكلانية في إبداعاتهم التشكيلية حيث انحراف أسلوب التصوير عما هو قاعدي وعما هو تقليدي من ناحية ، وكشف أصول اللعب التشكيلي – من ناحية أخرى –وهنا يكشف الفنانون عن طبيعة التمكن الأمكن في فنهم..
أولى الفنانون في هذا المعرض عناية فائقة ﻟﻺدراك البصري في بعده التقني والجمالي، باعتبار أن الرؤية البصرية أداة نقدية تشترك في المشروع التشكيلي
لذلك اعتمدوا في هذه الأعمال على إخراج المادة التشكيلية إلى المجال الحسي البصري بتقنيات عالية، بغية إظهار تراسيم الجمال وتأكيده في الفضاء، وإمداد الأشكال بتدفقات لونية معاصرة، تتخطى حدود الزمان والمكان. وبالرغم من تعدد الاتجاهات لديهم فإنما أرسوا تجاربهم على أساليب إبداعية متميزة، يرومون من خلالها التجديد وتحقيق الاضافة في سياق نسيج تجريدي ، يشكل أيقونا لجهاز تشكيلي يجمع بين مختلف الألوان والرموز والعلامات، بقوة تعبيرية تتخذ من التكعيب ومفردات الفن التشكيلي المعاصر أرضية تشكيلية يتم توظيفها بطرق مختلفة وبتقنيات جديدة مغايرة للمألوف، لإنتاج قيمة تعبيرية معاصرة، تنبثق من تصوراتهم وأفكارهم تستهدف التقنية كأساس أول، مما يحيلك عبر معاجمهم الجمالية التشكيلية المتميزة إلى نسيج من الألغاز التعبيرية التي تتيح للمتلقي المشاركة في القراءة الجمالية لأعمالهم.

إن تفاعلهم مع اللون والشكل والخامة بشكل جديد ظاهر للعيان وبشكل جيد، فهناك إحداث للتجانس وبناء للفضاء على أنقاض أبعاد متنوعة للفراغ، وإحداث ترانيم موسيقية، وإفراز أشكال راقصة، وتحريك الكتلة بدقة وتناغم عبر مساحات كثيفة...
معرض هذا العام جاء بمثابة كوكتال غاية في التنوع والثراء والعمق.. وبستان جميل يضم أجود الأزهار وأروع الورود...

عادل الجبالي


http://www.assabah.com.tn/article-85760.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح