نقد الروائيين للرواية الجزائرية الجديدة هـــــل هـــــــو صحــــــــوة أم ضحـــــــوة؟ / حبيب مونسي



نقد الروائيين للرواية الجزائرية الجديدة

هـــــل هـــــــو صحــــــــوة أم ضحـــــــوة؟



05-04-2013 حبيب مونسي


 سأستند إلى تصريحات الروائيين أنفسهم، لأراجع من خلال مواقفهم مما يكتبون، إبداعا ونقدا، واقع الرواية الجزائرية. وأخصص هذه الورقة لـ''إسماعيل يبرير''، الفائز بجائزة ''الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي'' لهذه السنة، والذي صرّح قائلا: ''يبدو المشهد الروائي الجزائري، اليوم، في انتشاء بإصدارات متعدّدة، وأسماء مختلفة، ونصوص لا تتشابه، ولكنها تتقاطع وتتفق في رغبتها الملحة في التفوّق من جهة، وفي استسلامها لرهانات الشكل''. وهو تصريح الصحفي الذي يرصد المشهد الثقافي، فيجد فيه عددا كبيرا من النصوص المنشورة. وهي ظاهرة صحية، غير أنها لا تستند إلى تحكيم دقيق في اختيار النصوص. ففي استعماله لفظة ''انتشاء''، نلمس الواقع الذي يشوبه شيء من ''الثمالة'' التي تدير الرأس، وكأن الكلمة التي اختارها إنما تعبّر عن التداخل الكبير في وتيرة الكتابة، وسوق النشر. وأن الكلمة تحثنا على إيجاد ''حالة من التعقل''، ندفع بها ''الانتشاء'' الذي يخلط بين الصالح والطالح، والغث والسمين.
ربما تفسر حالة ''الانتشاء'' طبيعة النصوص التي تسم الرواية الجديدة.. فهي حسب اسماعيل ''نصوص لا تتشابه''، وهو حكم له خطورته، لأننا نتحدث عن جيل واحد، في نسق ثقافي واحد، في بلد واحد، يفترض أن تكون نصوصه قريبة من بعضها، مضمونا وشكلا ورؤية للعالم، لأنها تمتح من معيّن واحد. غير أن الحكم بأنها لا تتشابه يجعلها كلها، دون استثناء، عرضة ''للتجريب''، لأنه وحده القادر على أن يجعل منها نصوصا مختلفة تخضع لأهواء الروائي، وبذلك تقع خارج التنظير الذي يكتبه النقد. فكل نص في حاجة إلى نقد خاص، لا يمكن إجراؤه على نص آخر. 
هذه الحال من ''الشتات'' في الرؤية النقدية هي التي تربك النقاد والروائيين جميعا، حينما يتعذر إيجاد أرضية للتوافق، يديرون عليها أحاديثهم في المعايير والمقاييس الجمالية، لأننا حين نقرّ بعدم التشابه، لا نقصد مضمونها، وإنما نقصد طبيعة السرد، واللغة المستعملة، والأهداف المعلقة بمقاصدها. ذلك هو بُعد الاختراق والاختلاف، في نفي عدم التشابه بينها. 
ثم يقرّر أنها ''تتقاطع وتتفق في رغبتها الملحة في التفوق من جهة، وفي استسلامها لرهانات الشكل''. فتصريحه يحمل قضيتين: الأولى في مسألة التقاطع التي يقابل بها نفي التشابه، وكأن النصوص التي فقدت قدرتها على التشابه ترضى بالتقاطع. ولكن على أي مستوى؟ المخيال..؟ اللغة؟ ثم يعطف ''التقاطع'' على ''الاتفاق'' في الرغبة الملحة على التفوق والاستسلام لرهانات الشكل. وهو بذلك يختزل مهمة التقاطع في رغبتين: التفوق والشكل! التفوق على من؟ على عمل سابق للروائي نفسه؟ أم على الأقران الذين يخوضون بحر التجريب؟ فهل نقرّر أن فهم الجيل للشكل يقف عند الصدفة الخارجية للنص، ولا يتعدّاها إلى الكائن المختبئ فيها؟ معتقدين أن المضامين في الرواية العربية، شرقا وغربا، مضامين واحدة تتكرّر باستمرار. 
يتصور اسماعيل: ''أن الساحة الآن فارغة من مشروع روائي حقيقي... (يقول) كان بوسعي، وأنا أقرأ، أن أعثـر على الكثير من الحكايات، والشّخوص، والأحداث، وعدد من الروايات، لكنني لم أعثـر على مشروع روائي حقيقي، وهو تشخيص الراصد الذي وجد عددا كبيرا من الحكايات، والروايات. ولكنه لم يجد مشروعا روائيا حقيقيا..! فما المشروع إذن؟ وهل يجب أن تكون كل رواية ضمن مشروع خاص يخطه الروائي لنفسه من أول نص؟ 
المشروع الذي يتحدث عنه اسماعيل ضرب من القصد، يسكن كل كاتب يريد لكتابته أن تبلغ شأوا، لا على مستوى الصنيع الفني وحسب، وإنما على مستوى الفكرة التي يطرحها ويعالجها في نصوصه المختلفة. وكأن الرواية، في نهاية المطاف، وضمن المشروع، إنما تكون حاملا يحتضن مرامي الكاتب في مسلك مشروعه المحدّد سلفا. فالروائي لا يكتب إلا ضمن مخطط أعدّه سلفا، ليس لرواية واحدة، وإنما لعدد من الروايات، قد تستغرق نشاطه كله. فهل يحق لنا اعتبار ما كتبه الروائيون الجزائريون نابعا من مشاريع محدّدة سلفا؟ وأنهم يصدرون عن رؤية مكتملة النضج؟ أم أن الأمر عند كل واحد منهم متروك للمصادفة، تملي عليه موضوعها حسب المستجدات؟
أعلن بعضهم أنه لا يقصد موضوعه قصدا، وإنما يترك للرواية اختيار موضوعها، وشكلها المناسب. ومثل هذا التصريح ينسف المشروع نسفا، ويجعل موضوع الرواية عرضة للمصادفات السعيدة. بيد أننا نجد في عالم الفن مشاريع ذهب بها أصحابها إلى منتهاها، فكانت غاية في الإبداع والفكر. وقدمت للقراء رؤية للعالم، تتطور باستمرار مع تقدم العمر بصاحبها، واكتمال تجربته، الأمر الذي جعلنا نعتقد أن تغيير الرؤى في النصوص ينمّ عن عدم استقرار في المعرفة، كما يكشف عن فقر في التجربة. كما أنها تخبرنا أن الكتابة، ضمن المشروع، إنما هي كتابة لنص واحد، يتوزع على عناوين مختلفة، تعبّر عن تحوّلات في التجربة، وتنوعات في الرؤية، داخل النسق الفكري الواحد. وذلك ما يصنع الكتاب الكبار.. منهم من بدأ الكتابة، وقد اكتملت التجربة ونضجت الأدوات، ومنهم من يتدرّج مع تجربته من نص إلى آخر، فيُشعر القارئ بدرجات الارتقاء، هذا أمر يفسر لنا إقبال بعض المترجمين على أعمال روائي واحد يفضلونه على غيره، فينقطعون إلى ترجمته، ودافعهم ذلك التميز والتطور الذي يسكن مشروعه الروائي.
إن غياب المشروع لدى الروائي فقر يصيب النصوص الروائية التي تجد نفسها مضطرة للقفز من قضية إلى أخرى، ومن نسق معرفي إلى آخر، إنها الإشارة التي وجدناها لدى بعض النقاد حينما أشاروا إلى أن النصوص تقتل بعضها، وأن الرواية الجديدة تقتل النص الذي قبلها قتلا مؤكدا، وتحوّل الأنظار عنه، ويجد الكاتب نفسه مضطرا إلى تناسي أعماله القديمة في سبيل التمكين لعمله الجديد. تلك هي القضية التي أثارها عبد القادر رابحي، حينما تحدث عن الرواية ''الحولية''. 
إن غياب المشروع الذي يجعل الكاتب عرضة لأهواء المصادفة التي قد تضع بين يديه موضوعا أكبر منه، أو موضوعا لا يليق به، أو آخر لا يملك معرفته الداعمة التي ترفعه.. إنها مخاطرة كبرى أن يقبل الروائي على موضوع تاريخي، أو سياسي، أو اجتماعي، أو فلسفي، من غير أن تكون لديه رؤيته الخاصة التي يعمق البحث فيها، قبل الشروع في الكتابة.. فكثير من الكتاب الذين يتحدثون عن سنوات الجمع والتنقيب، وأخرى ظل النص فيها حبيس الأدراج لأن صاحبه متوجس من حقيقته.. فهل يدرك كتابنا، اليوم، أن الرواية ليست كتابة لنص فيه أحداث، ومشاعر، ولغة.. وإنما الرواية ''معرفة'' تتدرّج بصاحبها ضمن رؤية واحدة، تتجدّد أدواتها مع كل نص ينشر، وأن النص ''المتعالي'' لن يكتمل إلا مع اكتمال المشروع الذي أسسه النص الأول في بدء المسيرة الروائية؟
ثم يختم اسماعيل تصريحه بأن الذين يكتبون خارج إطار المشاريع، إنما يقدمون: ''نصوصهم منفصلة عن بعضها، وليست القطيعة التي بين الرواية والرواية ما يُعيب الكاتب، ولكن الدوران في حلقة مفرغة يجعلنا نشعر وكأن الكاتب يكرّر سعيه الأول غير منتبه، وهو حدس نقدي يمكن أن نجد فيه وعيا بخطورة النص الجديد على الروائي، قبل أن يكون خطرا على النص الذي قبله. لأن منطق التراكم يجعل الرؤية المعرفية والفكرية لدى الكاتب أنقاضا، لا يمكن أن نسلك فيها سبيل الوضوح والعلم. فليست كثـرة الروايات دليلا على الإجادة وفيض الخيال وتجدّده، وإنما قد تؤول الكثـرة إلى اضطراب لا يؤسس رؤية ولا منهجا، يستفيد منها في مباشرته للحياة. لقد علمتنا التجربة الإبداعية أن عددا من الروائيين المكثـرين قراؤهم قلة، وأن عددا من المقلين لا ينقطع رتل قرائهم مع تطاول الأزمنة. والسرّ في ذلك أن الناس مولعون بمن يقدم لهم شيئا نافعا، يسكنون إليه''

http://www.elkhabar.com/ar/autres/mousahamat/330331.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح