الكتابة ... السر والغاية؟ / د. حبيب مونسي
الكتابة ... السر والغاية؟
( ويستمر الحديث في مكتب الطبيب النفساني مع العم حمدان... )
تحرك رفيق وقال :
-لكن إذا كتب الناس كلهم ألا تخشى أن تعم الفوضى والرداءة في المكتوب والأفكار ؟
-صحيح ما تقول..لست أريد بالكتابة المبادرة إلى الفعل انطلاقا من فراغ..إنما الكتابة طقس يسبقه التحضير الشبيه بالطقس التعبدي..إنها استعداد قد يدوم السنوات قبل المباشرة..ولا أقصد هذا الضرب من الكتابة الذي أصبح سائدا اليوم..أن يجلس أحدهم في أي مكان كان، وأن ينفث من صدره بركان دخان، ثم يقبل على الورقة ينفث فيها أحقاده وهمومه، أن يفرغ فيها من سواد نفسه سوادا أشد قتامة من الحبر الذي يستعمل..أن نسمي هذا الصنيع كتابة، وأن نسمي ناتجه أدبا وشعرا وعلما..تلك لعمري مغالطة العصر الكبرى..يا رفيق كان الأوائل إذا أرادوا الكتابة وقصدوها، توضأوا ، وتطيبوا، وجلسوا من المجالس أطيبها..وكأنهم يريدون لكتابتهم أن تحمل شيئا منهم عبر الحرف إلى القارئ..وهؤلاء قد يستعينون على ما يسمونه كتابة بالمخدر والخمر، والغضب، والحقد..وما شئت من الأضغان..هذه النصوص لن تحمل الحقيقة التي أحدثك عنها أبدا ، وما ينبغي لها أن تحملها..إنها إفرازات يحسن بالأطباء أمثالك تولي قراءتها للتعرف على العلل التي تضايق هذه الشعوب في عصر التقنية العالية والتحضر المادي.
تنهد رفيق وقال:
-هل تريد منا معشر النفسانيين أن نكون قراء أدب وصحافة :
هز الشيخ رأسه قبل أن يقول:
-نعم..ذلك هو دوركم لو قمتم به على أحسن وجه لأدركتم العلل قبل انتشارها..ألم يكن شيخكم الأول قارئا للرواية ومنها أنشأ علمه؟ ألم يقم بتحليل كثير من الروايات وصولا إلى العلل الدافعة للجريمة..ألم يقم علمكم كله على الأسطورة ؟
انتبه رفيق إلى ما أنجزه فرويد، ويونغ، وأتو رانك..وغيرهم..كلهم كانوا قراء للشعر والرواية والمسرح..وسمع الشيخ يقول:
-لو كان الأمر بيدي لأنشأت مركزا خاصا لقراءة الروايات والمسرحيات والأشعار التي يلقي بها المبدعون إلى المكتبات، وجعلت المركز يقدم تقريرا يوميا عن العلل التي يصادفها في الكتابات..ما يتصل منها بالجانب النفسي، والاجتماعي، والخلقي،والاقتصادي..وغيرها من الجوانب الأخرى، وأن ترفع هذه التقارير إلى المربين في المدارس والجامعات.
تنهد رفيق وقال:
-إنك تريد أن تفرض رقابة على الحريات..
شخص بصر الشيخ قبل أن يقول:
-لا أبدا..أبدا ليس غرضي في الحد من الكتابة..ولكني أرى أن الرقيب الحقيقي للمجتمع هو الأديب، فإذا أحسنا الاستماع إليه دلنا على العورات التي يتوجب على المدرسة إصلاحها..هذا هو القصد..لن يكون المركز حكوميا مثلما تتوهم. سيكون هيئة مستقلة ذات بعد تربوي..لأن الأدب ذي طابع تنبؤي يستشرف المستقبل دوما..ثم إنني أجزم أن هذه المراكز موجودة عند الغير، تسير بنفس الفكرة، ولكنها تهتم بمن التي تريد الدول القوية فرض هيمنتها عليها..إنها تتحسس من خلال الرواية والمسرحية نقاط الضعف التي يمكن استغلالها إما لغزو ثقافي، وإما لترويج أفكار معينة، أو لبيع لون من السلع..إنها المدخل المعرفي الذي يمكنها من معرفة الأخر معرفة حميمية، لا تقدمها لها الدراسات الاجتماعية، أو الإحصائية، أو السياسية..إن الكتابة الإبداعية في صدقها لا تخفي شيئا، وتقول كل شيء..
شعر رفيق أنه اليوم يقف على وجه آخر للشخصية البشرية..ماذا يصنع هذا الرجل في هذا المكان ؟ لماذا يتهم بالجنون ؟ من الذي أحاله على التقاعد ؟ من الذي استن هذه الجريمة في حق المعرفة ؟ كيف يستغني المجتمع عن هذا الفكر وقد نضج واكتمل؟ أليس في وجود مثل هذا الرجل في مصحة الأمراض العقلية دليل على مرض المجتمع، على جنونه ؟ على حماقته ؟
تعليقات
إرسال تعليق