الأنثى في إبداعات الفنان عايش طحيمر / الدكتورة أم البنين السلاوي


 

الأنثى في إبداعات الفنان عايش طحيمر
قراءة نقدية برؤية بصرية

إبداعات الفنان عايش طحيمر، تتميز بأساليبها القيمة المتنوعة في التقنية و المتوحدة في الرسالة. يجد فيها الطلاب و الباحثين و المتلقين بصفة عامة مأربهم  من اكتشافاته المتتالة،  و مرجعهم الجيد في الثقافة البصرية. يرتوون من حكمته المعرفية و تذوقه الخصب الذي لا ينتهي في لوحة أو أسلوب معين بل في مواصلة مسيرته الإبداعية التي نستشف منها كل جديد باستمرار. فهو عربون الفن النير و النشط الذي أسدى و يسدي مزيدا من التألق للرسالة الهادفة لإشعار العالم بقيمة المرأة في الإسلام  و تقديمها في  أبهى وصف لها وسط ماهيتها الحياتية، في وطنه الأم، سورية الحبيبة.
و الحديث عن الأنثى في إبداعات الفنان السوري الفاضل عايش طحيمر هو الحديث عن المرأة العربية و ارتباطها بالأرض و الوطن.
 قدم لنا المرأة العاملة و الفنانة الحرفية و الفلاحة و أم الشهيد و رمز الوطن و امرأة في سباتها العميق تحلم بحضارة بدت و أخرى على الطريق أهلت، يحاول الديك صحوها لكنها تأبى، حتى تتم حلمها. تضحك بكاء، و حنينا يتراكم. و أخرى منتظرة لفارس الأحلام أو لحامي الملة و الدين بزيها التقليدي المزركش بأعذب الزخارف و الألوان و أجمل الحلي المرصعة بالحجر الكريم المشحونة برموز السر الدفين...
كما قدم أنثاه الفنان في مواقف حياتية أخرى، كرمها فيها أحسن تكريم بالتعبير الجمالي البارع التكوين في طرحه الإبداعي المتنوع  و الزاخر بالعلامات الرمزية في الشكل و اللون التي تحتاج لدراسات عميقة تسبح بين دهاليز الفكر و الوعي البصري لتكتسب دلالاتها من لمحة الفنان الخارقة لوجدان طبيعة المرأة و تبصره المحول للمادي الجمالي إلى محسوس استشعاري، يستحضر طهارة روحها و تأكيد وجوب وجودها في بناء صرح المجتمع و سمو الحضارة الإنسانية عامة، و العربية الإسلامية خاصة. فعمل بذلك الفنان عايش على إبراز طاقاتها المحجوبة و حيويتها الجاهزة المشحونة بعصارة خبرة مستوحية من منشأ أصيل بلا قيد أو قهر.
أطلق لتوها المبدع القدير عايش طحيمر جناح خياله الخصب لنسج حورياته الجميلات، ليحكي لنا في كل لوحة حكاية متنوعة في سرد إبداعي رائع يستقطب لب المتلقي و يستدعي فضوله لمعرفة المزيد من مختلف مضامين هذا الكائن اللطيف؛ الحامل لرسالة الأمومة و الشرف و الخصوبة و الحب و الآمال. المجبولة من الوصب و النصب من معاناة الذات مع صراع الذكر، من الجهل و القهر و بدع عادات الاحتقار و التعذيب و الامتهان و الحرمان من حق التعليم و العمل.
 و ما فتئ  الفنان عايش طحيمر في عرض حكايات أنثاه، يستحضر المتلقي للتأمل الذهني و المعرفي لمضامين تحيله على تأويل استفهامي للتعيين، حتى أخرجها من سياقها المعتاد، في عصور الوهن وتغييب الأنوثة، ليضعها في سياقات جديدة رسمها لها بأحسن أساليب روعة الجمال، ليعلي من قيمتها الإنسانية و يخلق منها، بتحدي أكبر، علامة إيقونية لمفهوم البطولة البناء، بقوام الارتقاء و الإنصاف. شامخة بعزة نفسها، و كأنها تلمس السماء برقبتها الطويلة كعنق الزرافة التي بوسعها التطلع على ما حولها بكل فخر و كبرياء لتمثل حضارة عربية و إسلامية عريقة في القدم، أمدت العالم بالمعرفة الإنسانية الواسعة  و التربية الصالحة المنطلقة من هيكلة الوعي الحسي و الإدراك العقلي المستنير من دينها الحنيف.
فاعتمد عايش طحيمر على الجرأة في التعبير لإيصال الحقيقة المرة بصراحة تامة و شفافية تتحف الوجدان و تطرب النفس يستوفي فيها حق المرأة العربية بإدماج متكامل و تناسق شامل مع المناخ الحضاري الأصيل بثقافته الواسعة يأخذ فيه الخط العربي في معظم لوحاته الأخيرة، نظرا لتكيفه مع كافة الحوامل الفنية، منحاه الاستدلالي في قالب تزييني لتسهيل الاستيعاب و التذوق الجمالي الأنثوي. فيؤدي الوظيفة الرمزية و الزخرفية أو يضفي على اللوحة سمة رفعة " الكتابة المقدسة". و بهذا السياق و على حد تعبير *تيتوس بوركهارت* يمكن اعتبار الخط " ايقونة العرب و المسلمين" ، يهدف من صيغته الفنان، بعث رسالته النبيلة لتلقين المشاهد النبع الغزير الذي يمكن النهل منه في عملية بناء اللوحة العصرية بالانفتاح على فن الخط العربي لإمكاناته التشكيلية الكبيرة مؤكدا بذلك على زمنين: زمن في الموضوع و زمن للتمعن فيه كمؤشر معنوي يلخص أفقا صوفيا أو ذهنيا. فأصبح إثر هذه التجربة يمزج  بين دلالة الحرف التجريدية و دلالته النصية، بين الدلالة في الخط الظاهرية و الباطنية. فانتقى استعراض الخطين، المنحني و الهندسي  بصفاتهما المميزة القدرة على التعبير عن الحركة و الكتلة. لكون الأول جعله يدور متجولا في حرية منطلقا في حدود مساحته المقصودة ليعطي إحساسا بالمطلق و الاستمرارية إلى ما لا نهاية. و الثاني حدد به بعض مساحات الأشكال ليعطي إحساسا بالاستقرار و الثبات و بالحركة الأكيدة ليجذب المتلقي للغوص داخلها حيث تتراقص الدوال و الخط الدوار بقيمهما التشكيلية الإبداعية مع الإيقاعات اللونية الصاخبة المتباينة تارة و اللينة في تدرجاتها الباردة أو الشفافة حتى تترك لملامح الوجه حسن الكلام و جلال التعبير...
مع إبقاء المزيد من حكايات الأنثى في مقامات لوحات الفنان عايش طحيمر نلقي نظرة خاطفة على الوانها، نلمس في كل واحدة منها وقع خاص ينسجم مع الخامات و الأشكال، يفضي إلى تعبير متكامل بين ما هو حسي و مرئي و ما هو ديناميكي أو ساكن في علاقة ارتباطية بالتفكير و الإحساس في تكوين عناصر اللوحة حيث توحي بانصهار متداخل في أسلوب جمالي يبرز التمكن المعرفي للفنان و درايته الماهرة. فنراه مثلا يهتم بمؤخرة إحدى لوحاته بسديمية مؤشراته الإيحائية العميقة ذات النزعة الذرية التي ترد الشخصية الإنسانية إلى مجموعة من العناصر أو الحالات النفسية بمناخ متحسس لصرامة الوضع البيئوي للمرأة العربية و قيمتها الإنسانية التي حباها الله بها. إضافة لذلك نستخلص من اختيار عايش طحيمر اللون الأزرق الفاتح المائل للاخضرار و وضعه بأناقة تامة على  وجه المرأة و رقبتها الطويلة، في بعض لوحاته، أو بانتشار كتله اللونية و الضوئية ليسقط على الجو العام صفة الراحة النفسية لدى المتلقي، في لوحات أخرى، ليشير بدلالة زرقته الصافية على الإيقان و الأمل في جوهره التدبري، و يمنح الإحساس  باللانهائي، فيؤدي للهدوء و السكينة. و نستشف من استعمال الفنان للون الأحمر في اللباس، مؤشر إدلائي على الحب و القوة و العرفان و للأبيض رمز بياض العذرية و الرحمة و للأسود إيحاء بالحزن مع جلال الهمة... ثم يحضر اللون الأصفر الذهبي، على سبيل المثال، في جرة مزركشة بالخط العربي تعانقها حورية جميلة بأساريرها الفرحة الحزنانة، لكنها معتزة بقيمة ما تحمل، فيتكرر اللون و الشكل بحجم مصغر في هيئة أقراط تزدان بها أذنيها و يعاودنا ظهور نفس اللون في شريط يزين حجاب الأنثى و يتوازن بكتابة الحديث الشريف "رفقا بالقوارير" مع انخفاض سطوعه اللوني، فيرفعنا هذا الأصفر بانسيابية جمالية لنزهة قدسية بلمعانه الإشعاعي الروحاني و الحدس بالظفر الإيماني الموشح بالتوبة النصوح البادية التعبير في رمزية لون قميصها البنفسجي. و على هذه الوتيرة تمتد رحلات المتلقي العاشق لحوريات الفنان الكبير عايش طحيمر في تأويلات بصرية و إيحاءات دلالية للثروة الرمزية التي يكتشفها بسخاء كبير طالما تمعن و تبصر و غطس برصيده المعرفي في عمق عطاء الفنان.

بقلم: الدكتورة أم البنين السلاوي

تطوان / المغرب

تعليقات

  1. هذه الام احلام مزيفة ربما تصاميم لاجيال مابعدالاجيال

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح