من النفسي إلى الواقعي في لوحات الفنان علي رشيد / د. صالح الرزوق saleh alrazuk



قراءات نقدية

من النفسي إلى الواقعي في لوحات الفنان علي رشيد

saleh alrazuk

د. صالح الرزوق
saleh alrazuk

على مدى أكثر من عقد ونيف كان الفنان التشكيلي علي رشيد مهموما بالرؤية النفسية للفضاء الخارجي. وهذا حوله لزاهد باللون والشكل ولإنسان يحتفل كثيرا بالحركة الداخلية للمشاعر.
و أكاد أقول إن الفكرة غير موجودة في أعماله. فهو منطلق الأسارير حيال كل ما يتخذ موضعا ثابتا في الذات.
و لهذا السبب أرى أنه اكتفى بلونين مع تدرجاتهما، وهما الأبيض والأسود. وبينهما طبعا الرمادي والكريمي.
إن هذا الطيف خاص بكل ما له علاقة بالعالم الذي تفرغ لذاته. بحيث تقود المشاعر والعاطفة أفكار الفنان وتفيض عليها. بنفس طريقة الفيض الإلهي على الموجودات. إنه نوع من التصوف المادي الذي يضع ذات الإنسان في مركز الكون، حتى أنه يمكن لها أن تحل محل الذات الإلهية في المعنى والمبنى.
في هذه الحالة كانت اللوحة تبدو كأنها خامة تحتوي على شوارد النفس وتمنع الفكرة من التجسد وتترك للمشاهد ملء الحرية في التفسير والترجمة.
و أعتقد أن هذا هو جوهر مضمون ما بعد الحداثة. أن تأتي من خارج السياق دون أن تحطمه.
و لكن باعتبار أن الفن هو الأرض الممهدة للمفاجآت كان لا بد لعلي رشيد من أن يفاجئ نفسه، وأن يأتي في غفلة منه (كما اعتاد سحبان السواح أن يقول عن كل نص جديد له).
لقد فاجأنا علي رشيد في سيمبوزيوم باريس (المنعقد في الشهر الثامن من هذا العام) والذي منحه جائزة الإبداع التشكيلي، بلغة متحولة ومفردات مهد لها سابقا ولكن لم يعوّل عليها.
و هذا واضح من اللوحة التي حاز بها على الجائزة. لقد كانت أكثر انفتاحا وشفافية. وتغلب عليها ألوان خارجية كالأزرق (لون السماء والبحر) والأخضر (لون المروج والغطاء النباتي). وهذه أول إشارة على الخروج من الهم الذاتي إلى هموم بصرية وطبيعية.
في هذه اللوحة كانت الحركة تتصف بالرؤية البصرية للفضاء الخارجي، وهو يعادل حتما المناظر الطبيعية وما تتركه من أثر على حياة الفنان.
لقد اندمجت الأرض والسماء في هذه اللوحة بلا فواصل، وحققت ما كان يقول عنه فوكو أنه تمثل ومحاكاة، بحيث أن ما يجري على الأرض يحاكي ما هو موجود منذ الأزل في القبة السماوية.
و إن مثل هذا المنعطف، إن دل على شيء، فهو يدل على تصعيد الذات إلى موضوع. وفي نفس الوقت على تورريط الفنان لنفسه في تفسير ما حوله.
لقد كان من قبل مجرد وسيط ينقل ما تتركه الطبيعة من تراكمات نفسية ولكنه الآن أصبح طرفا في تركيب المشاهد.
و قد فرض ذلك عليه الانتقال أيضا من الاعتماد على سماكة ضربات الفرشاة فوق الخامة إلى الاعتماد على توزيع الخطوط.
و يجب الانتباه لمعنى كلمة خطوط، إنها ليست بالضبط حدود الرؤية للشكل المسموح به، وإنما هي أثر الحياة العادية على الواقع النفسي، بعبارة أوضح إنها العصاب أو العقدة النفسية والتي تحدد درجة وموضع الألم والمعاناة مع الواقع.
فإذا كانت موزعة على خامة اللوحة هذا يدل على المعاناة اليومية من روتين الحياة. وإذا كانت تبدو أشبه بندوب في أطراف الخامة فهذا يعني فيما يعنيه وجود أشواق خاصة تنجم عن ذكريات لا يمكن أن تنمحي، مثلا موضوع رغبة مهما تراكم غبار النسيان عليها فإنها لا تزول من عالم اللاشعور.
و أعتقد أن هذا هو شأن هذه اللوحة. إنها تنم عن جرح كان ينزف وترك وراءه ندبة.
أما ما هي طبيعة هذا الجرح فهذا شيء مفتوح على شتى الاحتمالات.
إنه من أثر الفوضى العارمة التي تخبط خبط عشواء (بلغة زهير بن أبي سلمى)، ومن أثر السقطات الخاصة وما تفرضه علينا من حدود وحرمان وأحزان.

saleh alrazuk
تموز ٢٠١٤
http://almothaqaf.com/index.php/readings/882749.html


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح