الأدباء الشباب في المشهد الثقافي الجزائري / عيسى شريط


الأدباء الشباب في المشهد الثقافي الجزائري
عيسى شريط





عيسى شريط وبوكرش محمد

ثلاثة محاور اعتمدتها لطرح انطباعات حول ظاهرة التسميات والصنيفات التي ترافق الأجيال من المبدعين في كل مرة..هي انطباعات لا تلزم أحدا سواي قابلة للرفض أو القبول..ثلاثة محاور هي (ظاهرة التصنيفات ومعنى أدب الشباب؟..الواقع الثقافي الجزائري..أثر الواقع الثقافي على الأديب الشاب والأديب عموما)..


المحور الأول: تحديد مفهوم أدب الشباب؟..

في كل حقبة تمر على الحياة الجزائرية الثقافية عموما والأدبية على الخصوص، تبرز تسميات وتصنيفات بغرض تمييز فئة ما أو تصنيف موجة إبداعية ما، وغالبا ما يكون سند ذلك غير مؤسس من جهة وغير بريء من جهة أحرى أيضا، فالغرض منه في اعتقادي هو إقصائي أولا، يسعى الى فصل فئة معينة عن محيطها الطبيعي والمرحلي، فضلا على غرض تقزيمي ثانيا، من حيث تجريدها من الفعل الإبداعي واعتبارها اعمالا لا يمكن تصنيفها ألا خارج الفضاء الإبداعي الطبيعي الذي يشمل الحياة الثقافية في عمومها بمعنى أنه عمل هجين وشاذ لا يندرج ضمن الإطار الإبداعي العام والسائد والطبيعي له...وعادة ما تكون هذه التسميات والتصنيفات مجرد عبارات مبتدعة وارتجالية غير مؤسسة إطلاقا..ومثل هذه التصنيفات يترتب عليها بالضرورة بل وحتما صراع حقيقي بين المصنف والمصنف..عندما أصنف أدبا حسب جنس أو سن كاتبه، كالأدب النسائي مثلا ألا أسعى هنا الى إثارة وتكريس الصراع الأزلي بين المرأة والرجل، أليس غرضي إقصائي بني ولو بدافع لاشعوري على الجدلية الأزلية لعلاقة الرجل بالمرأة التي تقاوم (أي العلاقة) وترفض حق المرأة في العدالة والمساواة بين الجنسين لتظل المرأة محتجزة في خانة الكائن الخاضع للرجل، هذا الوضع الاجتماعي التسلطي والكابت سرى على العمل الإبداعي الأدبي نفسه الذي تكتبه المرأة عبر تصنيفه بناء على جنسها، فلماذا لا يسري هذا التصنيف تبع لجنس الكاتب على الأدب الذي يكتبه الرجل ويصنف بذلك أدب الرجال؟..بل ما يكتبه الرجل هو أدب وكفى وما تكتبه المرأة هو أدب نسائي؟..
هناك تصنيفات من نوع أخر الغرض منها تقزيم العمل الأدبي نفسه للإشارة اليه بأنه أدب ضعيف شذ عما هو متداول..حين أقول مثلا هذا أدب استعجالي، ألا أسعى في الواقع الى الاستهانة به عبر الايحاء من خلال التسمية بأنه أدب غير مؤسس اعتنق ظاهرة ما بسرعة وباستعجال، العامل الذي يجعله أدبا ضعيفا..لنفرض أن هذه التصنيفات لابد منها، فإذا وجد ما يسمى بالأدب الاستعجالي ، يوجد فرضا ما يقابله يصنف ويوسم الأدب المتروي أو البطيء..وأدب الشباب يقابله حتما أدب الشيوخ..تماما مثل الأدب النسائي والأدب الرجالي أو "الذكوري"..لذلك أراها تسميات وتصنيفات لا تتعدى مجرد مصطلحات مبتذلة وارتجالية غير مؤسسة إطلاقا..
هنالك تصنيفات أخرى أكثر حدة وخطورة لأنها تسعى الى إثارة صراع ذي طابع سياسي ووجودي وانتمائي أيضا يلتصق بالهوية، عندما يصنف أدبا تبعا للغة التي يكتب بها مثلا أدب فرنكفوني وأدب "معرب" اذا صح المصطلح، وأدب أماريغي أيضا ، ألا يدخلنا هذا في متاهة لا مخرج لها تشكك في انتمائنا وهويتنا وتدفعنا الى التصادم الحتمي؟.. هذا ما جعلني أشكك في براءة التصنيفات والتسميات..
وها نحن الآن نطل على تسمية جديدة ليست بريئة ايضا وهي "أدب الشباب"..وهي محور هذا الملتقى الأدبي..كثير من الكتاب الشباب أنفسهم يشككون في هذا التصنيف لما يحويه من فخ مدسوس يسعى خلف إثارة الصراع الأبدي بين الأجيال حتى ولو بدا منحصرا في الصراع الأدبي بين الأجيال.. جمعت بعض الأراء لكتاب شباب من موقع جريدة الفجر التي نشرت ندوة ساهم في تنشيطها كتاب شباب تحت عنوان (هل للإبداع سنّ رشد ؟؟)..

فهذا الشاعر "محمد الأمين سعيدي " يقول (أدبُ الشباب" جملة بما تحمله من تصنيف خاضع للسنِّ البيولوجيّ لا إلى منحى إبداعي مخصوص..).. وهذه الأستاذة هاشمي غزلان تتساءل (يتحدّد مصطلح أدب الشباب ضمن إطار مرجعي يفتقد الوضوح، إذ يتم التساؤل حول هوّيته: هل القصد ما تكتبه فئة الشباب؟ أو ما يتم كتابته حول هذه الفئة؟أم يحتمل المصطلح الأمرين معا؟..)..ومن هناك يهتف الشاعر علاوة كوسة (بين إرث السابقين وقيمته، ومنتـَج اللاحقين وثورته في الكتابة الأدبية، وعلى صفيح إشكالية / مشكل المجايلة الغامض / اللافت والعويص..)..وتتساءل الشاعرة خديجة باللودمو (مصطلح "أدب الشّباب"في بعض معانيه وأبعاده، هو أدب مقرون بالشّباب، ذلك أن الشّاب هو مُنتجه، فإذا انطلقنا من فرضية أنّ الشّباب هو فترة: النّضج، الجُنون، البناء والإبداع، نتساءل عندئذ : هل الأدب الذي يكتبه الشّباب يعكس بالضّرورة كل هذا وذاك؟)..وهذا مبدع شاب أخر لم أجد اسمه ربما سقط سهوا يحسم (باعتقادي أن عبارة "أدب الشباب" ليست سوى عبارة ارتجالية، تحمل حكم قيمة، وتصنيفا مبنيا على منطق ذاتي. الأدب يظلّ أدبا ولا يرتبط بالسنّ، لا بالزمان ولا بالمكان..)..ويقترح هذا الكاتب بديلا أراه مناسبا بالرغم أنه لا يخلو من هاجس التصنيف فيقول (إذا نظرنا إلى العبارة نفسها من منطلق أنها تحمل إشارة تصنيفية (وفقط) لأدب جيل حديث العمر، فمن الممكن استبدالها بعبارة "الأدب الجديد". "الحياة الأدبية ليس لها عمر" بحسب تعبير إسماعيل كاداري. يمكن أن نسميه أيضا أدب جيل الاختلاف في جزائر تعرف راهنا مضطربا أين يبقى الأدب وحده خارج الاهتمامات اليومية للفرد العادي..)
وكثير من التساؤلات الأخرى التي تحاول الاقتراب من هذا التصنيف بحذر شديد وبتحفظ أيضا بعيدا عن أي موقف أو جزم.. إذا كان مصطلح أدب الشاب مرتبط بعمر الكاتب فهل يسري ذلك على الذي يأتي متأخر الى الكتابة وقد تجاوز الأربعين من عمره؟..أقول هذا من تجربتي الشخصية ، فشخصي المتواضع نشر أول قصة قصيرة سنة 1994 وكانت حينها قد تجاوزت الأربعين ، ونشرت كل أعمالي الروائية ابتداء من سنة 2003، فأين أصنف إذا ما اعتمدنا تصنيف السن وأنا مصنف أدبيا من جيل التسعينيات على الرغم من سني؟..وخلاصة القول أن الأدب يظل أدبا بعيدا عن أي تصنيف والحياة الأدبية ليس لها عمر..
على الكاتب أن يتوفر على قدرة التأقلم عبر كل مراحل الحياة، فيمكنه أن يظل شابا –أدبيا طبعا- إذا تمكن من الأدوات التي توفر له إمكانية التأقلم وراهنه كي لا ينقطع عنه ويظل قابعا في عالمه الذي تجاوزه الزمن..هذه الأدوات تتطور وتتنوع تبعا للحقبة الزمنية كتطور اللغة والأداة التكنولوجية والمحيط والناس والعادة واللباس والفنون وغيرها..على الكاتب فقط مهما بلغ من السن أن يعي هذه الأدوات ويوظفها في نصوصه الراهنة كي يظل شابا أدبيا..




المحور الثاني: الواقع الثقافي الجزائري...

للتحدث عن الواقع الثقافي الجزائري رجعت الى مقالة كنت قد ساهمت بها ضمن ندوة تطرقت الى نفس الموضوع..الواقع الثقافي الجزائري هو انعكاس للواقع العام حيث لا يمكن عزله عن المحيط العام السائد في كل جوانبه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرهم، بمعنى الوقوف على حقيقة الواقع الثقافي لا يستدعي بحثا معمقا يمكن الوقوف عليه بمجرد النظر الى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي..
لم يعرف زمن عبر التاريخ انحطاط الواقع الثقافي مثل هذا الزمن الجزائري، واعتقادي أن السبب الجوهري في ذلك – وهو ضمنيا سبب سياسي مقصود- ينحصر في قهر وتهميش المبدع وفي المقابل يمجد رواد زرع الرداءة والتخلف فكرا وسلوكا واجتماعا واقتصادا وسياسة أيضا، تكرس هذا الوضع إذن نتيجة لإرادة تهميش رواد الثقافة الحقيقية والطبيعية التي تسعى خلف البناء والرقي بالإنسان..
في ظل تهميش الأدباء والمبدعين عموما، يهمش حتما المشهد الثقافي، لأن العناصر التي تحركه "مغيبة أصلا" ذلك ما يفتح المجال على مصراعيه "قبالة عناصر الرداءة"، العامل الذي انتهى بنا الى ما نحن عليه من تخلف ثقافي مركب يصعب الخروج منه إلا بإرادة سياسة أولا وثانيا- وهو الأهم - بإرادة المثقف نفسه عبر نفض الغبار المتراكم عليه وعلى أحواله البائسة والمحبطة، ويمكنه ذلك لو انتبه للحظة بأنه وحده من يشكل العنصر الجوهري لثقافة البناء والتطور، وحده مصدر إبداع الفكرة التي يستند عليها عالمنا المعاصر في تطوره وبناء مجده الفكري والتكنولوجي في شتى مجالات الحياة..
هذا الواقع الثقافي البائس زاد في تكرسيه أكثر المثقف الجزائري نفسه عبر تخاذله وما زال يصر على موقفه البائس هذا حتى هذه اللحظة، وإلا كيف نفسر صمت المثقف الرهيب على كل ما يحدث في مختلف المجالات ابتداء بالصمت عن وضعه المزري وانتهاء بصمته المرضي عما يحدث خصوصا في المجال السياسي وباقي المجالات الأخرى؟... بل ويضيف إلى صمته انسحابه المطبق واعتكافه على هامش الأحداث، إذ لا نكاد نقرأ له رأيا واحدا فيما يحدث ويصر على صياغة مقالات أدبية أكل عليها الدهر وشرب معتقدا أن القارئ والمواطن الجزائري عموما يهتم بما يكتب.. بل اليقين أن المواطن لا يعير المثقف أدنى اهتمام لأنه أصبح يشكل بكل بساطة رمزا للفشل لا يمكن قطعا الاقتداء به نتيجة لصمته المرضي واعتكافه على الهامش مما يعطي انطباعا على فشله وجبنه في حين يسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية قوم دهماء تمجدهم الأغلبية..
وأنا اقرأ قصة قصيرة للقاصة جميلة الطلباوي عنوانها " زوايا الخريف" بدت لي أن أحداثها تصف وضعية وحال المبدع عموما، بطل القصة رسم لوحة غريبة وسماها "الغريب" وقد جسد عليها نصف وجهه॥وهي حال المثقف والواقع الثقافي في اعتقادي الذي يبدو بلا ملامح..وتسترسل القاصة إذ تقول عن بطل القصة ( كان مؤمنا بالنجاح و لم يكن يعرف بأنّ الخفافيش يزعجها النجاح ويشكّل خطرا على مناصبها و كراسيها ، دبّروا له المكيدة بإحكام و ألبسوه التهمة كاملة ليجد نفسه وراء القضبان )..وهذا الذي حدث فعلا بالنسبة للمثقف والمبدع في الواقع الثقافي الجزائري والذي انتهى على الهامش بفعل مدبر..وحين سألته زوجته بغرض محاولة إخراجه من اعتكافه المرضي (-لماذا لا ترسم، يمكنك تنظيم معارض للوحاتك؟..انفجر ضحكا هو يقول بنبرة اليائس المحبط: وكأنّك لا تعلمين بأنّ الفنّ لا يجلب الخبز في هذا البلد؟..)..والحاصل هو هذا بالضبط..الفعل الإبداعي في مجال الأداب والفنون بكل أجناسها هو اختيار حتمي لحياة الفقر في واقعنا الجزائري، في حين هي حرفة ومهنة قائمة بذاتها تجلب خيرا كثيرا في بلدان أخرى..

المحور الثالث والأخير

اثر الواقع الثقافي على الأديب الشاب والأديب عموما.....

في البداية يستوجب الاتفاق على أن حقيقة الواقع الثقافي المؤسفة ليس لاصقة بالراهن، إنما الواقع الثقافي مزري ومؤسف ومنحط منذ الاستقلال الى يومنا هذا وقد عنت منه أجيال كثيرة من الأدباء الجزائريين والذين مروا بمرحلة الشباب أيضا...
حقيقة الواقع الثقافي المثبطة والقامعة أيضا، ترمي بكل ثقلها على الأديب الشاب فعامل التهميش من قبل المجتمع وعامل اللاعتراف من قبل الأجيال السابقة من الأدباء ينعكسان بكل تفاصيلهما بشكل واضح على الفعل الإبداعي الشبابي وانتاجهم الأدبي والفكري، يتجلى ذلك من خلال غموض الرؤية المستقبلية وغموض معالم الطريق الذي يجب سلكه إبداعيا..نلاحظ ذلك من خلال المواضيع التي يتطرق إليها الأديب الشاب، فعادة ما يبتعد كثيرا عن واقعه كي لا أقول يتجنبه حيث لا يكون محورا أساسيا لمواضيعه الشعرية والنثرية، ولعل عنوان مجموعة خالد علواش الشعرية " دموع..وامتعة السفر" يؤكد هذا الغبن المسلط على الأديب الشاب من قبل الواقع الثقافي الجزائري فالدموع هنا ليست دموع الفرح بقدر ما هي دموع المعاناة ، أما أمتعة السفر فهي إشارة واضحة الى رغبة الهروب وهجرة واقع مؤسف وقامع للبحث عن بيئة أخرى وواقع أخر قد يتعرف له بمهاراته..
حقيقة الواقع الثقافي بكل مكوناتها من الأسرة مرورا بالمناهج التربوية انتهاء بديناميكية الحياة الثقافية من سلوك وعلاقات اجتماعية وإبداع وإنتاج أدبي وفني وفكري وسياسية ثقافية وغيرهم، علما بأنها عوامل ومكونات تساهم بشكل مباشر في تكريس انحطاط الواقع الثقافي الراهن المتميز بصفات القامع والكابت والإقصائي..حقيقة هذا الواقع الثقافي إذن، تفرض على الأديب الشاب عزلة مفروضة لا خيار له فيها، عبر تهميشه وإقصائه اجتماعيا، فالمجتمع الجزائري في عمومه لا يثمن الفعل الإبداعي بقدر ما يثمن أفعالا أخرى تكرس انحطاطه ، وكلنا يدرك بأن نظرة المجتمع للمبدع عموما نظرة فيها الكثير من السخرية والاحتقار لما أصبح يشكله المبدع من رمز للفشل- والفشل المقصود هنا هو الفشل المادي- هذا فضلا على عامل اللاعتراف به من قبل الوسط الثقافي عموما والأدبي على الخصوص..وقد وجدت في مداخلة للشاعر أحمد عبد الكريم اصدق تعبير عن وضعية الواقع الثقافي وأثاره على الأديب الشاب حيث يقول " ولأننا نعيشُ زمناً متكسرَ المرايا على كلِّ مبدع أن يحافظ على سلامة وجهه من شرخٍ قد يشوه ملامحه تحت مسميات كثيرة، كان للصدمةِ الأولى في مشهدٍ ثقافي متصدع أن تجدَ نفسكَ كاتباً، شاعراً، قاصاً، روائياً أو مسرحياً تكتب وتؤلف وتبدع وتنال إعجاب الأصدقاء وحلقة المهمَّشين الضيقة حولك.." ويقول في موقع أخر " الأمل موجود، لأنَّ نصوصا بذاتها خرجت للنور والعتمة والشمس والمطر والنقد والتنكيل والاستهزاء وأشياء أخرى.. "..
هذه العزلة التي يفرضها الواقع الثقافي على الأديب الشاب عبر غياب سياسية واضحة تعتني بالكتابة وبالنشر وبالكتاب وبالتوزيع وبالحقوق المترتبة عن ذلك، ليست عزلة منفردة، بل ظهرت عزلة أخرى زادت من فجوة ابتعاد المبدع الشاب عن محيطه أكثر، لكنها عزلة اختيارية دفعه إليها الواقع الثقافي القامع والمؤسف، هي عزلة الإدمان على الانترنيت.. لا شك أن شبكة الانترنيت لها إجابياتها وسلبياتها أيضا هي عالم معرفي افتراضي قد يستفيد منه الأديب الشاب لكنه يوهمه ايضا بأنه- وعبر ربطه لعلاقات اجتماعية افتراضية تمنحه فرصة التواصل الكثيف- تمكن من فك والتخفيف من العزلة التي يفرضها عليه محيطه، ولكنها في الواقع تكرس عزلته أكثر عن مجتمعه وبيئته من خلال انفراده وهدره للوقت بلا حساب قبالة جهاز الكومبيوتر..ربما هذا ما يفسر فقر أعمال بعض الأدباء الشباب الى المادة الشعرية أو القصصية التي تلتصق بقضايا واقعهم ومحيطهم الاجتماعي، فتعتنق أعمالهم قضايا أخرى قد لا تعنيهم في مقام أول حتى ولو كانت متصلة بهم من حيث بعدها العربي والإسلامي والانساني ايضا.. هذا واقع أخر غير مبشر بخير في اعتقادي، حيث يدفع بالأديب الشاب الى العيش في الظل بعيدا عن حركية الواقع مما يدفعه أيضا الى العزوف عن اعتناق قضايا مجتمعه بمختلف أوجهها التي تعنيه بالدرجة الأولى والعزوف عن المشاركة فيها أيضا.. هذا فضلا على توقعه حول ذاته يتجلى ذلك من خلال كتباته التي لا تتعدى مجرد التأملات كي لا أقول هذيان ذاتي جدا لا يعني أحدا على الإطلاق سواه..ولا يعني القارئ على الخصوص لأن مثل هذه الكتابات الناتجة عن عزلة مركبة أضيفت إليها عزلة إرادية تجلت عبر كتابات جوفاء ربما يعتقد الكاتب أنها ترقى الى مستوى تأملي فلسفي قد تتجاوز القارئ الذي لا يعنيه في النهاية...
وعلى الرغم من هذا الواقع المر المفروض على الأديب الشاب، برز الكثير من الأسماء الشابة في مختلف الأجناس الأدبية ، يستحقون الوقف عندهم وتأمل منتجاتهم الأدبية..ولا أريد هنا ذكر أسماء..
في الختام أردت الوقوف عند فعل التجديد الذي ربما يذكر عبر الأجيال بغرض الإيحاء الى التميز الإنتاج الأدبي الراهن عما سبقه..جملة من الملاحظات تلتصق بالموضوع كنت قد نشرتها من قبل ولا باس من إعادة طرحها بلإيجاز...
يعتقد ويؤكد البعض بأن فعل التجديد يمس كل جوانب صناعة النص من حيث الأسلوب والمضمون والبناء، فمن ناحية المضمون منهم من يعتقد بأن التجديد يكمن في إدراج بعض "الخرجات" الجريئة ضمن نصوصهم لتوحي بتفردهم وشجاعتهم على تجاوز بعض القيم أو التابوهات كمحاولة التمرد على بعض القيم والمعتقدات والعادات الاجتماعية..في اعتقادي هذه رؤية ساذجة لا يمكن أن تحدث الإضافة والتجديد..التجديد في هذا الجانب لا يستدعي شيئا من هذا القبيل، إنما يشترط فقط في أن يكون الكاتب أصيلا ، ولن يتسنى له ذلك إلا من خلال قدرته على نقل وسرد أشياء معروفة بشكل يوحي بأنها غير معروفة لدى القارئ على رأي الكاتب والمفكر الألماني "جوتهGoethe" (إن الكاتب الأصيل ليس ذلك الذي يبدع شيئا جديدا فحسب، هو ذلك الكاتب الذي يمتلك القدرة على سرد أشياء معروفة بشكل يوحي بأنها غير معروفة تبدو كما لم تسرد من قبل..بذلك يتمكن الكاتب من التكلم بصوته الخاص وإيهام القارئ بمجرد إنهائه قراءة النص بأنه عاش للتو من خلال القراءة تجربة حياتية جديدة على الرغم من معايشته اليومية لنفس المواقف والأحداث التي جاء بها النص الأصيل، بذلك يتحقق فعل التجديد الذي يحدث الصدمة والدهشة بعيدا عن تلك "الخرجات" التي لا تحقق سوى خيبة أمل القارئ...
أما محاولات التجديد الملتصقة بالأسلوب فهي كثيرة ومتنوعة بتنوع النصوص، والملاحظ على هذه المحاولات هو اعتمادها لأساليب سردية معقدة وغامضة ظاهريا توحي في ظاهرها بشيء من التجديد لكن ليست كذلك في جوهرها لأنها بكا بساطة عجزت بشكل كبير على تحقيق معادلة القصد والإيجاز بمعنى أن الكاتب باعتماده لمثل هذا الأسلوب المعقد والغامض والأجوف يعجز يقينا عن إيصال ما يقصد قوله للقارئ الذي يعجز بدوره على التماس وفهم الأفكار والرؤى التي يريد الكاتب طرحها، مما يحرمه من إمكانية الإحاطة بقصد ونية قول الكاتب..وهناك بعض الكتاب من حاول التجديد عبر استعماله لأدوات تعمل من حيث الحكي على كسر الفعل السردي وتتحول بتكرارها الملح الى فعل مشوش على القارئ وتشكك في قدراته الاستيعابية، العامل الذي يمنعه من الانتقال الى مرحلة الاندماج في النص والتي تمكنه من الوقوف على نية قول الكاتب وبذلك لا يتحقق إنجاز القصد..مثل هذه الأساليب الغامضة والمعقدة لا يمكنها تحقيق فعل الإضافة أو التجديد على الإطلاق اعتبارا لعجزها عن إنجاز القصد من جهة وإثارة فعلي المتعة والصدمة من جهة أخر...الفن كما يقال يوجد بكثافة في البساطة...
أما محاولة التجديد التي تستدعي فرصة التأمل هي تلك المتعلقة بالجانب الشكلي والبنائي للقصة من حيث إدراج بعض القيم التقنية/الفنية التي تعمل على إثراء النص النثري جذبا ومتعة وجمالا بمعنى تغذية النص أثناء عملية البناء بالاعتماد على وسائل فنون أخرى كفن الرسم مثلا الذي يثري "القيمة القصصية" من حيث تدرج مراحل البناء فضلا على تشكيل الصور والمستنبطة من كل مراحل "خلق" اللوحة..فالكلمة هنا تأخذ شكل الفرشاة مما يتيح بطريقة ذكية للقارئ الوقوف على رؤية الفنان ويمكنه من النظر بعينيه الثاقبتين للأشياء بكل تفاصيلها الجميلة. وقد سبق للكاتبة (زهرة بوسكين) أن وظفت نفس التقنية أي وسيلة الرسم والتشكيل بالكلمات بشكل جعل من قصتها (الوجه الغائب) (9) قصة فنية بامتياز..هناك أيضا إمكانية إدراج التقنية/الفنية السينمائية كاعتماد طريقة بناء سرد النص بواسطة جملة من المشاهد المتسلسلة والمركبة بشكل منطقي يعمل على تحقيق التطور والتصعيد الدرامي للأحداث والمواقف الى ذروتها، هذا فضلا على توظيف كل الأشياء والمؤثرات المحيطة بالمشهد كالأضواء والأصوات وكل التفاصيل الأخرى المعتمدة في الكتابة السينمائية. إذا ما أردنا وصف مكان معين، فتوظيف وسيلة السينما يحقق فعل إقحام القارئ في العملية الإبداعية حيث يعمل الكاتب على استدراجه الى اكتشاف المكان بطريقة تدريجية عبر كل المراحل السردية للقصة تماما مثلما تفعل الكاميرا، بذلك يتمكن القارئ من تصور المكان بإضافة لمساته التخيلية..وأسمح لنفسي بأن أذكر أنه سبق لي توظيف التقنية السينمائية في كتابة بعض قصصي باعتباري قد مارست الكتابة السينمائية من قبل ووقفت على مدى إعجاب القراء بمثل هذا النوع من الكتابة...
وخلاصة الحديث أن يتشبث الكاتب الشاب بحلقته ضمن حلقات السلسلة الطبيعية للفعل الإبداعي الأدبي المتشكلة عبر الأجيال ليضمن حقه في الإضافة الإبداعية التي تساهم في عملية التطوير تبعا لتراكم التجارب السابقة والتي عليها يؤسس مساهمته، ويصنف بذلك انتاجه الأدبي ضمن فضاء الأدب الجزائري عموما بعيدا عن أي خصوصية أو تسمية تكرس انفصاله وبالتالي محص حقه في الإضافة الايجابية عبر إحداث لمسته الخلاقة المساهمة مباشرة في تطوير العمل الأدبي بكل أجناسه...
عليه أيضا في اعتقادي، أن يقاوم فعل العزلة المفروض عليه عبر تفاعله ومحيطه ومجتمعه الواقعي حيث تتوفر المادة الشعرية والقصصية والروائية بشكل كثيف ومتميز، أما الشبكة الافتراضية التي توفرها الانترنيت لا يمكن اعتبارها واقعا أخر يعوض العزلة المفروضة بل سيكرسها أكثر، هذه الشبكة يمكن استغلالها للتواصل وتوصيل المادة الشعرية والقصصية والروائية التي يفرها بكثافة مجتمعنا الواقعي الى الآخرين والذين عبر تفاعلهم بما نكتب وننشر نتمكن من تمرير أشيائنا التي تميزنا واطلاعهم بذلك على إنتاجنا الأدبي ماضيا وراهنا...
أما فعل التجديد أو الخلق الأدبي لا يمكن أن يأتي من العدم إنما يؤسس على أفعال وأفكار إبداعية قائمة يعمل الكاتب الشاب على إعادة بعثها في قالب جديد يتميز من حيث المقاربة والأسلوب والرؤية الراهنة مما يضفي على هذه الفكرة القائمة لمسة مجددة توحي للقارئ بأنه يعيش تجربة حياتية وإبداعية وجمالية جديدة لم يسبق له أن عاشها وهنا تمكن أصالة الكاتب على رأي الكاتب والمفكر الألماني "جوته)Goethe" (..وهنا أيضا يمكن التسليم بالفعل التجديدي...





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح