أيها الوزير : نريدك أن تبقى محترما / محمد أبو هاشم محجوب

أيها الوزير : نريدك أن تبقى محترما
par Mohamed Abu Hachem Mahjoub, dimanche 8 janvier 2012

كان بإمكانك أيها الوزير أن تخرج من مأزقِ ما كنتَ كتبتَ عن الدوعاجي في سياق قديم يرجع إلى سنة 2006 ، أن تخرج منه بخفّة السياسي الفطن، وبالتركيز على الجوهري الأساسي. ولكنّك سقطت مثلما يسقط أيّ غر. ولا يليق بوزير تونس للتعليم العالي أن يقع كما وقعت. فقد قلت في ما لا يزيد عن الدّقائق المعدودة ما يلي تقريبا:

- إنّك لا تعرف الدوعاجي ولم تقرأ له غير هذاك النصّ المسكين

- إنك لا تسمح بتدريس نص علي الدوعاجي الذي ذكرته، وأنك [وهذا مستنتج من كلامك] ضدّ تعدد الآراء في مناهجنا التربوية ولو كانت موضوع دراسة، ويمكن الرد عليك بسهولة بأنّ نص علي الدوعاجي ليس تعليمات وأوامر وإنما هو موضوع للدرس والمناقشة في القسم وهو ما يقوم به أساتذتنا الذين كونتهم الجامعة التونسية تكوينا قويما.

- إنك لا تعرف تاريخ تونس المعاصرة الأدبي والفكري وتكتفي في معرفته بما كان لوح به أستاذ لك ذات يوم في درس من الدّروس وفي نطاق أقوال مستهلكة ملوكة

- إنّ اختصاصك "العلمي" يبرّر عدم اطلاعك على الأدب وعلى ثقافة تونس وفكرها

أيها الوزير : لا شك أنّك تعرف أنّ صاحب أكبر مصنف معاصر في تفسير القرآن الكريم، وصاحب مدرسة من أهم مدارس التفسير، ألا وهي المدرسة المقاصدية، وصاحب المؤلف الشهير في تعصير المناهج التربوية الزيتونية، أعني الشيخ العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله، قد أخرج للناس شرحا وتحقيقا علميين نادرين لديوان الشاعر بشار بن برد ، وهو من هو في تاريخ الادب العربي، وهو من هو في صروف الزندقة والزنا وشرب الخمر والغلمانيات، وخصص له من حياته من الوقت ما لا أحسب أنه يقل عن السنين الطوال، والله اعلم : فهل ستقضي حكومتكم الرشيدة باستبعاد ديوان بشار واستبعاد التحرير والتنوير واستبعاد "أليس الصبح بقريب واستبعاد "مقاصد الشريعة" من رفوف المكتبات التونسية ؟ هل قرأت أيها الوزير يوما كتاب الأيام لطه حسين، وهل قرأت كلامه في سيدنا المؤدب وفي العريف ؟ أم تراك ستنزع صفة الأديب عن طه حسين كذلك. ؟ رويدك أيها الوزير. فهذا مما لا يليق، وإنا نريدك فعلا أن تبقى محترما.

لا شك أيها الوزير أن كلامك سيعجب بسطاء الرأي منا لا لأنه صحيح وثاقب ولكن لأنهم لا يعرفون. وأخشى أن يكون الأمر هكذا في ما ستقدم عليه من سياسة أمر التعليم العالي والجامعة. وذلك هو ما حير الكثيرين فيك.

كان بإمكانك مثلا أن تلاحظ إنّ ما قلتَه في الدّوعاجي قد كان كلاما جداليا في إطار مجابهة شاملة مع ديكتاتورية بن علي، وأنّك اليوم لم تعد تتبناه. كان بإمكانك أن تقول إنّ الأمور قد تغيرت الآن وأن الدّوعاجي علمٌ من أعلام تونس ولا يحق لنا أن نكبّ سعده مرة أخرى بعد حياة الغلبة التي عاشها. كان بإمكانك أن تتذكّر أنّ كل الذين درسوا أبا نواس لم يصبحوا مدمني خمر، وكان بإمكانك، ولكن لعل هذا كثير عليك، أن تقول إن المرء، ولاسيما متى كان راشدا، حر في تربيته وأن من أراد أن يشرب الخمر أو أن يتركها فهذا شأن شخصي. أليس ذلك هو ما تردده حركتكم أيها الوزير ؟

ألا تجد أيها الوزير أنّه من المحرج أن يتكلم وزير الجامعات أمام من كان ينتظره من الجامعيين حتى يتعرف عليه، وحتى لا ينساق إلى أي حكم مسبق عليه، أن يتكلم بمثل تلك المعرفة "التقريبية" بالثقافة التونسية بل بالثّقافة عموما ؟ ألا ترى أنه من العسير أن يظلّ هؤلاء الجامعيون يرون فيك، بعد أن استمعوا إليك، مثالا لهم وأنموذجا يشتركون معه في إعادة بناء جامعتهم وترقيتها إلى أعلى المراتب ؟ ماذا تقدّم لهم أيّها الوزير ؟ ما ذا تقدّم لهم من الأفكار ؟

إنّ تقانة المعرفة العلمية، أيها الوزير، لا يمكن أن تصنع سياسة الجامعات، ولا بدّ لكلّ من يريد أن يسوس الجامعات أن يكون بعيد النّظر، واسع الآفاق الفكرية، ولو كان في الأصل صاحب اختصاص ضيق. هل تريد مني أيها الوزير أن أضرب لك أمثلة عن نظرائك في بلدان محترمة ؟ فاعلم إذن أنّه لما كانت فرصة المسؤولية على الجامعات، وعلى التّعليم العالي والبحث، هي من أشرف الفرص التي يمكن أن تعطى لمواطن في بلده، فإنه ينبغي على من تناط بعنقه هذه المسؤولية أن يكون في مستواها، وأن يجتهد لذلك. فاجتهد، أصلحك الله، أيها الوزير في تعلّم ما لا تعرف، وفي تدارك ما قد يكون فاتك، ولا تطلع علينا بعد اليوم إلا وأنت عارف لما تتحدّث عنه، ولا تطعن التّونسيين في قيمهم التي تتّسع في أحد أركانها وزواياها، لأمثال علي الدوعاجي والطاهر الحداد، ومنور صمادح، ومحمود المسعدي، ... حتى ولو ضقت بهم أنت ذرعا ، مثلما تتسع لابن خلدون وابني عاشور، وترتوليان، وأوغسطينوس، وابن عرفة، وغيرهم. لا بدّ أن تتساءل عن الأمانة ما مضمونها قبل أن يتملّكك اليقين من أنك أدّيتها بمجرد أداء اليمين، أو بمجرد استعراض بعض الفولكلوريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

إن الانطباع الذي خرج به عدد من الجامعيين الذين استمعوا لك بكثير من الانتباه هو أنك لا تمثلهم وأنك قد تكون سلطة على الجامعة لأنك وزير ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الجامعة تتعرف فيك إلى نفسها ولا أنها تتماهى معك في منشودها. هيهات ... هيهات...

في حركة النهضة أيها الوزير رجال ما كانوا ليقولوا ما قلتَ ولا ليستهينوا برموز الشعب وتاريخه : في النّهضة أيها الوزير رجال مثل العجمي الوريمي، ومثل عبد الفتاح مورو، وغيرهما كثير، ممن يحترمون روح الشّعب وعبقريتَه، فلا تظنّن نفسك أولى من كلّ هؤلاء بالمسؤولية على عقل الأمّة أم تراك نسيت أنّ الجامعة هي مستودع عقل الشعب، وأنك مؤتمن على تنميته لأنك جئت باسم الثّورة من أجل ذلك .

محمد أبو هاشم محجوب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح