هل الفن ضرورة ؟ أزمة الفنون التشكيلية في مصر / أمل نصر


فى مصر ، المجلس الأعلى للثقافة 13،14 مارس 2007
.par Amal Nasr, lundi 9 janvier 2012, 04:57.


هل الفن ضرورة ؟ بحث نشر فى مؤتمر مستقبل الفنون التشكيلية فى مصر ، الذى عقد برئاسة الأستاذ الدكتور صبري منصور ، لجنة الفنون التشكيلية ,المجلس الأعلى للثقافة 13،14 مارس 2007

وجدت أنه من المناسب إعادة نشره الأن

أزمة الفنون التشكيلية في مصر

الفنون التشكيلية هي أولى الفنون التي رافقت الإنسان منذ بدء الخليقة ، ومن العجب أن نتسال الأن عن ضرورتها بعد أن خطونا منذ سنوات إلى الألفية الثالثة ، وهذا يدلنا على أن التقدم في الزمن لايعني بالضرورة المزيد من التحضر والرقي . لكن الذي فرض هذا التساؤل اليوم : هل الفن للنخبة أم هو ضرورة اجتماعية ، هو تلك الردة الحضارية التي يعيشها الأن المجتمع المصري والتي بدأتها مرحلة السبعينات من القرن الماضي ، بسقوط المشروع القومى المصري. ولنوضح بإيجاز ملابسات تلك الفجوة .

إن ما يقوله لنا العمل الفني لايمكن اختزاله إلى مجرد قيمة شكلية تخاطب متعتنا الجمالية ، حيث أن كل إبداع فني في أي عصر إنما أبدع ليقول شيئاً ما لإناس يحيون في عالم مشترك ، وإذا تأملنا حركة الفنون التشكيلية في مصر في العصر الحديث نجد أنها بدأت في الأساس معزولة عن المواطن المصري العادي ، فالإنسان المصري طوال تاريخه لم يعتاد لوحة الحامل والتمثال كأشكال فنية منفصلة تعرض في قاعات خاصة ، عليه ارتيادها للمشاهدة والإقتناء بل كانت الفنون بالنسبة له على مدار تاريخه وثيقة الصلة بالحياة اليومية مندمجة في جميع تفاصيلها ، ولم يكن هناك هذا الفصل الجائر بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية أو النفعية . و كان الفن ظاهرة مصاحبة للمعبد و للأعياد و الطقوس الدينية و الإحتفالات الشعبية و شتى أشكال الحياة الإجتماعية المشتركة ،..سواء في إبداعات الحضارة المصرية القديمة ، أو الفن القبطي ، أو الفن الإسلامي ، أو الفنون الشعبية بأنواعها. من هنا فإن انتقال الفن من حالة الخلق الجماعي إلى الحياة الفردية الخاصة يمثل نقلة نوعية في مجال تلقى الفنون عند الإنسان المصري .

ومما زاد في تلك العزلة أن الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة ، قامت كحركة فنية تعنى بتقديم الذوق الأوربي للأجانب المقيمين في مصر ، وللطبقة الحاكمة التي تبنته ووجدته مؤشراً للتقدم والمدنية ، فاستعان حكام مصر بداية من محمد على وأسرته بالمهندسين الأجانب لتشييد قصورهم وبالمصورين والنحاتين الأجانب لتزيينها ، وحتى عندما أقيم عام1891 أول صالون للفن افتتحه الخديوى فى دار الأوبرا كان يقدم حركة فنية أجنبية على أرض مصرية ، وكان هناك اهتماماً باستقطاب الفنانين الاجانب إلى مصر حتى أصبح لهم حياً خاصاً هو حى الخرنفش بالجمالية الذى بدا وكأنه مصغراً لحى "مونبارناس" بباريس. وحتى عندما افتتح الأمير يوسف كمال أول مدرسة للفنون الجميلة فى مصر في 12مايو1908 ، كانت استجابة منه لنصيحة صديقه المثال والمصورالفرنسي "جيوم لابلان" وكان من الطبيعى أن يكون هو ناظرالمدرسة وان يختار رؤساء أقسامها وأساتذتها من الفنانين الأجانب المقيمين فى مصر ، وأن يقيمها على النظام الأكاديمي الأوربي الذي ما زالت تتبعه حتى الأن .

إلا أنه مع بداية الحراك السياسي الوطني بدأت الحركة التشكيلية المصرية ـ بداية من الدفعة الأولى لخريجي مدرسة الفنون الجميلة ـ تنشط وتتسق مع التيار القومى العام الذي كان معنياً بطرح قضية الإستقلال الوطني عن طريق النضال ، حتى أننا نستطيع أن نكتب تاريخ الفن المصري الحديث من خلال الصحوة الوطنية بعد ثورة 1919 وما صاحبها من بعث ثقافي وإبداعي على أيدي جيل الفنانين الرواد ومن تلاهم من أجيال في الاتجاه نفسه، فهذه الثورة الشعبية كانت نتاجاً صحيحاً للوجدان المصري ، بعد فترة من الحشد القومي والوطني . ومن هنا توهج كل أعلام الفكر بثورة 1919 بما فيهم الفنانين التشكيليين ، ومن هذا المنطلق خرج محمود مختار ومحمود سعيد ومحمد ناجي وراغب عياد ويوسف كامل وحبيب جورجي وغيرهم .

واستمرت حركة الفكر الإجتماعي الملتزم بالنموذج الوطني وشهدت فترة الأربعينات ظهور نشط للجماعات الفنية التي حققت تحولاً هاماً في حركة الفنون المصرية . فقد كانت تلك الجماعات متبلورة الأفكار والرؤى والاتجاهات ، ولها توجهات سياسية واجتماعية جادة ، مثل «الفن والحرية» و«الفن المعاصر» و«الفن الحديث» و«نحو المجهول» و«الفن والحياة» .

وبقيام ثورة 1952 شهدت الفنون التشكيلية تحولاً جديداً فقد تألقت تلك الفنون في عهد الثورة بمدها الصاعد الذي دفع معه بحركة الفكر المصري في جميع المجالات ، وتحرر الفنانين التشكيليين من وطأة الأكاديمية الضيقة التى تعطل حالة الإبداع ، فنشأت في كنفها اتجاهات مختلفة وأساليب متنوعة وخطوات واسعة نحو التحرر الفني ، كل حسب تجربته الإبداعية . بل أن الثورة كانت فى جوهرها إرضاءاً لمبادئهم التى كانوا يؤمنون بها من قبل ، كما أنها كانت تمثل نقلة كيفية فى أساليبهم الفنية، بحكم اختلاف نوعية المتلقى الذى أصبحوا يتوجهون إليه عن المتلقى السابق الذي كانت ينتمي للطبقة الحاكمة والأرستقراطية التى أتاحت للفنانين الأجانب مساحة أكبر في الساحة الفنية المصرية وكانت أعمالهم ترضي اهتماماتها ، ونالت تشجيعها واحترامها . وأصبح المتلقى الجديد من الجمهور العادى الذي لا ينتمى ذوقه الفني لذوق هذه الطبقة .

تألق الكثير من الفنانين وتفجرت طاقاتهم مواكبة لهذا الشعور الجارف بعزة الوطن والرغبة في بناء الشخصية الفنية المصرية بدون إفتعال أو توجيه بل كان هناك إحساس رائع بالوطنية غمر الجميع : تحية حليم وحامد عويس وفؤاد كامل وإنجي أفلاطون وحامد ندا وأبو خليل لطفي وحمدى خميس ورشدي اسكندر ومنير كنعان وجمال السجيني ومصطفى الأرناؤطي وراتب صديق وخديجة رياض وغيرهم ، كل هؤلاء كانوا في حوالي الثلاثين عندما أدركتهم الثورة . ولحق بهم جاذبية سري ويوسف سيده وعبد الهادي الجزار وحامد ندا وصلاح عبد الكريم ورمسيس يونان و فاطمة العرارجي وحسن سليمان وموريس فريد ومحمد حسين هجرس والدواخلى وأحمد عبد الوهاب ومحمود موسى وجورج البهجوري ومحمد طه حسين وأدم حنين ومصطفى أحمد ورفعت أحمد ورمزي مصطفى وأبوخليل لطفي ومريم عبد العليم وغيرهم .

والمتأمل لتجربتهم الإبداعية يلمح مدى تنوع الإتجاهات الفنية التى مضى فيها كل منهم . واختلفت منابعهم ؛ بعضهم لجأ إلى القرية المصري وبعضهم اتجه للفن المصري القديم والأخر للفن الإسلامي أو للفن الشعبي ، والبعض اتخذ لغة أقل مباشرة وأقرب إلى لغة الشكل الخالص . إلا أن كل هذه الإتجاهات كانت تلتقي حول القضية التي طرحتها الثورة وهي تدعيم بناء الشخصية الفنية المصرية .

واختلف قطاع المجتمع المصري الذى كان يرعى الفن خلال النصف الأول من القرن العشرين ( الأسرة الحاكمة وطبقة الأغنياء ) التي كانت تشجع الذوق الأوروبي لتصبح الدولة هي الراعية ويصبح الملمح القومي هو الأساسي ، وقد أنشأت الدولة الأجهزة اللازمة لدفع الفنون في جميع المجالات وفي مقدمتها وزارة الثقافة عام 1957 التي مكنت الدولة من رعاية كافة الثقافة غير الأكاديمية ، وقد تألق أداء تلك الوزارة في الفترة التى تولاها المثقف المستنير ثروت عكاشة 1958-1962، الذي سمح بهامش كبير من الحرية للفنانين للتعبير عن أنفسهم دون أي إلزام بالتعبير عن الخط السياسي للنظام ، مما أتاح لكل التيارات أن تزدهر ، وقدمت الدولة منح التفرغ للإبداع وجوائز الدولة للمبدعين وخصصت مراسم للفنانين وميزانية لإقتناء أعمالهم . واستطاعت الثورة أن تطلق العنان للأساليب والحساسيات الجديدة التي واكبت التحول الإجتماعي الجديد . بل لقد افتتح رئيس الجمهورية بنفسه بينالى الإسكندرية في دورته الأولى عام1955 كما افتتح ودعم العديد من الأنشطة الفنية الأخرى .

من هنا كان الفن ضرورة تلقائية أنتجتها حالة المجتمع الذي تحرك بكامل فئاته من أبسط البسطاء إلى أكبر المفكرين والمثقفين في تيار قومي واحد يتجه بقوة إلى هدف قومي جسدته الثورة التي استطاعت أن تفجر القوة الخلاقة في جميع أبناء الشعب حتى يشارك في هذا المد الحضاري الجديد . وتمثلت تلك الضرورة في الفنون التشكيلية في بناء شخصية فنية مصرية قومية الطابع .

ويتضح مدى ضرورة الفن وتلاحمه مع المجتمع في تلك المرحلة ، على سبيل المثال عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، فقد اتجهت الفنون التشكيلية إلى الناس في المقاهي والشوارع وأقيم مهرجان للفنون بإحدى مقاهي حي عابدين ، ووضعت اللوحات والتماثيل داخل المحلات ليشاهدها أفواج الشعب ليلاً ونهاراً ، إلى جانب محاضرات وأحاديث لتنوير زوار المقهى وأبناء الحي . كما أقامت جمعية خريجي الفنون الجميلة معرضاً للكفاح الشعبى في محطة السكة الحديد ببورسعيد لتكون أعماله هي أول ما يراه أهل بورسعيد عند عودتهم إلى مدينتهم بعد جلاء القوات المعتدية . كذلك أقامت جريدة المساء معرض كفاح الشعوب في حديقة الأزبكية وكان يتنقل في مواكب يومية من ميدان إلى أخر من ميادين القاهرة ، فيما عرف بمعارض الشارع ، ولا أعتقد أن هذه الحالة تكررت مرة أخرى في مصر حتى الأن .

ولكن جاء الإنكسار الكبير للروح المصرية بعد نكسة1967 ، وانهزم مشروع النهضة المصرية وانهزمت معه تجارب العديد من الفنانين الذين تألقوا في الستينات ، وانطفأ جيل السبعينات الذي كان في مقتبله عندما حلت الهزيمة ، وانتابت الفنانين حالة من فتور الهمة حتى في تقديم التضحيات والجهد الذي يتطلبه الإبداع واتخذ الكثير منهم موقف اليأس المنعزل .

وعلى الرغم من الرفض الروحي للهزيمة الذي قاده المثقفون وكان السند الأول للرفض العسكرى الذى تمثل فى حرب الاستنزاف وصولا الى انتصار اكتوبر. إلا أن هذا النصر قد ابتلعته معاهدة كامب ديفيد وباغتته سياسة الإنفتاح ، بالإضافة إلى المتغيرات الإجتماعية والإقتصادية التى تابعت تأثيراتها السلبية على الروح المصرية . ومن هنا لم يحقق نصراكتوبر على أهميته تأثيراً واسعاً في مجال الفنون التشكيلية .

وقد تراجعت الثقافة المصرية بدءاً منذ السبعينات ، حيث أغلقت المجلات الادبية والثقافية التى كانت مزدهرة، طوال فترة الستينيات. وتم التخلص من افضل الكفاءات الاعلامية التى كانت موجودة فى الاذاعة والتليفزيون وتشريدهم فى البلاد العربية. بعد أن كانوا واجهة للإعلام المصرى صاحب التأثير الأقوى فى المنطقة العربية بأسرها في ذلك الوقت .. ثم بعد ذلك جاء استعداء السلطة للمثقفين وحملة التشويه التى قامت بها أجهزة الاعلام للنخبة من مثقفى مصر للتضييق عليهم واجبارهم على مغادرة البلاد .

فى هذه الفترة بدا واضحا ان دور مصر الثقافي يتعرض لهزة كبرى . خاصة اذا تذكرنا أن الدولة كانت تدعم هذا الدور منذ ثورة يوليو .حيث أن الدولة في السبعينات لم تستطع ان تحافظ على ماخلفته الثورة من نهضة ثقافية ، وبدلا من رعاية النهضة الجريحة قامت بتغيير مسار الثورة المصرية بشكل حاد ومضاد بإطلاق يدالجماعات الاسلامية المتزمتة التي انطلقت في الشارع والجامعة ومكاتب العمل والنقابات العمالية والمهنية واتحادات الطلاب وادارات تحرير الصحف وراحت - بتشجيع من السلطة الذي توهمت فيها سندا وقوة شعبية تحميها من الناصريين - تستحوذ على مواقع النفوذ في هذه كلها بمزيج من الترغيب والترهيب مستخدمة النداء الديني الذي يصعب على معظم الناس مقاومته ، وهكذا راح المجتمع المصري الذي كان على قدر كبير من التفتح – يتحول تدريجيا الى مجتمع متزمت مغلق..

وانتشرت الكتب الدينية السطحية التي تنشر الخرافة وتتحدث عن تحريم الفن وعن السحر والشعوذة والعفاريت والجن وعذاب القبور واختفت عيون التراث الفكري الاسلامي لمجددين ومفكرين مثل ابن رشد والكواكبي ومحمد عبده وغيرهم، وانتشرت الكاسيتات الدينية وأصبحت توزع في حافلات النقل العام بل وانتشر الواعظون والواعظات في هذه الحافلات ليصبوا على الراكبين المتعبين المساكين التهديد والوعيد بالجحيم وعذاب القبور لمن لايتبع طرقهم ويستسلم لاساليبهم.. واستطاع هذا التيار منع دراسة النموذج العاري من كليات الفنون الجميلة الذي كانت أهميته تماثل أهمية دراسة علم التشريح في كليات الطب .

وإن كان هذا التيار قد حاول أن يغير مجرى الأمور في أوائل الستينات في مواجهة الإجراءات الإشتراكية خاصة : الميثاق , رافضاً للكثير من مبادئه التي رأوا أنها تعاون مع الصليبية الجديدة ، وأرخوا لإنهيار مصر بانهيار الدولة العثمانية . لكن هذه المنابر الرجعية لم تنجح في تحقيق أي تأييد حقيقى لها بسبب قوة المد الثوري وقناعة الشعب المصري بأهمية التحويل ، ولأن الشعب المصري بفطرته وتكوينه النفسي يميل إلى الإعتدال ، واجتاز طريقه عبر التاريخ مبتعداًعن التعصب والتطرف .

إلا أن هذا التيار اكتسب قوة أكبر منذ السبعينات ، ليس فقط لتشجيع السلطة ولكن أيضاً ً لظهور ما أسماه الدكتور فؤاد زكريا "إسلام النفط " الذي ابتعد عن روح الإسلام الحقيقية وأسقط مصالحه على الشريعة وقدم خطاباً أيدلوجيا يتبنى الحفاظ على علاقات الملكية المرتبطة بالثورة البترولية ، ويحيل أداء الشعائر إلى غاية شكلية فارغة من مضمونها الأخلاقى الأول ، ويتبنى مبادئ النقل التي قدمها المذهب الوهابي , ويربط بين إعمال العقل وبين البدعة ، وتأثرت مصر بهذا التوجه الذي اعتنقه الكثير من ابنائها العاملين بدول النفط خاصة وقدعانت مصر من نتائج تفاقم هذا الإتجاه , وسيتضح دوره المتطرف في ظهور موجة الإرهاب في مصر ووصولها لأوجها في التسعينات وإطلاقها مرة أخرى لأحكام تحريم الفن والفتاوي في كل الإتجاهات .

ويضاف إلى ذلك أن النكسة ومانتج عنها من انكسار للمشروعات الفكرية الكبرى ، وتفجر الثروة النفطية وهجرة مثقفي مصر وسوريا والعراق ، قد ترك المجال خالياً أمام إسلام النفط لينتقل من دورالدفاع عن أوضاع خاصة بدول الخليج في مواجهة خطاب التحديث إلى محاولة فرض مشروعه البديل أو ما أسماه " الحل الإسلامي " . وفرض القيم المصاحبة لثراء النفط وأفكاره الإستهلاكية ، و رحل الكثير من الفنانين المتميزين لتلك الدول ، أسسوا فيها قاعات للعرض ، وأقاموا الأنشطة الثقافية ، وطوعوا إمكانياتهم في سياق هذا النمط ، وحولوا في مسار تجربتهم الإبداعية بما يناسب المجال الذي تواجدوا فيه فاختفى من أعمال بعضهم الكائن الحي واتجهوا للتجريد .

كذلك سافر العديد من الفنانين الأكاديميين فى إعارات للدول العربية بحثاً عن حياة أكثر يسراً ، وأسسوا هناك أقساماً التربية الفنية والفنون في جامعات ومعاهد تلك الدول وتركوا الساحة الفنية المصرية في تلك الفترة " عبد الرحمن النشار ، فاروق وهبه ، عادل المصري ، مصطفى عبد الوهاب وغيرهم " ، وبعضهم أيضاً استقر هناك ولم يعد " أحمد عزمي ويحيى سويلم وغيرهم " وبعضهم هجر ممارسة الفن نهائياً " أحمد كمال حجاب " .

كذلك أحدثت سياسة الإنفتاح الإقتصادي تحولاً اقتصادياً– اجتماعياً كبيراً خلخل المجتمع وأنهكه ؛ نظراً لعشوائية ذلك التحول وتوقيته الذي لم يكن مناسباً ؛ فلم تكن المشكلة في الاتجاه نحو اليمين, أو في التحول مما يشبه اشتراكية إلى ما يشبه رأسمالية. كانت المشكلة في عشوائية هذا التحول الذي أثمر رأسمالية أغنياء طامعين فى أرباح فاحشة لا رأسماليين روادا طامحين إلى إيجاد سوق حرة حقيقية.... فالتحول الاقتصادي الاجتماعي الكبير, أيا يكن اتجاهه, يهز المجتمع في أعماقه ويعيد صياغة قيمه أو يبدلها . ولذلك يحتاج المجتمع إلى عدة عقود لكي يستوعب الآثارالاجتماعية لهذا التحول ويستعيد توازنه .

من هنا نجد أن جيل شباب السبعينات قد أدرك مرحلة الهزيمة وهو في بداياته ولم تكن المرحلة العمرية لذلك الجيل تسمح بتجاوز الأزمة ؛ إذ وجد نفسه أيضاًً يلقى بقوة في تغير جديد قبل أن يسترد وعيه فإذا بسياسة الإنفتاح تقلب الموازين وتغلب الطابع التجارى على مظاهر الحياة لتحل قيم الفهلوة والشطارة محل قيم العلم والعمل .

هذه هي الحالة العامة التي طرحتها فترة السبعينات ، وقد أدى الفساد السياسي الى تراجع المناخ الثقافي فقد شهدت تلك الفترة تراجع لكل مظاهر النهضة الثقافية الفكرية الاجتماعية الانسانية الفنية الابداعية ، فهذه الأجواء المحبطة للإبداع أدت إلى تراجع قيمة الفن وضرورته ، بل والكثير من القيم والأخلاقيات أمام المد الإقتصادي الجديد . وتمثلت بعض تبعاتها في مجال الفنون التشكيلية في إنسياق عدد من الفنانين الشباب لأعمال السوق مثل الديكورات والتصوير على ورق البردي وتقديم الأعمال التى تصلح للبيع وتناسب طبقة الأغنياء الجدد ، وقد أدت التغيرات التي طرأت على المجتمع إلى خلق طبقة تقتنى أعمال الفنانين للإستمتاع بها في بيوتهم ، والأغلب تستثمر مدخراتها في الأعمال الفنية التي يتضاعف ثمنها بمعدل يزيد عن أي استثمار أخر ، كما افتتحت بعض قاعات العرض الخاصة التي كانت تشجع نوع خاص من الفن التجاري أوالسياحي.

وشهدت السبعينات أيضاً إغلاق بعض قاعات العرض الرسمية واستغلال أماكنها لأغراض أخرى مثل قاعة المعارض الكبرى بمبنى اللجنة المركزية للإتحاد الإشتراكي العربي التي تحولت إلى مقر لبنك فيصل الإسلامي ، وقاعة باب اللوق التي تحولت إلى مقر لبنك التنمية الوطنية .

كما أن ذلك المناخ قد أدى إلى هجرة عدد من الفنانين الهامين مثل جورج البهجورى وأدم حنين وأحمد مرسي وأحمد مصطفى ومحمود عبد الرشيد وغيرهم . ورافق ذلك أن عدد كبير من أصحاب التجارب الفنية الجادة في الستينات كانوا في ذلك الوقت في بعثات خارج الوطن ، بعد فترة الستينات التي توقفت فيها البعثات وتوجهت ميزانية الدولة للمشاريع القومية الكبيرة . وبالطبع كانت بالنسبة لهم فترة انفتاح على تجربة الأخر وتعارف على ما قدمه الفن الغربي في تلك الفترة ، مما جعل عودتهم تمثل نقلة جديدة في مجال الفن التشكيلي في الثمانينات فيما بعد مثل : مصطفى الرزاز وصبري منصور وأحمد نوار ومصطفى عبد المعطي وطارق زبادي وعبد السلام عيد ومحمود عبد الله وفاروق شحاته وفرغلى عبد الحفيظ ومجدي قناوى وصبري حجازي وغيرهم .

وهكذا تحول الفن في السبعينات من ضرورة تمثل جزءاً حيوياً في نسيج المجتمع تنمو وتحيا معه إلى حلية خارجية لمجتمع تفككت أوصاله بسبب :الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الإنفتاح وصعود التيار الديني المتطرف .

وبالانتقال لفترة الثمانينات نجد أنها شهدت تحولاً جديداً في مجال الفنون التشكيلية إذ أنشئ المجلس الأعلى للثقافة عام 1980 وذلك ليقوم المثقفون أنفسهم بالتخطـيط للسياسة العامة للثفافة والتنسيق بين الأجهزة الثقافية في أوجه نشـاطها المختلفة تحقـيقا لشعار " الثقافة للمثقفين " الذي انتشر في تلك الأونة ، وانتدب الدكتور مصطفى عبد المعطي الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالأسكندرية " فى الفترة من 1980:1988" لمنصب المشرف العام على المركزالقومي للفنون التشكيلية، وذلك في إطار الهيكل التنظيمى للمجلس الأعلى للثقافة ، وبدأ المركز القومى بقيادته في إقامة البنية التحتية للحياة التشكيلية في مصر ، فقد أنشأ قاعة النيل ، أكبرقاعة لعرض الفنون في مصر وقدم فيها سلسلة من المعارض النوعية ، وأنشأ متحف الفن الحديث ومجمع متاحف محمود سعيد بالإسكندرية ، وأضاف ثلاث قاعات لمجمع الفنون بالقاهرة وجهز حديقته لعرض النحت والخزف في الهواء الطلق ، وقام بتجهيز قاعة السلام بمتحف محمد محمود خليل ، وتجهيز دارالنسجيات بحلوان ، وأنشأ بينالي القاهرة .

وأكمل الأستاذ الدكتور أحمد نوار هذه المسيرة حيث تولى رئاسة المركز القومي للفنون التشكيلية الذى أصبح إسمه قطاع الفنون التشكيلية في الفترة من " 1988: 2006" فأنشأ مجموعة من المتاحف وأقام قاعات العرض الهامة والمجهزة التي ضمت الكثير من المعارض الدولية والمعارض الكبرى لفناني مصر مثل : قاعة أفق واحد للعروض المتحفية المتغيرة و قصر الفنون ومركز الجزيرة للفنون . بالإضافة إلى تأسيس بينالى القاهرة الدولى للخزف و ترينالى مصر الدولى لفن الجرافيك . و سمبوزيوم النحت الدولى بأسوان ، كذلك أقام صالون الشباب1989 الذي دفع بالحركة الفنية المصرية لنطاق جديد من خلال دعمه للشباب وإتاحة الفرصة كاملة لهم لتقديم تجاربهم .كذلك شهدت الثمانينات تولى الفنان التشكيلي فاروق حسني منصب وزارة الثقافة ، فحظيت الفنون بإهتمام رسمي خاص ومحاولات جديدة لدعمها ودفعها لأفاق جديدة ومغايرة .

إلا أن النصف الثانى من الثمانينيات شهد أيضاً إنطلاق ثورة المعلومات و موجة العولمة التي اشتد ساعدها بداية من التسعينات وكان التغير فى الثقافة هو ما يراهن عليه النظام العالمى الجديد (العولمة) الذى أعلنه الرئيس الأمريكى بوش الأب أثناء حرب الخليج الثانية 1991 وأداته الرئيسية منظمة التجارة العالمية التى أنشئت فى يناير 1995 ولا تقتصر مهمتها على مبدأ حرية التجارة كما كانت مهمة إتفاقية الجات من قبل وإنما أضيف لبرنامجها مبدأ الحرية الثقافية أى حرية الإنسان فى أى مكان فى تعاطى ما يريد من ألوان الثقافة دون حظر رقابى من حكومته، والهدف تحويل العالم كله إلى النموذج الأمريكى . فالحكومة الأمريكية وجدت أن هذا هو الطريق الأمثل لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية .

ومن هنا إتجهت السياسة الأمريكية إلى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وعلوم وكل ما يتعلق بالكلمة المقروئة والمسموعة و المرئية ـ وبالطبع ساعدها تفوقها التكنولوجى وإمتلاكها لوسائل الإتصال الحديثة فيما بعد فى تحقيق هذا الدورـ فى محاولة متواصلة لتغيير أذهان الشعوب وتشجيعها على كراهية النموذج الشيوعى بتقديم النموذج الرأسمالى الأمريكى ثقافياً، والعمل على إستزراعه فى مختلف البيئات . لذلك عندما سقط حكم الشيوعية فى الإتحاد السوفيتى لم يجد هذا السقوط مقاومة من الجماهير التى كانت تتشرب على مدى أكثر من أربعين عاماً وبالتدريج الثقافة الأمريكية ، وبالتالى إستطاعت أمريكا من خلال تغيير نمط السلوك والفكر أن تهيىء الجميع لقيادتها للعالم.

ومن أمريكا إنطلقت معظم الإتجاهات الفنية المؤثرة فى الفن المعاصر وبالطبع صفق فنانونا الشبان لتلك الإتجاهات وسارعو بتبنيها ، رغم أن تلك الاتجاهات التي أفرزها الفكر الغربي تعكس وعيه الذاتي ومشكلاته التي ليس بالضرورة أن تتطابق مع وعينا نحن أو مع ردود فعلنا واستجابتنا نحو المتغيرات الجديدة .

وفي مجال الفنون التشكيلية رسخت العولمة لفكرة التجوال واللامكانية ، أى التخلى عن الجذور ونزع السياق والتاريخ الأصلى للعمل الفنى ، وتجاهلت فكرة أن العمل الفنى يحتفظ بهالته وسحره فى الموقع الجغرافى والتاريخى الذى يتواجد فيه ، وهو فى إطاره البيئى والمكانى الخاص ، يرتبط بعالم كامل من المدلولات الثقافية ، وبشبكة من المعطيات الحضارية التى لاتنتقل بإنتقال الأثر ، ولاترحل معه من مكان إلى أخر ... ولربما يتفق أحياناً أنه لايصبح قابلاً للفهم ولايروق للإحساس الجمالى فى بلد أخر إعتماداً على أن هناك فوارق بين الثقافات وبالتالى فوارق بين الإحتياجات الجمالية لكل منها . فالعولمة أطاحت بكل تلك المفاهيم ،، وسعت لربط جميع الأمم ببعض المسلمات الفكرية ، مما يمهد لسيطرة فنية شاملة وذوبان لكل الثقافات فى النموذج الذى تقدمه ، بل أن معظم فنون ما بعد الحداثة التى تواكب فكر العولمة قد سعت إلى الخروج بالفن عن نطاقه الجمالى وبالتالى عدم الإلتفات للخصوصية الجمالية لكل ثقافة .

من هنا أصبح الإنسان المصري العادي لايشعر أن هذه الفنون تنبع منه وتعبر عنه وتنتمي لحياته التي ازدادت بؤساً ؛ بل هي فنون تصلح لأى إنسان في أي مكان في العالم ، فنون تصلح للجميع كما أكدت ذلك مبادئ العولمة ، وإذا كانت الخصوصية الثقافية قد فقدت وأصبح الفن لاينتمي لمجتمع معين ولايخرج منه فلماذا لاينتمي الإنسان المصري للفن الأمريكي أو الأوربى . إنه بلا شك سيكون أكثر إبهاراً لتمكنه أكثر من وسائل التكنولوجيا التي تتحرك عليها العديد من أنواع الفنون اليوم . وللأسف لم ينظر الكثير من الفنانين للفنون المعاصرة على أنها قدمت وسائط حديثة يمكن الإفادة منها كفروض جديدة في التشكيل نخرج منها بنتائجنا الخاصة ، لأن طبيعة مجتمعنا تغير من شكل استقبالنا للمعطيات الجديدة للعصر .

والغريب أنه أيضاً مع بداية التسعينات تفشت ظاهرة العنف من جانب الجماعات الدينية ، وأصبح الإرهاب ظاهرة تهدد المجتمع المصري ، وأدخل منظرو هذه الجماعات ورجال الدين المتعاطفين معهم الفنون جميعها في دائرة التحريم ، وما زالنا حتى الأن نعيش تداعيات فتوى مفتى الديارالمصرية بتحريم التماثيل منذ فترة وجيزة ، وقد تم تبرير موقفه بأن " المفتي يحافظ في جميع ما يصدره من فتاوي علي اتفاق الفتوي مع الفكر السائد في المجتمع. وقد راعي أن التيار الفكري السائد في المجتمع الآن هو التيار السلفي وكان ـ من وجهة نظره ـ يسعي الي الحفاظ علي وحدة الصف . أما فتوى الشيخ محمد عبده فقد جاءت في عصر كان يتسم بالتنوير فأتت منتمية لمناخ هذا العصر" ، وكانت تلك التبريرات بلا شك عودة أخرى إلى الوراء .

وأضاف أحد المدافعين من أساتذة الشريعة قائلاً : «إذا كان مفتي الديار قد أصدر فتواه بخصوص التماثيل فينبغي أن ندرك أن هذه مسألة عولجت قديماً والمفتي ليس مبدعاً فيها وإنما هو ناقل سواء ناقل للنصوص أو ناقل لفتاوى سابقة " وللأسف هذه هي المشكلة فالوقت الحالي يحتاج إلى العقل والإجتهاد وليس إلى النقل ، خاصة أن هذه الأمور تسبب خلطاً عند المواطن العادي بسبب شيوع الأمية التعليمية والدينية ، وتسبب تصاعد التعصب حتى تصل به لمرحلة الإرهاب . فالشعب الذي كان يحلم بإقامة تماثيل على الترعة أصبح بعد أكثر من نصف قرن يحرمها ويتهم أصحابها بالكفر في ردة حضارية غير مسبوقة ، والفنانون مازالوا يستغيثون بفتوى الإمام محمد عبده في التصوير والنحت ، التى أعلنها قبل أكثر من مائة عام ؛ لأن كل تلك الفترة لم تشهد اجتهاداً بفتوى أخرى مستنيرة في هذا المجال . وانتهت عقود اعتقال المثقفين ليبدأ عهد تكفير المثقفين .

من هنا أصبح الإنسان المصري يعيش بين طرفين نقيضين الإنفتاح المذهل الذي أتاحته الوسائط المعلوماتية الجديدة ، والإنغلاق الواضح للتيار الديني المتطرف ، وخيمت علي المصريين حالة من التشتت وغياب الوعي .

وترتب على ذلك للأسف أنه بعد صياغة تلك المنظومة للنهوض بالحركة التشكيلية المصرية خاصة فى الثمانينات والتسعينات ، نجد أن المعارض يقدمها الفنانون لبعضهم البعض ، وتعاني قاعات المعارض بعد يوم الإفتتاح وانفضاض الزملاء والطلاب من فراغ موحش وتبحث الندوات الفنية عن جمهور بلاطائل ويعاني منظموها من الحرج الشديد خاصة إذا كانت ندوات دولية وتضم ضيوف من الخارج وسبقها شهور من الإعداد والمخاطبات ، وجهد من المتحدثين في إعداد البحوث وأوراق العمل . أعمال لاتجد من يتلقاها حتى طلاب كليات الفنون ، ورغم تضاعف عدد الطلاب في هذه الكليات مئات المرات عن الماضي لم تقدم النسبة المتوقعة من الفنانين المبدعين نظراً لإختلاف نوعية الطالب ونظام التعليم الذي زج به في غير مكانه ليحصل على أي شهادة جامعية . طلاب معظمهم لامبالي ينفق مصروفه على مقاهي "النت" والهواتف الجوالة ، بعد أن كان فيما مضى يدخر قروشه القليلة لشراء خامات الفن و الكتب .

انصرف الشباب ـ حلم المستقبل القادم ـ إلى أجهزة الكمبيوتر يحققون أمجاد وهمية في ألعاب الكترونية ويقيمون صداقات عبرالنت . لقد أصبحنا في عصر الحياة الإفتراضية: الإنتصارالإفتراضى ، والعلاقات الإنسانية الإفتراضية ، وحتى المعارض والمتاحف الإفتراضية . كل شئ عبر"النت" أخذين من التكنولوجيا مظهرها السطحي دون أي تواصل حقيقى مع أي معنى أو أي هدف وأصبحت الحياة مقفرة ، وللأسف أضطر أن أعود مرة أخرى إلى مصطلح العولمة حيث أن هذه أحد نتائج إغراقنا بما لم نستعد له ، ليس بتحول داخلى هذه المرة ولكن بتحول عالمي كوني .

فلا عجب إذن لو انسحب رجل الشارع العادى من المعارض التشكيلية حتى معارض القلة الذين احتفظوا بالذائقة المصرية في أعمالهم ، فالإنسان المصري أصبح منهك ومشغول بأعبائه الحياتية بعد التفاوت الطبقي الحاد الذي حدث في المرحلة السابقة ، وفقد حالة الوعى والصحوة التي شملت جميع فئات المجتمع في الستينات ، وإلا كان دخل في معترك حوار ونقد ومحاولة للفهم أو حتى للرفض مع القائمين بالعمل في مجال الفنون . وعاد الجمهور العادي إلى الإنعزال عن حركة الفنون التشكيلية الحديثة ، وعاد إلى نقطة البدء عندما كانت تلك الفنون تخص شريحة مجتمعية واحدة .

وفي النهاية كانت هذه محاولة لفهم بعض الجوانب التي شكلت أزمة الفنون النشكيلية في مصر. تلك الأزمة التي وضعتنا أمام هذا التساؤل اليوم : هل الفن للنخبة أم هو ضرورة اجتماعية ؟ فأصبح علينا لزاماً أن نناقش إحدى المسلمات وهذا من ألزم الواجبات وأصعبها معاً . وما المفر وقد أتي على مصر زمن تناقش فيه مدى ضروررة الفن ، وما هو مستقبل الفنون التشكيلية ، تلك الفنون التي مثلت أحد إبداعات الحضارة المصرية من أقدم العصور . ولعل الفهم يكون هو اول خطوة في حل تلك الأزمة .

إن مستقبل الفنون التشكيلية في مصر يرتبط بمستقبل الوعى العام ، ولكي نسترد هذا الوعي يجب أن نمضي في اتجاهين متوازيين الأول : دراسة تاريخنا ، والتواصل مع فنوننا المصرية في جميع مراحلها ، فهذه الفنون الأصيلة تتمتع بحضور دائم ناتج عن قدرتها التعبيرية التي لا يمكن حصرها في حدود أفقها التاريخي الأصلي ، فهي تحمل قيمة حاضرة تجعلها تحتفظ بقدرتها الدائمة على التواصل معنا و الإضافة لقيمنا الجمالية المعاصرة . فالتراث هو أحد المصادر الهامة للإبداع ، والفنان عندما يتناول تراثه محاولاً تفسيره و إعادة فهمه و تقييمه ، فإن هذه المحاولات تكسب عمله الفني أبعاداً جديدة .وتجعله يحتفظ بهويته ولكن بعيداً عن الجمود والتقليد .


الأمر الثاني هو توجيه جانب كبير من طاقاتنا وإمكاناتنا لدراسة العلوم ، فاللأسف أننا منذ هزيمة يونيو انتابنا الإحساس بتخلفنا التقنى الذى ما لبث أن شجع النزعة إلى عبادة التقنية ، و قد أدى هذا لإحساسنا بالدونية إزاء الغرب المتقدم تقنياً . كما أن تنامى النزعة التقنية على الصعيد العالمى وغزو الفضاء وتلويث الكرة الأرضية وسيطرة الكمبيوتر. أدى إلى شعور العالم الثالث بمحدوديته وبتفوق الغرب الأوروبى والأمريكى عليه مما أوصلنا الأن إلى أن تركنا أمريكا تدبر شئوننا وتحاكم رؤسائنا وتتدخل بجيوشها لتعيد تنظيم الحياة السياسية العربية كما يتراءى لها . ربما لو استعدنا قوتنا العلمية استعدنا معها كرامتنا ، وقناعتنا بتجربتنا الخاصة في جميع المجالات بما فيها الفنون .

علماً بأن الفن اليوم يجب ان يكون ضرورة أكثر من أي وقت مضى فهو السلاح الوحيد والأخير للمحافظة على وجودنا وسط هذا الذوبان الذي يتلاشى فيه كل شئ أمام الحصار الأمريكي . ولاشك أن حل هذه الأزمة العامة في كل مناحى حياتنا لن يتاتى بحلول فردية بل يحتاج لتوجه جماعي ووعي عام ومراجعات جدية لكل المجالات و ذلك من أجل إيجاد رؤية جديدة للخروج من تلك الأزمة وهو أمر ليس هيناً ولا قريباً ... لكنها ليست الأزمة الأولى في تاريخ مصر .

أمل نصر

مراجع البحث

1ـ لويس عوض : الإبداع والثورة ، الكتاب الذهبي ، مؤسسة روز اليوسف يوليو 1971
2ـ جابر عصفور : هوامش على دفتر التنوير ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 2000
3ـ مصطفى سويف : الإبداع ضرورة , مجلة إبداع الهيئة المصرية العامة للكتاب مارس 1992
4ـ سحر مشهور . العملية الإبداعية من منظور تأويلى . فصول المجلد العاشر . الهيئة المصرية العامة للكتاب . أغسطس 1991
5ـ نبيل على . الثقافة العربية وعصر المعلومات . عالم المعرفة العدد 276 . المجلس الوطنى للثقافة والفنون والأداب . الكويت . ديسمبر . 2001
6ـ فرانسيس ستون سوندرز . الحرب الباردة الثقافية . المجلس الأعلى للثقافة . القاهرة . 2002
7ـ رشدي إسكندر ، كمال الملاخ ، صبحي الشاروني : 80 سنة من الفن (1908- 1988) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب1991
8ـ هانز جيورج جادامر : تجلى الجميل . ترجمة ودراسة وشرح/د.سعيد توفيق . المجلس الأعلى للثقافة . 1997
9ـ هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان . فخ العولمة . ترجمة د/عدنان عباس على عالم المعرفة العدد 238 . المجلس الوطنى للثقافة والفنون والأداب . الكويت 0 1998
10ـ شتيفان فايدنر : " لماذا الدوكومنتا ؟ الفن في عصر العولمة "، ترجمة أحمد فاروق ، فكر وفن ، العدد 76، 2002
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

11ـ أحمد أبو مطر : انتبهوا وصلت طالبان إلى القاهرة ، 30ابريل 2006
http://albawabaforums.com/
12ـ أحمد وائل : مفتي مصر يعيد المجتمع إلي العصر الجاهلي ، 14يوليو 2006
http://albawabaforums.com/
13ـ فرانسوا باسيلي : إغتيال النهضة الأخيرة
http://www.metransparent.com
14ـ جمال الغيطاني : دور مصر السياسى انتهى برحيل جمال عبدالناصر حوار مع سلمان الحكيم : جريدة العربي , 8 يناير 2006
15ـ عز الدين نجيب : غطاء الذهب لحركة الفن المصرى المعاصر الفنانون التشكيليون وثورة 1952.. بين الإجبار والاختيار
www.smartwebonline.com/NewCulturet

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح