البطل أ م الشخصية ! لماذا تخلت الرواية عن البطل لصالح الشخصية؟ الجزء الأول / حبيب مونسي


البطل أ م الشخصية ! لماذا تخلت الرواية عن البطل لصالح الشخصية؟ الجزء الأول
بقلم : حبيب مونسي


مراجعات..
قد يعجب الواحد منا حينما يجلس لنفسه ساعة من الزمان يقلب بين يديه بعضامن المفاهيم والحقائق والمصطلحات التي كان يظن أنه خبر فحواها وعلم منها مرادها في النقد والإجراء.. غير أنه حينما يراجعها على ضوء الفكر الهادئ متجاوزا بهرجهاوما يراد لها من دلالة يعتريه ما يشبه الفزع من خلفياتها المعرفية وأهدافها الوظيفية..لمثل هذا السبب عقدت مجموعة من المراجعات تتناول ما يعتقد كثير منا أنه يعلمه ويفهمه غير أن الحقيقة أخرى غير الذي أعتقد وأن الهدف المبيت آخر غير الذي كان يظن.. ووقفتنا الساعة مع مصطلحي البطل والشخصية في السرد القصصي..

قد لا يلتفت كثير من الدارسين إلى طبيعة المصطلح الذي يتعاملون معه حين المعالجة النظرية أو التطبيقية للأدب تحليلا وتفسيرا وتأويلا.. وكأنهم ألفوا المصطلحات التي يستعملونها وخبروا دلالتها ، وعلموا أنهم يريدون منها ما تحمله أصالة في كلماتها، سواء عدنا بها إلى المعجم تأثيلا، أو بحثنا في أمرها استعملا واصطلاحا. غير أن المطب الأكبر في مثل هذه الاستنامة لما نألفه من معان درجت بيننا وكأنها تامة الدلالة بيِّنة الحد، واضحة المقاصد. ومن ثم يغدو استعمالها مثار التوجس والتخوف وعدم الفهم والخلط. بل إن كثير منها حين يُقلب في وجوه استعماله يكشف عن حقائق خطيرة يجب التنبيه عليها، لكونها تتصل بمستقبل هذا الفن أو ذاك، أو هي ترسم في تلونها جملة التحولات التي اعتورته في تاريخه الخاص والعام.
إننا حين نراجع مصطلحي: "البطل" و"الشخصية" في الرواية والقصة والمسرحية والسينما، تنتابنا الدهشة حيال الاستعمال أولا، وحيال المعاني التي يراد تمريرها من خلال كل مصطلح على حدة. والناظر اليوم إلى كافة الدراسات النقدية يجد هذين المصطلحين يتبادلان المواقع من غير تحقيق ولا تدقيق. وكأن الشخصية هي البطل، وأن البطل هو الشخصية في الوقت ذاته. صحيح أن البطل شخصية من شخصيات القصة والرواية والفيلم والمسرحية.. بل قد تتسع الشخصية لتشمل الحيوان والجماد في بعض الأعمال، ولكن "البطل" "مهمة" وليس "دورا" لذلك يصح لنا الآن أن نعتبر الشخصية مصطلح يغطي "الأدوار" التي تكون في القصة والفيلم والمسرحية. سواء اتجه الدور اتجاها إيجابيا فوافق الأعراف والقيم، أو سلبيا فخالفها وانتهك حرمتها. وليس للبطل في الدور إلا أن يتجه الوجهة التي ترتضيها القيم ويحتفل بها العرف وتزكيها الأخلاق.
إنه الأمر الذي يحدد للبطولة وظيفتها ومهمتها. وكل من حمل هذا النعت إنما يحمله من أجل أداء دور يتجه صوب الحق والفضيلة والخير. لأن البطولة في مفهومها العام لا تتجسد من خلال أفعال القوة والبطش، وإنما تتجسد من خلال الخير والعدل، ودفع الشر والظلم.
وقد نشتطُّ بعيدا في البحث عن دلالاتها في بطون المعاجم، ولن نعود منها إلا بمعان لا تستقيم والصورة التي نحملها في أنفسنا لمفهوم "البطل"، لأنها كلها تتجه صوب الفساد، والترك، والعطالة، وهي معان أخذت من أن البطل لا يطالب بدم أو ثأر، وأن حظوظ الآخرين تبطل بين يديه. أو كما قال "ابن منظور"في اللسان:« رجل بَطَل بَيِّن البَطالة والبُطولة شُجَاع تَبْطُل جِرَاحته فلا يكتَرِثُ لها، ولا تَبْطُل نَجَادته. وقيل إِنما سُمّي بَطَلاً لأَنه يُبْطِل العظائم بسَيْفه فيُبَهْرجُها، وقيل سمي بَطَلاً لأَن الأَشدّاءِ يَبْطُلُون عنده. وقيل هو الذي تبطل عنده دماء الأَقران فلا يُدْرَك عنده ثَأْر من قوم أَبْطال». ( ) وهي صورة تنتهي عند حدود الصحراء في العصر الجاهلي ولا تتعداها، لأنها تستجيب لأعراف الذات العربية ومقاييسها.ولن نجد أوسع تمثيل لها إلا في قول ابن الوردي:
ليس من يـقطع طرقا بطلا. . . إنما من يتقي الله البطل.
على أن لا نجعل اللغة تقف عند الدلالة الساذجة الكامنة مباشرة وراء الكلمات. فالقطع ليس اعتراضا للمسافر الآمن في الطرقات، وليست هي الصورة التي يريدها الشاعر أصالة، وإنما القطع هو الاعتراض المطلق على كل سير في الطريق.. في المنهج .. في الرؤية.. لكل سالك آمن في مسلكه. إنه فعل الاعتراض على الحق والخير والعدل لمجرد الاعتراض الأرعن الفاسد. ومن ثم كان رأي الشاعر أن يحدد البطولة بالتقوى.. والتقوى من معانيها الدقيقة هي الاحتراز من اعتراض الله  في مراده من خلقه. فالذي يحترز أن يعطل، أو يبطل مراد الله في خلقه هو البطل الفعلي الذي يجسد حقيقة البطولة في أفعاله ظاهرا وباطنا.
إننا حينما نسم "فعلا" بالبطولة إنما نفعل ذلك لأننا ندرك البعد الحضاري لهذا الفعل حين يتجاوز المطلب الذاتي إلى مطالب تتسامى عن الرغبات الآنية إلى ما يحقق مراد الكل تحقيقا في انتصار الخير والعدل. ومن ثم يغدو البطل هو ذاك الشخص الذي يرتفع في فعله وقوله إلى مصاف يتيح لغالبية الناس سلامة الحركة والإبداع، تأمينا لهم من خوف، وتمكينا لهم من طريق.
لقد حاولت الأعمال الأدبية والفنية القديمة رفع شعار البطولة في آحاد من الناس، فكان لهؤلاء أبطالهم من الآلة، وكان لآخرين أبطالهم من أنصاف الآلهة، ورآها بعضهم في التفاني في خدمة الآخرين، كما فعل "الفرسان" في القرون الوسطى، اعتقادا منهم أنهم جند المسيح  وأن عليهم مهمة الحفاظ على الضعفاء ونصرة المحرومين. وحفلت قصصهم بالمرويات التي تبجِّل أفعالهم في البوادي والحواضر، ونشأت عنها أشعار وأغان ترنَّم بها المحرومون والمنبوذون، وحلُم بتحقيقها كل شاب طموح رأي في نفسه القدرة على أن يلبس لبوس البطولة، وأن ينذر نفسه خادما للخير.. ربما كانت "البطولة" بهذه الصورة ساذجة هي الأخرى، لأنها حصرت حدها في السيف والانتقام، ولم تنشر معناها إلى "التقوى" التي لا تعترض على مخلوق في الحياة.. أيا كان ذلك المخلوق، وأيا كان جنسه. كتلك النملة التي ابتسم لها "سليمان"  أو الكلب الذي سقته غانية بني إسرائيل، أو الليِّنة التي نهى الخليفة "عمر بن الخطاب" جيشَه عن قطعها.
وقد نجد معنى جديدا للبطولة ينفتح أمام كل واحد منا، حين تغدو البطولة مكابدة للنفس في ارتقائها نحو الاكتمال، يدفع بها صاحبها في دروب الصبر الاحتمال وصولا إلى الحمد،في قول شوقي رحمه الله:
وَما البُطولَةُ إِلّا النَفسُ تَدفَعُها.... فيما يُبَلِغُها حَمداً فَتَندَفِعُ
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا.... طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا.
وكأني بالشاعر لا يجد للبطولة من معادل موضوعي سوى صورة السير الحثيث إلى غاية نبيلة، تقوم العثرات في طريقها سدا بعد سد،وهوة بعد هوة. لأن الوصل إلى الغاية سينسي صاحبه الآلام التي كابدها والمشقات التي عاناها.
إنها صورة "التطور" التي كانت الرواية القديمة تريدها لشخصياتها،فتجعلها في سيرها تتبدل من حال إلى حال مستفيدة من تجاربها وسقطاتها ونكساتها، وهي تتطلع إلى الأسمى والأفضل، فتجعل من سيرتها ميدانا فسيحا للتجارب المثمرة التي يحدوها عامل الخير والعدل، وهي تتجاوز مكامن الشر والظلم. لذلك تحدث النقاد كثيرا عن الشخصيات "النامية". وفي استعمالهم لهذا المصطلح حقيقة النمو نحو الإثمار. فإذا كان "التطور" اصطلاحا يحتمل الاتجاه صوب الإيجاب وصوب السلب بنفس الدرجة والقوة، فإن "النمو" و"النماء" لا ينبغي له إلا أن يكون صوب الإيجاب أبدا. ومنه تكون الشخصية التي يصاحبها القص من خطواتها الأولى في شأن مستمر نحو الأحسن، وإن رافقتها الإخفاقات في رحلتها، أو اعتراها الشر والظلم، أو صدر منها في أحايين خاصة. ذلك هو قول "شوقي" في بيته الثاني:
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا... طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا.
قد يعترض كثير من الدارسين على هذا الضرب من الفهم، ويجدون في الرواية التي تتحدث عن السقوط نحو مهاوي الحياة، أكثر فاعلية من تلك التي تتغنى بالنجاحات، وذلك قول فيه كثير من رجاحة العقل وسداد الرؤية، غير أننا في طرحنا هذا لا نبخس ذلك الضرب من السير في القص حقه، لأننا نعلم أن القاص وهو يصف مسارات السقوط والتردي، لا يغيب عنه أبدا قياس مسافاته استنادا إلى قيم ثابتة يرى أحقيتها في الحياة والمجتمع. ومنها تقاس فداحة الخطب، وشدة الميل. لأن الذي سيقرأ العمل الأدبي لن يقف أمام السقوط موقف المتفرج المحايد، وإنما سيسأل نفسه ويحاسبها انطلاقا من معيار بين يديه. حينها لا تكون البطولة غائبة عن القص، فهي إن غابت في الرواية فهي موجودة في ذات القارئ حين يمايز بين الأفعال والمواقف، ويختار بين المشاعر والأحاسيس. وتلك هي وظيفة الأدب أولا وأخيرا.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بشدة وإلحاح! لماذا اختفت البطولة من القص؟ لماذا غدت الشخصية هي البديل؟ وما الذي تخفيه الشخصية حتى يستنيم لها الكل في أعمالهم الروائية والقصصية؟ لماذا تحافظ السينما على البطولة في شكلها الفروسي القديم؟ ولماذا يعيد المخرجون إخراج البطولات الأسطورية والخرافية من جديد؟ هل نحن في حاجة إلى بطولة من ذلك النوع اليوم؟ أم أننا في حاجة إلى بطولة من النوع الذي عرضناه من قبل؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح