ملاك الرحمة والعجوز الوحيد .... (الجزء2 ).. / خيرة جليل
ملاك الرحمة والعجوز الوحيد .... (الجزء2 )..
تسللت بعد منتصف الليل إلى بيته بالطابق الخامس بالعمارة .لكن في هذه المرة وعلى غير عادتها ، دخلت وطافت ارجاء البيت .الفضول يدفعها لان تعرف كل شيء عن صديقها وكيف يعيش ؟ كل شيء مرتب بالبيت . من محتوياته لا شيء يوحي بوجود أطفال أو نسوة به . بيت فسيح ونظيف وأنيق لكن بارد وينقصه الدفء الأسري. أطلت بالغرفة الاولى وجدت شابا في الثلاثينات يغط في نومه العميق وحاسوبه فوق طاولة إلى جانب سريره. علامات الرضى تعلو ملامح وجهه و تقاسيمه تظهر ان الشاب مفعم بالحياة . همست:أبدا ابني لم أأتي لأجلك .فأنت إن الحياة لم تأتي اليك ،ذهبت اليها . أغلقت باب الغرفة بحذر ومرت عبر صالون فسيح.المكان نظيف ومرتب وهادئ لكن يظهر انه يخفي حكايات مثل حكاية الف ليلة وليلة .
تحركت في ارجاء المكان واستخلصت ان بهذا البيت لا يعيش الا هذا الاب وابنه الشاب . لكن يجمع بينهما حب قوي وعميق ،ولما لا ؟ فالابن إن لم يقتحم عالم الزواج وهو في هذا السن فقد يكون خائفا على سعادة والده. والأب إن لم يريد أن يمنح نفسه الفرصة الثانية ، فأكيد انه خائف من ابتعاد ابنه عنه.واستمر الوضع على ما هو عليه إلى ان وصلا الاثنين إلى هذا العمر. لكن امور كثيرة تجهلها عن سبب عدم وجود نساء او أفراد آخرين بهذا البيت الفسيح والأنيق .
دخلت غرفة العجوز. نفس الوضع ،هاتفه النقال بين يده والفراش متساقط عن سريره، لكن احست بان هناك شيئا غريبا عن ما اعتادته في زيارتها السابقة. رتبت الغطاء على كتفيه ونظرت إلى وجه .علامات الوقار تعلوه لكن اسارير ملامحه تخفي اثار شاب عشق الحياة حتى النخاع .شعره الابيض القصير ووجهه الممتلئ يوحيان بأنه عانق العز في اوج ايامه . على شفتيه ابتسامة ثقة مفرطة في النفس.يداه و طريقة احتضانه للهاتف تبرز انه لعب مع الكبار ويمتلك خبرة واسعة في جميع الميادين .
وضعت اللباس الرياضي من فوق الكرسي على الطاولة المجاورة وخفضت من صوت المذياع المبرمج على موجة اذاعة "ميدي اند تيفي". يظهر ان هناك شيء يربطه مع هذه الاذاعة ليلا ويشده اليها. وضعت مجموعة قصائدها لتقرأ له احدها وهو في عمق نومه كالعادة .
بينما هي تقرأ لاحظت ابتسامة تشرق وجهه.وحينها ادركت ما هو الشيء الغريب في هذه الليلة . اقتربت اليه وهمست برقة : أأنت لازلت مستيقظ ؟ لم يجيبها وهو يحاول ان يتظاهر بأنه نائم . ألحت عليه :لن أتركك الان بعد ان علمت أنك تسمعني يا طفلي المدلل.
حينها لم يستطيع الاستمرار في تمثيل دور النائم و نط من فراشه فعلا كالطفل البريء وقال : أنا غاضب منك
أجابته : ولماذا تغضب مني وأنت لا تعرفني جيدا. كل ما يمكن ان تعرفه عني أني أزورك بين الحين والأخر لأطمئن عليك وأنت نائم ؟
سألها :ايها الملاك هل انت متزوجة ؟
أجابته ضاحكة : وهل تريد خطبتي .. نحن الملائكة مخلوقات نورانية . لسنا بذكور ولا إناث، فكيف لك ان تسألني مثل هذا السؤال؟
أضاف :لكن انا اراك انثى فهل اصدقك ام اصدق عيني !
أجابته : إذا احببنا شخصا اتخذنا صورة الذين يحبهم ...فنتهيأ له في الصورة التي يعشق.
سألها : لكن انا أأكد لك انك بشرا هل أنت متأكدة أنك لست بشرا؟
ابتسمت بحنان ورفق ثم إجابته : لو كنت بشرا كيف لي أن أدخل بيتك في هذه الساعة ؟ ولكن كيف لي ان اشرح لك اني ملاك وأنت عشت سبعة وستين سنة بين البشر والأبالسة فقط ! كيف اشرح لك اني ملاك و إني في صورة إمرأة ملاك وأنت ما تعودت إلا على المرأة الشيطان في حياتك ! لكن ساساك بعض الاسئلة : هل سبق لك أن رأيتني في دربك أو إحدى المدن التي تتردد عليها ؟
أجاب مرتبكا وعلامات التعجب تعلو وجهه : لا أبدا ولا مرة واحدة .
سألته : هل لامست جسدي يوما ما أو هل تستطيع لمسه الان رغم قربي منك ؟ أجاب بالنفي وهو يمعن النظر في وجهها دون أن يحاول مسها . ثم قال :لكن أنا اعرفك جيدا ! وأعرف نبرات صوتك ومعالم جسدك وكأنك كائن عاش معي منذ الطفولة .
أجابته : لا تتعجب الارواح تعرف بعضها منذ ايام الولادة .لكن كلما كنت تريد أن تراني أو تلمسني كنت تغمض عينك لتراني بعيني قلبك أليس كذلك ؟
أجابها مرتبكا : فعلا
سألته : حين كنت تراني بعيون قلبك . هل رأيت مني اي تصرف يؤذيك أو يشبه جل النساء اللواتي عرفت في حياتك؟
اجابها :ابدا
سألته : هل سبق ان تحدثنا عن المال والجنس والمجوهرات والإغراءات التي تحبها النساء ؟
أجابها :ولا مرة واحدة . كنت العب معك وأضحك بتلقائية مثل ايام الطفولة البريئة .كل ما كنت تقومين به هو انك تسألينني عن إن كنت قد تناولت أدويتي في وقتها المعتاد أم لا ؟ وهل راقبت ضغطي الدموي وهل قست السكري ؟... وهل أكلت؟ وماذا اكلت في وجباتي الغذائية ؟ وتحاولين أن تنصحينني بإتباع حمية غذائية....كم كان جل اوقاتنا ممتعة ..لكن حين أفتح عيني أجد نفسي في سريري لوحدي ...هنا بغرفتي ..
سألته :كم كان الوقت الذي كنت تقضيه في عالمي ؟ وهل كنت تحس بملل أو بمرور الزمن ؟
أجابها ونبرة الحسرة بصوته : كنت أعيش في عالمك اربعة وعشرين ساعة على اربعة وعشرين ساعة . إلى أن تنامين في حضني كالطفل البريء أو كان يتهيأ لي ...لا أشعر ابدا بالزمن حين اكون في عالمك..حتى في الشارع كنت تمشين إلى جانبي دون أن يراك احد .أنا الوحيد الذي كنت احس بوجودك ولأحدثك كنت أخذ الهاتف وأوهم الناس أنني أتحدث إلى امرأة ..لكن حين أنتبه لنفسي أجدك أنك كنت في عقلي فقط وليس في واقعي ....كنت عالمي كما تمنيته بكل طهارة وعفة وبراءة ..كنت الصديقة والأم التي لم اعيش معها والأخت وجميع النساء الأحب إلى قلبي في ذهني ...وكنت في نفس الوقت لا أحد في الواقع ...
أجابته : اريت كنت كل هذه النساء في ذهنك ..ولم اكن اي امرأة في الواقع ... كنت تستطيع أن تحدثني ولكن لا تستطيع أن تصافحني أو تلمسني....كنت تعرفني وأنت لم تراني ...رأيت في جل النساء الطاهرات والأحب إلى قلبك ولم تراني عشيقة أو خليلة . كنت تحدثني عن همومك وأحزانك وتخوفاتك وأسرارك، لكن لم تحدثني عن شهواتك او رغبتك الجنسية أو ميولاتك البشرية .إذن استطيع أن اقول لك لقد أدركت معنى الملاك في جسد الانسان ...
قال :فعلا ؛ فعلا لكن اتعجب ان ارى ملاكا بين البشر في زمن يتنكر فيه البشر حتى لبشريتهم ليتقمصون دور الشياطين والأبالسة من أجل تافهات الحياة ...في زمن لا الصداقة ولا الاخوة اصبحت لها مصداقية ...
ثم سكت لحظة وأضاف قائلا: علاقتي بك يصعب ان اشرحها لأي إنسان عادي لأنه لن يدرك معنى أن يزورك ملاكا ليطمئن عليك .ولا ماذا تعني له العلاقة الطاهرة مع كائن تتعلق به وتعرف ان علاقتك به مستحيلة على ارض الواقع ...
سكت الاثنين وكل واحد لا يعرف ماذا يقوله للأخر...قريبين من بعضهما إلى درجة توأمة الروح لكن لا يستطيعان مصافحة بعضهما البعض .وفجأة تكلما في نفس الوقت. هو يعاتبها كطفل مدلل وهي تسأله كأم معاتبة له.
هو:لكن أنا غاضب منك
هي : ولماذا أنت غاضب ؟
هو : أولا لأنك أخر مرة انفعلت وأنا لا أحب الانفعالات.....ثم أنك كتبت عني العجوز وملاك الرحمة وأنا لست بعجوز. أنا لازالت النساء والشابات تعشقنني.وأنت تقولين علي عجوز....وأنا من اختار نمط العيش هذا ولم يفرض علي ابدا .القرار لازال قراري ...
هي : أنت لازلت طفلي المدلل وأنا والدتك ولن اراك ابدا عجوزا أو شيخا مادام قلبك ينبض حبا وعشقا للحياة ...وأنا ما قلت العكس .لكن ما وجدت اسما اناديك به ..لكن يجب ان اسمع قصتك لأعرف سبب وجود وحدك... أما النساء التي تعشقك يا بني فهن اظن يعشقن أموالك.لو عشقناك لشخصك فعلا لاتين للعيش معك هنا لتدخلن الدفء لبيتك وقلبك بالحب والحنان والمودة والرحمة والاحترام عوض ان تعشقن التسكع معك في المقاهي والفنادق.
هو : أولا أنا لست وحيدا كما تظنين. أنا اعيش مع ابني الشاب إنه في الغرفة المجاورة للصالون .رغم ان كل واحد منا يعيش عالمه الخاص ، فهو يحبني إلى درجة الجنون وأنا لا أستطيع أن اعيش بدونه للحظة واحدة ..يحترمني إلى درجة التقديس.....يوما سأحكي لك حكايتي لتعرفي سر خلوتي وعن سبب عزلتي عن الاخرين .لكن لماذا انت غاضبة مني ؟
هي : اولا أنا غاضبة منك لأنك مزاجي وحين تكون اية مواجهة تهرب .ثانيا لأني كنت أحتاج اليك في عالمي لأبرهن لإخوتي ان هناك بشرا يمكنه أن يكون طاهرا في علاقاته مع الآخرين و في سن معينة يمكن ان يرقى بسمو اخلاقه وأفكاره وتصرفاته فيدخل خانة الملائكة. لكن هربت وحكمت على نظريتي بالفشل .ثم غضبت لأنك لم تعشق الحياة بمفهوم الحياة إنما عشقت تافهات الحياة وربطت السعادة بالمال والبشر والطمع والإغراءات.فكنت تعرض في علاقاتك مع النساء من جميع ألأعمار إغراءات مادية وأنت تظن ان العالم كله يتوقف على الأموال والسهرات والفنادق من خمسة نجوم ...... ثم لاحظت فيما بعد أنك لم تدرك المرحلة التي تمر منها.لم تدرك بعد معنى السعادة التي يمكن ان تعيشها في هذه السن لانك انهيت جميع مسؤولياتك بسلام وأصبحت سيد نفسك . لقد ربطت سعادتك بماضيك الماجن لتسجن نفسك فيه ونسيت حاضرك الهادئ حيث يمكنك ان تكون سلطانا فعليا لنفسك ايها الصقر الشامخ .أتعبتني والله يا ابني .لكن أعذرك لأنك في زمن لا يعذر ولا يرحم ، ووسط بشر لا يعيشون بسلام ولا يتركون اللأخر يعيش بسلام ..ولازلت غاضبة منك...
ثم تقدت نحو سريره ولأول مرة امسكت بيده. ومن ارتباكه بقي ينظر اليها كالطفل المتلبس بالخطأ أمام والدته .
هو : ولكن ..
هي : لا تقل شيئا ، اسامحك لاني لست بحقودة مثلك .لاني خلقت لأحب الناس وارحمهم في لحظة ضعفهم وأسامحهم في لحظة خطئهم...قد انزعج منهم واغضب عليهم لكن لا اكرههم ولا أحقد عليهم أبدا. من أخطائك انك حقود وحساس ولديك سوء الظن بالأخر. أعذرك لأنك ما عاشرت إلا مثل هؤلاء البشر. ومن عاشر قوما اربعين يوما اصبح منهم وأنت عاشرتهم سبعة وستين عاما. ما عساني افعل أمام تاريخ من الحقد والكراهية الذي امطروك بهما منذ طفولتك إلى شيخوختك الان ،عفوا إلى شبابك هذا. لكن غاضبة منك لأنك وعدتني يوما في عالمي أنك ستطوف معي العالم وهربت منه دون أن تفي بوعدك .ماذا لو خضت هذه المغامرة معي وسأكون ممرضة طيلة رحلتنا هذه. ستعرف أن الاشياء البسيطة التي ننعم بها في عالمنا هذا تشكل حلما لدى اخرين .كم من شخص حلم ان تكون له حياة ابسط مما انت تنعم به ولم يجدها ومع ذلك هو راض بقدره وحامد لربه .كم من واحد تمنى ان تكون له رجلين لتحملانه إلى مرحاض دون مساعدة الغير فقط.كم من شخص أو طفل نام تحت قنطرة او في نفق مواسير المياه العديمة وتمنى ان يكون له بيت فقط.لا تخف من الموت ، هي قدر محتوم وحيث تأتي هي ارض الله وندفن بها اينما كننا.لكن روحك ستعود إلى حيث شاءت أو شاء ربها. وأنا سأقوم برعاية صحتك و أنت ستسهر على حمايتي من بني جلدتك الذين تحركهم غرائزهم الحيوانية ...
ابتسم دون أن يرفع عينيه اليها وبصوته الهادئ والوقور وقال : لا تحكمي على المظاهر ..ولا تستهينين ببني البشر . فشرهم اروع من الخطر وكثيرون منهم يلبسون اٌقنعة الملائكة فتوخي الحذر...
اذن مؤذن صلاة الفجر ..
هي : عذرا صديقي مضطرة لأترك لكن اعدك اني سأعود لأسمعك قصتك كاملة . هذه كانت جلسة تصفية خواطر وجبر الضرر النفسي فقط...
رسمت قبلة على جبينه دون ان يتكلم وأسرعت نحو باب الغرفة لتخرج ...
أعدك صديقي سأعود لأسمع قصتك....بلغ تحياتي لعشيقتك الشابة ولا تخبرها أني أناديك بالعجوز لاني ما وجدت اسما أناديك به. واعدك أني سأدون لك كل ما تحكيه لي في دفتر ذهبي سأهديك اياه يوما ما حين ألقاك وأنا من بني البشر .....
تحركت في ارجاء المكان واستخلصت ان بهذا البيت لا يعيش الا هذا الاب وابنه الشاب . لكن يجمع بينهما حب قوي وعميق ،ولما لا ؟ فالابن إن لم يقتحم عالم الزواج وهو في هذا السن فقد يكون خائفا على سعادة والده. والأب إن لم يريد أن يمنح نفسه الفرصة الثانية ، فأكيد انه خائف من ابتعاد ابنه عنه.واستمر الوضع على ما هو عليه إلى ان وصلا الاثنين إلى هذا العمر. لكن امور كثيرة تجهلها عن سبب عدم وجود نساء او أفراد آخرين بهذا البيت الفسيح والأنيق .
دخلت غرفة العجوز. نفس الوضع ،هاتفه النقال بين يده والفراش متساقط عن سريره، لكن احست بان هناك شيئا غريبا عن ما اعتادته في زيارتها السابقة. رتبت الغطاء على كتفيه ونظرت إلى وجه .علامات الوقار تعلوه لكن اسارير ملامحه تخفي اثار شاب عشق الحياة حتى النخاع .شعره الابيض القصير ووجهه الممتلئ يوحيان بأنه عانق العز في اوج ايامه . على شفتيه ابتسامة ثقة مفرطة في النفس.يداه و طريقة احتضانه للهاتف تبرز انه لعب مع الكبار ويمتلك خبرة واسعة في جميع الميادين .
وضعت اللباس الرياضي من فوق الكرسي على الطاولة المجاورة وخفضت من صوت المذياع المبرمج على موجة اذاعة "ميدي اند تيفي". يظهر ان هناك شيء يربطه مع هذه الاذاعة ليلا ويشده اليها. وضعت مجموعة قصائدها لتقرأ له احدها وهو في عمق نومه كالعادة .
بينما هي تقرأ لاحظت ابتسامة تشرق وجهه.وحينها ادركت ما هو الشيء الغريب في هذه الليلة . اقتربت اليه وهمست برقة : أأنت لازلت مستيقظ ؟ لم يجيبها وهو يحاول ان يتظاهر بأنه نائم . ألحت عليه :لن أتركك الان بعد ان علمت أنك تسمعني يا طفلي المدلل.
حينها لم يستطيع الاستمرار في تمثيل دور النائم و نط من فراشه فعلا كالطفل البريء وقال : أنا غاضب منك
أجابته : ولماذا تغضب مني وأنت لا تعرفني جيدا. كل ما يمكن ان تعرفه عني أني أزورك بين الحين والأخر لأطمئن عليك وأنت نائم ؟
سألها :ايها الملاك هل انت متزوجة ؟
أجابته ضاحكة : وهل تريد خطبتي .. نحن الملائكة مخلوقات نورانية . لسنا بذكور ولا إناث، فكيف لك ان تسألني مثل هذا السؤال؟
أضاف :لكن انا اراك انثى فهل اصدقك ام اصدق عيني !
أجابته : إذا احببنا شخصا اتخذنا صورة الذين يحبهم ...فنتهيأ له في الصورة التي يعشق.
سألها : لكن انا أأكد لك انك بشرا هل أنت متأكدة أنك لست بشرا؟
ابتسمت بحنان ورفق ثم إجابته : لو كنت بشرا كيف لي أن أدخل بيتك في هذه الساعة ؟ ولكن كيف لي ان اشرح لك اني ملاك وأنت عشت سبعة وستين سنة بين البشر والأبالسة فقط ! كيف اشرح لك اني ملاك و إني في صورة إمرأة ملاك وأنت ما تعودت إلا على المرأة الشيطان في حياتك ! لكن ساساك بعض الاسئلة : هل سبق لك أن رأيتني في دربك أو إحدى المدن التي تتردد عليها ؟
أجاب مرتبكا وعلامات التعجب تعلو وجهه : لا أبدا ولا مرة واحدة .
سألته : هل لامست جسدي يوما ما أو هل تستطيع لمسه الان رغم قربي منك ؟ أجاب بالنفي وهو يمعن النظر في وجهها دون أن يحاول مسها . ثم قال :لكن أنا اعرفك جيدا ! وأعرف نبرات صوتك ومعالم جسدك وكأنك كائن عاش معي منذ الطفولة .
أجابته : لا تتعجب الارواح تعرف بعضها منذ ايام الولادة .لكن كلما كنت تريد أن تراني أو تلمسني كنت تغمض عينك لتراني بعيني قلبك أليس كذلك ؟
أجابها مرتبكا : فعلا
سألته : حين كنت تراني بعيون قلبك . هل رأيت مني اي تصرف يؤذيك أو يشبه جل النساء اللواتي عرفت في حياتك؟
اجابها :ابدا
سألته : هل سبق ان تحدثنا عن المال والجنس والمجوهرات والإغراءات التي تحبها النساء ؟
أجابها :ولا مرة واحدة . كنت العب معك وأضحك بتلقائية مثل ايام الطفولة البريئة .كل ما كنت تقومين به هو انك تسألينني عن إن كنت قد تناولت أدويتي في وقتها المعتاد أم لا ؟ وهل راقبت ضغطي الدموي وهل قست السكري ؟... وهل أكلت؟ وماذا اكلت في وجباتي الغذائية ؟ وتحاولين أن تنصحينني بإتباع حمية غذائية....كم كان جل اوقاتنا ممتعة ..لكن حين أفتح عيني أجد نفسي في سريري لوحدي ...هنا بغرفتي ..
سألته :كم كان الوقت الذي كنت تقضيه في عالمي ؟ وهل كنت تحس بملل أو بمرور الزمن ؟
أجابها ونبرة الحسرة بصوته : كنت أعيش في عالمك اربعة وعشرين ساعة على اربعة وعشرين ساعة . إلى أن تنامين في حضني كالطفل البريء أو كان يتهيأ لي ...لا أشعر ابدا بالزمن حين اكون في عالمك..حتى في الشارع كنت تمشين إلى جانبي دون أن يراك احد .أنا الوحيد الذي كنت احس بوجودك ولأحدثك كنت أخذ الهاتف وأوهم الناس أنني أتحدث إلى امرأة ..لكن حين أنتبه لنفسي أجدك أنك كنت في عقلي فقط وليس في واقعي ....كنت عالمي كما تمنيته بكل طهارة وعفة وبراءة ..كنت الصديقة والأم التي لم اعيش معها والأخت وجميع النساء الأحب إلى قلبي في ذهني ...وكنت في نفس الوقت لا أحد في الواقع ...
أجابته : اريت كنت كل هذه النساء في ذهنك ..ولم اكن اي امرأة في الواقع ... كنت تستطيع أن تحدثني ولكن لا تستطيع أن تصافحني أو تلمسني....كنت تعرفني وأنت لم تراني ...رأيت في جل النساء الطاهرات والأحب إلى قلبك ولم تراني عشيقة أو خليلة . كنت تحدثني عن همومك وأحزانك وتخوفاتك وأسرارك، لكن لم تحدثني عن شهواتك او رغبتك الجنسية أو ميولاتك البشرية .إذن استطيع أن اقول لك لقد أدركت معنى الملاك في جسد الانسان ...
قال :فعلا ؛ فعلا لكن اتعجب ان ارى ملاكا بين البشر في زمن يتنكر فيه البشر حتى لبشريتهم ليتقمصون دور الشياطين والأبالسة من أجل تافهات الحياة ...في زمن لا الصداقة ولا الاخوة اصبحت لها مصداقية ...
ثم سكت لحظة وأضاف قائلا: علاقتي بك يصعب ان اشرحها لأي إنسان عادي لأنه لن يدرك معنى أن يزورك ملاكا ليطمئن عليك .ولا ماذا تعني له العلاقة الطاهرة مع كائن تتعلق به وتعرف ان علاقتك به مستحيلة على ارض الواقع ...
سكت الاثنين وكل واحد لا يعرف ماذا يقوله للأخر...قريبين من بعضهما إلى درجة توأمة الروح لكن لا يستطيعان مصافحة بعضهما البعض .وفجأة تكلما في نفس الوقت. هو يعاتبها كطفل مدلل وهي تسأله كأم معاتبة له.
هو:لكن أنا غاضب منك
هي : ولماذا أنت غاضب ؟
هو : أولا لأنك أخر مرة انفعلت وأنا لا أحب الانفعالات.....ثم أنك كتبت عني العجوز وملاك الرحمة وأنا لست بعجوز. أنا لازالت النساء والشابات تعشقنني.وأنت تقولين علي عجوز....وأنا من اختار نمط العيش هذا ولم يفرض علي ابدا .القرار لازال قراري ...
هي : أنت لازلت طفلي المدلل وأنا والدتك ولن اراك ابدا عجوزا أو شيخا مادام قلبك ينبض حبا وعشقا للحياة ...وأنا ما قلت العكس .لكن ما وجدت اسما اناديك به ..لكن يجب ان اسمع قصتك لأعرف سبب وجود وحدك... أما النساء التي تعشقك يا بني فهن اظن يعشقن أموالك.لو عشقناك لشخصك فعلا لاتين للعيش معك هنا لتدخلن الدفء لبيتك وقلبك بالحب والحنان والمودة والرحمة والاحترام عوض ان تعشقن التسكع معك في المقاهي والفنادق.
هو : أولا أنا لست وحيدا كما تظنين. أنا اعيش مع ابني الشاب إنه في الغرفة المجاورة للصالون .رغم ان كل واحد منا يعيش عالمه الخاص ، فهو يحبني إلى درجة الجنون وأنا لا أستطيع أن اعيش بدونه للحظة واحدة ..يحترمني إلى درجة التقديس.....يوما سأحكي لك حكايتي لتعرفي سر خلوتي وعن سبب عزلتي عن الاخرين .لكن لماذا انت غاضبة مني ؟
هي : اولا أنا غاضبة منك لأنك مزاجي وحين تكون اية مواجهة تهرب .ثانيا لأني كنت أحتاج اليك في عالمي لأبرهن لإخوتي ان هناك بشرا يمكنه أن يكون طاهرا في علاقاته مع الآخرين و في سن معينة يمكن ان يرقى بسمو اخلاقه وأفكاره وتصرفاته فيدخل خانة الملائكة. لكن هربت وحكمت على نظريتي بالفشل .ثم غضبت لأنك لم تعشق الحياة بمفهوم الحياة إنما عشقت تافهات الحياة وربطت السعادة بالمال والبشر والطمع والإغراءات.فكنت تعرض في علاقاتك مع النساء من جميع ألأعمار إغراءات مادية وأنت تظن ان العالم كله يتوقف على الأموال والسهرات والفنادق من خمسة نجوم ...... ثم لاحظت فيما بعد أنك لم تدرك المرحلة التي تمر منها.لم تدرك بعد معنى السعادة التي يمكن ان تعيشها في هذه السن لانك انهيت جميع مسؤولياتك بسلام وأصبحت سيد نفسك . لقد ربطت سعادتك بماضيك الماجن لتسجن نفسك فيه ونسيت حاضرك الهادئ حيث يمكنك ان تكون سلطانا فعليا لنفسك ايها الصقر الشامخ .أتعبتني والله يا ابني .لكن أعذرك لأنك في زمن لا يعذر ولا يرحم ، ووسط بشر لا يعيشون بسلام ولا يتركون اللأخر يعيش بسلام ..ولازلت غاضبة منك...
ثم تقدت نحو سريره ولأول مرة امسكت بيده. ومن ارتباكه بقي ينظر اليها كالطفل المتلبس بالخطأ أمام والدته .
هو : ولكن ..
هي : لا تقل شيئا ، اسامحك لاني لست بحقودة مثلك .لاني خلقت لأحب الناس وارحمهم في لحظة ضعفهم وأسامحهم في لحظة خطئهم...قد انزعج منهم واغضب عليهم لكن لا اكرههم ولا أحقد عليهم أبدا. من أخطائك انك حقود وحساس ولديك سوء الظن بالأخر. أعذرك لأنك ما عاشرت إلا مثل هؤلاء البشر. ومن عاشر قوما اربعين يوما اصبح منهم وأنت عاشرتهم سبعة وستين عاما. ما عساني افعل أمام تاريخ من الحقد والكراهية الذي امطروك بهما منذ طفولتك إلى شيخوختك الان ،عفوا إلى شبابك هذا. لكن غاضبة منك لأنك وعدتني يوما في عالمي أنك ستطوف معي العالم وهربت منه دون أن تفي بوعدك .ماذا لو خضت هذه المغامرة معي وسأكون ممرضة طيلة رحلتنا هذه. ستعرف أن الاشياء البسيطة التي ننعم بها في عالمنا هذا تشكل حلما لدى اخرين .كم من شخص حلم ان تكون له حياة ابسط مما انت تنعم به ولم يجدها ومع ذلك هو راض بقدره وحامد لربه .كم من واحد تمنى ان تكون له رجلين لتحملانه إلى مرحاض دون مساعدة الغير فقط.كم من شخص أو طفل نام تحت قنطرة او في نفق مواسير المياه العديمة وتمنى ان يكون له بيت فقط.لا تخف من الموت ، هي قدر محتوم وحيث تأتي هي ارض الله وندفن بها اينما كننا.لكن روحك ستعود إلى حيث شاءت أو شاء ربها. وأنا سأقوم برعاية صحتك و أنت ستسهر على حمايتي من بني جلدتك الذين تحركهم غرائزهم الحيوانية ...
ابتسم دون أن يرفع عينيه اليها وبصوته الهادئ والوقور وقال : لا تحكمي على المظاهر ..ولا تستهينين ببني البشر . فشرهم اروع من الخطر وكثيرون منهم يلبسون اٌقنعة الملائكة فتوخي الحذر...
اذن مؤذن صلاة الفجر ..
هي : عذرا صديقي مضطرة لأترك لكن اعدك اني سأعود لأسمعك قصتك كاملة . هذه كانت جلسة تصفية خواطر وجبر الضرر النفسي فقط...
رسمت قبلة على جبينه دون ان يتكلم وأسرعت نحو باب الغرفة لتخرج ...
أعدك صديقي سأعود لأسمع قصتك....بلغ تحياتي لعشيقتك الشابة ولا تخبرها أني أناديك بالعجوز لاني ما وجدت اسما أناديك به. واعدك أني سأدون لك كل ما تحكيه لي في دفتر ذهبي سأهديك اياه يوما ما حين ألقاك وأنا من بني البشر .....
خيرة جليل
أكثر من رائع أعجبني ان ملاك الرحمة كانت ريحمة ومتفهمة وانت قلتها ومن عاشر قوما اربعين يوما اصبح منهم وأنت عاشرتهم سبعة وستين عاما. ما عساني افعل أمام تاريخ من الحقد والكراهية الذي امطروك بهما منذ طفولتك إلى شيخوختك الان حقيقا ننتظر بشوق القصة هذا العجوز أو بأحرى الفتى المدلل لملاك الرحمة
ردحذفرائعة أيتها المبدعة قصة جميلة
ردحذف