الشرط التاريخي والالتباس القانوني / أحمد دلباني



الشرط التاريخي والالتباس القانوني

 

 Ahmed Dellabani
أحمد دلباني

تعرفُ قضية الحرِّيّة التباسات في عالمنا العربي نظرياً وعملياً، فكرياً وقانونياً. يرجعُ هذا الأمرُ، ربما، إلى تشابك القضية مع مُعطيات التاريخ والموروث الاجتماعي/الثقافي من جهة، ومع إشكالات الحداثة والعصرنة السياسية المرتبطة ببناء الدولة الوطنية الحديثة وما تتطلَّبه من التزامات من جهة أخرى.

لذا نعتقدُ، فعلا، أنَّ الحرِّيّة ليست قضية نظرية فحسب بقدر ما هي تصوُّر يرتبط بأبنية الفكر والثقافة التاريخية المُتجذِّرة والرؤية الثقافية العامة التي تقومُ عليها شرعية السلوك والنظر. من هنا نفهمُ كيف أنَّ الحرِّيّة -بمفهومها الحديث الذي رسَّخته الحداثة الظافرة في الغرب منذ عصر الأنوار تحديداً- ظلَّت تعاني من غربتها الثقافية والتاريخية عن مُجتمعاتنا التي لم تعرف الحراك التاريخي نفسه الذي عرفته الضفة الأخرى من البحر المتوسط. هذا الأمر يبيِّنُ كيف أنَّ القيم لا ترتبط بسماء المعقولات، وإنما بالسياقات التاريخية للتحوُّل الاجتماعي وبالمطالب الناشئة ضمن ديناميكية إعادة ترتيب علاقات القوة في المجتمع.

وكمثل الحرِّيّة نجد الاستبداد كذلك لا يمثِّل وضعاً مفارقاً للتاريخ وللوعي بالحرِّيّة باعتبارها انعتاقاً مشروعاً مما يُعَدّ سلباً لكرامة الإنسان. لقد عاشت البشرية عهوداً طويلة على أوضاع كانت تشرِّعُ للخضوع والطاعة والرؤية الثقافية التي تكرِّس التراتب الهرمي للمجتمع وعلاقات الإخضاع. كان الاستبداد، من ثَمّ، غيرَ مُفكَّر فيه باعتباره وضعاً لا إنسانياً، بل ظَلَّ -في أحايين كثيرة- يحظى بميزة خاصة باعتباره سلاحاً ضدَّ إمكان السقوط في الفتنة. وإذا رجعنا إلى الأدبيات السياسية العربية في العصور الوسطى وجدنا هذا الأمر في مصنَّفات اللاهوت السياسي والآداب السلطانية المعروفة. وربما تنبَّهنا، أيضاً، إلى أنَّ الحرِّيّة لم تكن مُفكَّراً فيها انطلاقاً من مفهوم الإنسان باعتباره فرداً يملك حقوقاً طبيعية لا تُنتهَك، وإنما ظلَّت مرتبطة دائماً بنظام الفكر اللاهوتي الباحث عن علاقة الفعل البشريّ بالخلق الإلهيّ. لم تكن الحرِّيّة مفهوماً يرتبط بوجود الإنسان السوسيو- سياسي بل باللاهوت. ولم يتعرَّف الفكر العربي إلى هذا المفهوم الحديث للحرِّيّة إلا بعد «صدمة الحداثة» كما يُعبَّر، وهذا بعد اللقاء الإشكالي بالآخر المُستعمر الذي أنجز حداثته الأولى وثوراته المعرفية والسياسية الليبرالية. هكذا كانت النخب العربية منذ ما سُمِّي «عهد النهضة» مأخوذة بالمُنجز الليبرالي الغربي، ورأت فيه الأنموذج الحضاري الذي بإمكانه أن يُخرجَ الذات المُنهَكة من عطالتها الحضارية. وهنا نعثر على بوادر الفهم الأول للحرِّيّة باعتبارها حرِّيّة الفعل والتفكير والحق في الازدهار الشخصي والمُشاركة في الحياة العامة واستخدام العقل.

إنَّ للتـفكيــــــــر فــــي الحـــــــرِّيّة عندنا -باعتبارها حقاً للإنسان- منشأً تاريخياً ارتبط بذلك اللقاء بالآخر الغربي الحديث. من هنا طفقنا نُدين الاستبداد ونبشِّر بضرورة عتق العقل، كما طفقنا نحلمُ بدساتير تحدِّد الحقوق الإنسانية والواجبات، وتجعل من السلطان السياسي تعبيراً عن الإرادة العامة في العيش المُشترك والازدهار والمناعة. كان هذا في العهد الليبرالي الذي تعرَّف إلى فولتير، وروسو، ومونتسكيو ومبادئ الثورة الفرنسية. ولكنَّ تعقيد التاريخ أجهض هذه الأحلام، أو قل، ضيَّق من فرص نجاحها. فقد كانت تبدو يوتوبيا ارتبطت بتطلُّعات النخب التي درست في الخارج، وأرادت فرض أنموذجها الطليعي التقدُّمي على مجتمعات ظلَّت، في بنياتها الأساسية، تمارس نوعاً من الممانعة أمام كل مُحاولات التغيير كما هو معروف. ولكن، تجب الإشارة إلى أنَّ الليبرالية شكَّلت مهداً للحديث عن الدستور والحقوق المدنية الحديثة، وبينها الحرِّيّة بمفهومها الشامل كما أسَّست لها النزعات الفردانية المُنبثقة في الغرب الحديث منذ القرن السابع عشر. نجدُ هذا عند لطفي السيد، وطه حسين تمثيلاً لا حصراً.

لا يُمكننا تناول مسألة حضور الحرِّيّة في الدساتير العربية والغربية دون مُقاربة تاريخية تقرأ هذا الأمرَ ضمن سياق من التحوُّلات والصِّراعات التاريخية التي انبثقت معها مشروعية هذه القيمة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً. فنحنُ نعرفُ مثلاً كيف أنَّ مسالة الحقوق في الغرب الحديث مرَّت بلحظتين كبيرتين: اللحظة الليبرالية التي تمحورت حول حقوق الفرد وتأسيس فكرة المُواطنة على أساس من العقد الاجتماعي، واللحظة الاشتراكية التي تمحورت حول حقوق الجماعات. ظل هذا الأمرُ تجسيداً لصراع إيديولوجيّ طبع القرن العشرين، وتجلّى في دساتير الغرب وهو ينقسمُ على نفسه عقائدياً انطلاقاً من رافدين تاريخيين كبيرين: جون لوك، وروسو، وميراث عصر الأنوار من جهة، وكارل ماركس من جهة ثانية. ونلاحظ في عالمنا العربيّ أنه بعد أن عرفنا الدستور الليبرالي الذي ركَّز على الحقوق ومن بينها الحرِّيّة كان لنا أن ندخل مُغامرة إيديولوجيا «الثورة العربية» بتلويناتها القومية والاشتراكية. هكذا احتلَّ الاهتمام بالعدالة والمساواة والتنمية والبناء القومي كل الفضاء المُخصَّص للحقوق على حساب الحرِّيّة الفردية.

* *

لقد ظلَّت الحرِّيّة بهذا المعنى -منذ نصف قرن على الأقل- ذات حضور مُحتشم في الحياة السياسية العربية وفي الدساتير التي قامت على الأحادية الحزبية، وركَّزت على مبدأ السيادة والاستقلال وعدم الركون إلى إيديولوجيات الغرب المُعادي لحرِّيّة الشعوب واستقلالها التاريخي من التبعية الموروثة عن الأزمنة الكولونيالية. ظلَّ الفرد العربي غائباً عن تشكيل ملامح مصيره لغياب المُجتمع المدني الذي لم نكتشف ضرورته إلا بعد انهيار المنظومة الإيديولوجية الاشتراكية أواخر القرن العشرين، ما عَجَّلَ بالمطالبة بدساتير مدنية حديثة تعترف بالتعدُّدية السياسية والفكرية وبحق المشاركة السياسية للمواطن العربي في الشأن العام على غرار ما شهدنا في الجزائر بعد انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 1988.

مما لا شَكَّ فيه أنَّ الغرب ظلَّ المُلهِم للفكر السياسيّ الحديث منذ ثوراته السياسية الكبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إنجلترا، وفي فرنسا تحديداً. لقد تحدَّدت، تبعاً لذلك، فلسفة الحكم باعتباره أمراً يقوم على الإرادة العامة والتعاقد الاجتماعيّ، وعلى فلسفة لحقوق الإنسان الطبيعية التي يجبُ صونها وعدمُ انتهاكها. هذا هو الجذر التاريخي والفلسفي لدساتير الغرب الذي قطع مع اللاهوت السياسيّ وهيمنة الكنيسة والصّراع الطائفي، ودَشَّنَ عهد العلمنة السياسية والحقوق المُتساوية والمُواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب. لقد استقلَّت السياسة عن البُعد العقدي، وترسَّخت الحرِّيّة باعتبارها جوهر الكائن الإنساني، وهو ما أخذ أبعاداً أخرى فيما بعد، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً، مع حركات الاحتجاج الكبيرة التي مَثَّلَها الجناح الاشتراكي لتطوُّر الحقوق في مجابهة انحرافات الليبرالية التاريخية. ولكنَّ الأمرَ الذي لاحظناه في عالمنا العربيّ -منذ قرنين تقريباً- هو تلك المُمانعة السوسيو- ثقافية لمُحاولات التغيير. من هنا سيادة الاستبداد في الحياة العربية. وهو استبدادٌ لا يرجعُ في عمقه -على ما نرى- إلى أهواء المُســــــتبدّ العــربــيّ فحسب، بل -أيضاً-إلى بنية الثقافة السائدة اجتماعياً في ارتباطها ببنيات سوسيولوجية قائمة على الإخضاع وبنية العلاقات الهرمية التي تعيقُ انبثاق الفرد.

ومن المعروف أنَّ لائحة الحُرِّيات ضيِّقة في عالمنا العربي، وإن كان هناك تفاوتٌ بين بلدٍ وآخر في هذه المسألة. ولكننا ما زلنا نلاحظ أنَّ بعض الحرّيّات الأساسية التي ترسَّخت في الغرب ما زالت تُعتبَرُ «تابو» عندنا. هذا ما يكشفُ عن بعض مآزقنا الثقافية التي لم نفصل فيها إلى اليوم، في ظل إصرارنا على وضع دساتير تبدو حديثة في ظاهرها، وإن كانت تخفي إرادة تكريس هيمنة الطائفة الغالبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=EFEE1312-5DB9-4FBF-BFCB-C65C6FC7ABD2&d=20140301#.UxcIL85xwXi

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)