الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس


  محمد فارس تونس 

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل
- اهمية التأويل لفهم العمل المعاصر حسب فلسفة دانتو:
إن المتأمل في الممارسة التشكيلية المعاصرة،يلاحظ ميلها نحو استعمال أشياء وظيفية كانت بالأمس غير فنية ولا تمت للمعايير الجمالية التقليدية بصلة، لدرجة أن الأشياء اليومية التي نراها عادة في الأسواق و المحلات التجارية صارت تعرض اليوم كأعمال فنية وتصل إلى درجة أن الفنان يضع عليها توقيعه وهي من الممارسات التي تستدعينا للتساءل هل أنه يمكن اعتبارها فنا وان كان الجواب بنعم فما سبب هذا الانحراف الجمالي نحو اليومي والتافه و المبتذل في بعض الأحيان؟ ومن هذا المنطلق فان فن ما بعد الحداثة قد قدم توجها جديدا في ممارساته تتعارض مع ما سبقه من نظريات لدرجة وضع فيها النقاد وفلاسفة الفن و المهتمين بالشان الفني في مأزق و للخروج منه لا بد من مراجعة النظريات القديمة للجمالية و مواكبة هذه الموجة الهائلة من الأعمال التي لا تمت بصلة لجماليات الفن بحسب المفهوم التقليدي .
هذا الانحراف بالقواعد الفنية قد رجّ علاقة المتلقي بالمنتوج الفني منذ أن جاءت الأشياء الاعتيادية و اليومية ذات الأغراض الوظيفية و ظهرت كأعمال فنية معروضة وانزاحت عن صورتها الأولى.


 Photo
تنصيبة الفنان البشير قرشان والتي بعنوان "يوم قبرنا يوسف

هذا التساؤل أثاره الفيلسوف "دانتو" Arthur C .Danto في 1964 في Stable Gallery أمام عمل ل"آندي وارول" Andy Warhol مسمى Boites Brillo وهي علبة لحساء الطماطم ، وهذا التساؤل أدى به إلى كتابة مؤلف كان من بين أهم الكتابات الفلسفية فيما يخص فن القرن العشرين و كان بعنوان The transfiguration of the commomplace وترجم للفرنسية في 1989 بعنوان Transfiguration du banal.
وبحسب ما سبق فان تغير الممارسة التشكيلية في القرن العشرين كانت بمثابة تحد للفلاسفة بما أنها أجبرتهم على مواجهة مفهومهم للفن و تحديدا مفهوم الجميل في الفن، و الذوق و الموهبة، ومن بين هؤلاء "دانتو" الذي طالب بنظرة جديدة للفن و حاول تبيين الاختلاف بين الشيء اليومي الاعتيادي و العمل الفني حتى و ان بديا متماثلين للعين و رأى أنه يوجد اختلاف بين la boite de brillo ل"وارول" Warhol و تلك التي توجد في الأسواق، وقد قدم "دانتو" فكرة "التأويل" interprétation وهي فكرة يقوم عليها بحثه في هذا المجال وهو المقياس الذي يحدد الفرق بين الشيء الفني و الشيء اليومي الوضيفي .


تنصيبة الفنان البشير قرشان والتي بعنوان "يوم قبرنا يوسف

يرى "دانتو" أن العمل الفني هو شيء يتعدى ماديته الظاهرة ولا يمكن حصره في بعده الادراكي المحسوس، وإنما له بعدا سيميائيا يتماشى مع إطاره و موضوعه.
رأى "دانتو" أن العمل الفني ليس شيئا له خصائص مادية تميزه و إنما هو شيء يحمل في طياته معنى خاصا وهو ما يجعله يؤكد على وجوب التأويل لاكتشاف العمل و التفرقة بين الشيء الفني و الشيء الوظيفي و رأى في عمل "وارول" Warhol أن مظهر الشيء لا يمكن أبدا أن يكون كافيا لتحديد إن كان عملا فنيا أو العكس.
و قد خلص "دانتو" في هذا البحث إلى أن العمل الفني يجمع بين المكونات المادية و البعد التأويلي ولا يمكنه أن يكون محدودا على بعده الجمالي فحسب لأنّ حصر اهتمامنا على بعده الجمالي من خطوط وألوان و غير ذلك من العناصر التشكيلية، فان ذلك لا يكفي و الحل بالنسبة ل"دانتو" هو الجمع بين المظهر المادي للشيء المدرك و البعد التأويلي له، حتى يكتسب ذلك الشيء أحقية حضوره في خانة الأعمال الفنية، و ذلك حتى نعطيه معنى، فيكون "التأويل" هو الذي يصنع العمل الفني بقياس أنه يسمح باعتبار الشيء الاعتيادي عملا فنيا.



تنصيبة الفنان البشير قرشان والتي بعنوان "يوم قبرنا يوسف

بعض الأعمال الفنية في الفن المعاصر لا تتعدى كونها أشياء عادية تستعمل لأغراض وظيفية، من الصعب التمييز و التفرقة بينها و بين ماهو غير فني، فأعمال "مارسال ديشون" Marcel Duchamp المتمثلة في مصنعات جاهزة ready made تفرض السؤال التالي : كيف يمكن استعمال أشياء ذات أغراض وظيفية و نلحق بها اسما و نعرضها في رواق من الأروقة الفنية و نحسبها عملا فنيا ؟
خلاصة القول فأنه حسب "دانتو" يكون الشيء الوظيفي موجها لغايات استعمالية أما الشيء الفني فهو موجه لغايات تأويلية وإن كان مصنعا جاهزا، و بذلك فان "دانتو" لا يولي أهمية كبرى للمستوى الادراكي للعمل الفني و لبعده المادي بقدر ما يجعل التأويل سبيلا لمعرفة إن كان عملا فنيا أو العكس.
وعلى هذا الأساس فان فلسفة "دانتو" تدعو إلى مراجعة الضوابط الجمالية السابقة ومنها مفهوم الجميل و المتعة الجمالية لأن الفن حسب "دانتو" هو كل ما يمكن تأويله فنيا و ليس كل ما يسبب الاحساس بالمتعة.
-العمل الفني المفتوح على تعدد القراءات:


 
تنصيبة الفنان البشير قرشان والتي بعنوان "يوم قبرنا يوسف


أهمية تأويل العمل الفني المعاصر تحيلنا مباشرة إلى عملية التلقي التي تكتسي اهمية بالغة في الفعل الإبداعي ، فيتحول مركز الأهتمام من عملية الإنتاج إلى عملية التلقي فآمنت الاتجاهات النقدية المعاصرة بانفتاح العمل الفني على قراءات عدة ودلالات تفرز معان ينطوي عليها كل إنجاز فني ، وهو ما يتعارض مع الفنون التشكيلية التقليدية فامبرطو ايكو الذي أكد على ضرورة أن يقدم العمل الفني مفتوحا يقول فيما يخص اللوحة والنظرة الجبهية للمشاهد و خدع المنظور " اللوحة يجب أن تدرك من خلال العين التي تشاهدها و انطلاقا من زاوية معينة. و في هذه الحالة من الأمور التي لا تناقش كون هذه الانشغالات لا تعطي الامتياز أبدا لــ " انفتاح الأثر " بل العكس هو الصحيح، فمختلف حيل المنظور هي أيضا وسائل تجعل المشاهد يرى الموضوع المقدم بطريقة واحدة، هي الطريقة الذي اختارها المؤلف وهي الطريقة الوحيدة الصحيحة .
أمبرطو ايكو هو كذلك يؤكّد على أهمية التأويل فمفهوم الانفتاح في كتابه الاثر المفتوح له علاقة بالتساؤلات التي يثيرها الاثر ليكون العمل الفني موضوعا جماليا قابلا للتاويل، و المتلقي وهو يستهلك الإنتاج الفني يتفاعل مع ما فيه من تأثيرات و يحاول فهم العلاقات و يمارس ثقافة معينة و أحكاما قبلية وهو ما أكده " هانس روبار جوس جوس " و سماه بأفق الانتظار لينتقل إلى مرحلة التأويل ، فان كل مستهلك للعمل الفني وهو يتفاعل مع مجموع المثيرات، وهو يحاول أن يرى و أن يفهم علاقتها، يمارس إحساسا شخصيا و ثقافة معينة و أذواقا و اتجاهات و أحكاما قبلية، توجه متعته في إطار منظور خاص به ". في هذا السياق يتبين لنا أن انفتاح العمل الفني التشكيلي يعطي المشاهد مساحة حرة للتأويل و التخمين و التفاعل بتحريضه و استفزازه وهو ما بلوره الفن التشكيلي المعاصر في صورة جلية تجعل من العمل الفني سرا يجب اكتشافه و منبها للمخيلة ليبقى مفتوحا على عدة قراءات و تأويلات. لكن الأعمال الفنية المعاصرة لا تتطابق عادة مع أفق انتظار المتلقي مما يجعله عاجزا عن مقاربتها بأعمال سابقة بما أنها تقوم على الجدة و الثورية فيقول عن ذلك هانس روبار جوس صاحب مؤلف جمالية التلقي " تكون التجربة الجمالية والتلقي مساراً يضع فيه المتلقي مفاهيمه السابقة للعالم وتضم انتظاراته المرتبطة بإهتماماته ورغباته وحاجاته وتجاربه بحسب وضعيته في مجتمعه ، وتجربته الذاتية
وعملية التلقي بالنسبة ل"جوس" مرتبطة بتفاعل عوامل عدة ذاتية وفنية و إجتماعية وكل متلق يكون له أفق انتظار وليد هذه العوامل وتكون التجربة الجمالية سبيلاً لتغيير أفق الانتظار و إكتساب أفق جديد يؤهله لتقبل الأعمال الفنية و معايشة التجربة فتتولد جمالية التلقي .


تنصيبة الفنان البشير قرشان والتي بعنوان "يوم قبرنا يوسف

لا زلنا في موضوع التاويل ولنا بعض الامثلة من الأحداث و الاعمال الفنية في شكل صور قد تبين لنا مدى انفتاح الاعمال الفنية المعاصرة على التأويل الذي يكون نابعا من إهتمامات ورغبات وتجارب المتلقي بحسب وضعيته الإجتماعية و توجهاته العقائدية و مكتسباته الثقافية ، وأيضا تجربته الذاتية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح