ملاك الرحمة والعجوز الوحيد (ج3 والاخير ) / خيرة جليل


ملاك الرحمة والعجوز الوحيد (ج3 والاخير )

في هذه الليلة لم تتسلل ملاك الرحمة لبيت صديقها العجوز وإنما اتت مبكرة .البيت كالعادة نظيف ومرتب لكن يسبح في هدوء مميت وصمت قاتل.لا شيء يوحي بحدوث جديد خلال فترة غيابها عنه . فسكان هذا البيت عادة يعيشون نوعا من الرتابة اليومية . فبعد العمل عادة يلتحق الاب بالمقهى المجاور لبيته ليرتشف كاس شاي خفيف بدون سكر. ثم بمجرد ما يدخل البيت يلتحق بسريره بغرفته الباردة لينتظر عودة ابنه وهو ينصت لصوت مذياعه الخافت ويمسك هاتفه النقال منتظرا مكالمة من شخص ما تعود ان يتقاسم معه لحظات يومه بأفراحها وأتراحها . في كل ليلة ،يدخل الابن للبيت على الساعة التاسعة ليلا فيدعو والده للعشاء . يتبادلان اطراف حديث خفيف حول بعض الاحداث العابرة بمقاولتهما . هذه المقاولة التي تشكل لهما بداية مشروع مستقبل لهما. الابن يشكل روح التجديد والمثابرة للمقاولة العائلية الفتية التي بنيت على انقاض مقاولة ابيه بعدما عصفت بها رياح المنافسة وتلاعب شركائه الذين اودعهم اياها امانة بين ايديهم ولم يتصرفوا إلا تصرف حيوانات متوحشة ومفترسة في ثور وديع وهبهم نفسه بحسن نية الصداقة و العائلة .أما الاب فيمثل الخبرة التقنية والإدارية والتجربة العميقة من سنوات عمر طويل . بعد العشاء مباشرة يلتحق كل واحد منهما بغرفته ليعيش في عالمه الخاص .
اليوم يوم سبت، صوت المذياع ينبعث من غرفة العجوز ليكسر هدوء البيت القاتل بصوت مذيع لبرنامج اجتماعي يناقش كل مرة موضوع معين بحضور ضيوف من مختلف التخصصات .لم تهتم ملاك الرحمة اليوم بالحيثيات الاخرى انما توجهت مباشرة إلى غرفة العجوز لأنها تعلم أن الابن يمضي ليلته خارج البيت مع صديقته .من خلال حركاتها اللاإرادية يظهر انها تحمل بعض الاخبار للعجوز.
فتحت باب الغرفة ، ووجدته ينتظرها على غير عادته .الاثنين متوتران لشيء خارج عن ارادتهما .
هو : لقد حضرت اليوم مبكرة ،عذرا كنت انتظر مكالمة هاتفية من صديقة لي .
هي :اعرف .ولكن وعدتك ان أعود يوما ما لأسمع قصة سبب ان تعيش في هذا السن بدون زوجة والى جانب ابنك هذا الذي بدوره كان من المفروض ان يكون ليس متزوجا فقط وإنما متزوجا و ابا لأطفال . وأنْ أعرف سبب أن تسجن نفسك كل ليلة داخل هذه الغرفة الباردة وسط هذا البيت الفسيح بسريرك الفردي إلى جانب مذياعك هذا .مئات الاسئلة تطرح نفسها والفضول يزيدني شوقا .
هو : وما دمت ملاكا وتخترقين عالمي بدون حواجز الاجدر بك أن تكوني عارفة لكل صغيرة و كبيرة عني .
هي : قبل أن اهتم بك لم يكن يهمني شأنك .وبعد أن توليت مسؤوليتك اصبحت جزء من حياتي .كل ما تعيشه انت اعرفه أنا .لكن أحب ان اسمع ماضيك من وجهة نظرك انت .ولدي مفاجئة لك في اخر حديثنا انشاء الله . لقد علمت عنك الكثير .
قفز من سريره كالطفل الصغير وعيناه تلمعان من الفضول والارتباك : وماذا تعلمين عني ؟
هي : كل الامور تأتي في وقتها المناسب فلا تستعجلها حتى لا تفقد نكهتها ،لكن يظهر ان هذه الليلة غير مرحب بي في عالمك يا صديقي. ألا تدعوني ابدا للجلوس ؟ فكيف لك ان تحكي لي قصتك وعلامات الانزعاج تعلو وجهك!
هو : تفضلي يا توأم روحي اجلسي بجانبي سأحكي لك حكايتي ، وربما ستكون هذه اخر مرة سنتحدث فيها إلى بعضنا عن ذلك لاني لا أريد نبش الماضي .فقد لا استطيع ان استمر في حكايتك إلى الاخر وأنا اعرف اني لست الوحيد الذي تهتمين به في حياتك .
هي :القرار يبقى قرارك انت .وأنا فعلا لا اعتني بك انت لوحدك .أنا بالإضافة إلى عالمي الفسيح اعتني بثلاث اسر غيرك في عالمك هذا ، بإفرادها وأطفالها وكل واحد منهم يحتاج لعناية خاصة .فالعجوز هو ذاكرة المجتمع والطفل هو مستقبله وكلاهما يحتاج لعناية خاصة ، فإن ضاعت الذاكرة والمستقبل فلا وجود اساسا للمجتمع ككل.وأنت صديقي و ابني المدلل واحد من ذاكرة هذا المجتمع ولا احب أن تغادره في صمت لأنك لم تأتيه في صمت .فيا ما لعبت مع الكبار وبصمت بصمتك في الخفاء .لقد علمت أن جل ابنائك بدون استثناء سهرت على تلقينهم أحسن تعليم وهم الان ناجحون في حياتهم ما شاء الله بجميع المقاييس .إنهم ورودا وأزهارا في مقتبل عمرهم وراقين في افكارهم ومستواهم الاجتماعي ومتمكنين من تسيير حياتهم. ولكن هناك شيء واحد يقضي مضجعهم .
هو : وكيف عرفت ذلك ؟ وما هذا الشيء الذي يقضي مضجع ابنائي وأنا اظن أني انهيت مسؤوليتي اتجاه جميعهم بما تستحق الكلمة من معنى ؟
هي : لا عليك يا صديقي .يكفي أن تكون لك الارادة لتعلم وتكشف اللثام عن كل شيء ،اكيد ستصل .لكن افضل ان تحكي لي حكايتك انت اولا و سأحكي لك عن اشياء يتوجب عليك أن تعرفها من باب الشفافية والنزاهة في علاقتنا .
اعتدل في جلسته بسريره ليفسح لها المجال للجلوس إلى جانبه
هو : تفضلي الحكي يحتاج لوقت طويل وأنا سأختصر لك الحكاية .لكن دعيني اتحدث عن نفسي بصيغة الغائب .أكره ان اتحدث عن نفسي بنفسي لاني أنا الذات الحاضرة والغائبة في نفس الوقت عن هذه الحكاية .
أشاح ببصره بنظرة عميقة وكأنه يعود بذاكرته نحو ماض بعيد.يزفر زفرة عميقة وكأنها نابعة من بئر احزان عميقة او انه يريد ان يعود للحظة كرهها في حياته .ثم استرسل في الحكي .
" في أخر مكالمة هاتفية لها بعد اربع سنوات من الفراق قالت : اللهم سامحنا وسكتت . ونسيت ان الجراح ان التأمت دون تنظيف تندمل ويبقى العفن وسطها الى ان يتفجر قيحا من ناحية اخرى .....و أنا لم اعمل حساب هذه اللحظة التي أعيشها الان . سكت مليا وهو يتأمل اطراف اصابعه وكأنه يستحضر لحظة حرجة في حياته أو انه يتردد في حكاية قصته ،ثم استأنف الحديث . .
في لحظة تسرع ...او غضب ...او نزوة ..او دلال...غاب المتهم الذي كنت هو أنا ولم تمنحه فرصة التعبير عن رأيه. هي التي كانت زوجتي لمدة ما يزيد عن خمسة وثلاثين سنة ، اتخذت قرار الرحيل ضاربة عرض الحائط كل الذكريات الجميلة التي تمنحها نفسا جديدا لتكافح من اجل الحياة .قالت انت لن تتغير ! وأنا لن انسلخ من عشيرتي وقومي .رمت بكل الصور الجميلة على الارض. قالت اتوق لشيء جديد وغريب في حياتي .اتوق لتجربة مدهشة وغير مقبولة منطقيا ان تم حكيها لأي طرف ثالث .الكل يستغرب والغريب يستنكر .خرجت تاركة كل شيء في مهب الريح ، تاركة الف سؤال يقضي مضجع الجميع و فراغا مبهما و سهلا ممتنع التفسير .ومئات علامات الاستفهام والمبررات الغير المقبولة منطقيا .لم تكلف نفسها عناء انتظار عودة متهمها الرئيسي في القضية ، الذي هو أنا دائما ، ليدافع عن نفسه. كل العائلات تمر من أزمات مالية ومن ظروف صعبة ولكن لم يتخذ افرادها ابدا قرار ترك بعضهم البعض .كنت اظن أن الأزمات المالية تزيد افراد الاسر تشبثا ببعضهم،لكن هي برهنت لي على ان ما كان يجمعها بي طيلة هذه العقود هو المال فقط .
خرجت وانتهى الامر .تمر الايام ثم تمر السنين .توقف الزمان في لحظة خروجها من عرينها وتوقف الوقت وجفت القلوب وأجفلت وتعود كل واحد منا على حياته الجديد في عالمه الجديد.ترى أهناك ما يستحق ان نضحي من أجله الى هذه الدرجة ؟هل الحب لعبة ؟هل الاسرة قمار في لحظة غضب ؟ امن ان هناك وجه ثاني للقضية ؟ كم هي مجحفة لحظة خروجها من البيت هاربة من ماضينا العريق ومن حاضرنا المجحف في حقنا .مهما كانت ازرار السرد جميلة ، فان القارئ لا تستهويه مداعبتها ولا حتى لمسها يا عزيزتي ملاك . فأنا الان أحس بحيرة تقطع انفاسي وشرود يمنعني من التركيز.اي متاهة هذه رمت نفسها فيها!
فعلا لكل طرف منا وجهة نظر عزيزتي ملاك .والقاضي غيب في القضية .العواطف المكسورة لا تحتاج للترميم ولا للترقيع . هول الفاجعة سيكسب السرد قوة. وأنا ما تعودت أن أصدر أمرا ولا تنفذههي لي لاني كنت ادفع لها بسخاء كبير .
من كان يظن ان القرار الجميل الذي اتخذ من طرف اثنين - الذين هما نحن - منذ ثلاثة عقود ونصف ، سيحسم لأسوء نهاية ومن طرف واحد وتحت اغراء المال لتصبح حبيبتي وزوجتي خادمة لدى الاسياد ؟اي عبث هذا واي منطق هذا ؟ هذا من وجهة نظري أنا طبعا كطرف أقصي في اتخاذ القرار .فأنا الطرف الذي لازال الى حد الان يتخبط في الف سؤال للبحث عن مبرر لقرارها المجحف في حقه.
أشعر انها سئمت ان تكون مجرد هي أو أنها حاولت ان تمازحني في لعبة الغضب .اللعبة اتخذت منحى الجدية .صعب ان نعود ادراجنا .صعب ان لا تكون هي انانية في اتخاذ قراراتها لأنها تربيت على ذلك وأنا عودتها ان تكون سيدتي في اتخاذ قراراتنا اليومية.
ادخلتها حياتي بعز حين عشقتها وأنا ابن الثلاثين سنة وهي ابنة الثالثة والعشرين سنة .عرسنا تحدثت عنه الصحف كليلة من ليالي قصر الحمراء بالأندلس . أدخلتها عالمي بعز وخرجت باستهتار .سأتركها معلقة بين السماء والأرض ما هي بمتزوجة ولا بمطلقة . فلتنعم بقروشها وتتزين وبنقوشها لأنه لا يستهويني اللعب في بورصة العواطف الجياشة .فتلك كانت اللعبة وتلك كانت الحكاية ، ولك انت يا ملاك ان تتخيلين النهاية .فلا شيء يغريني لاستمرار حتى في الحياة نفسها ولا شيء يجبرني على الكذب .اني واضح الى درجة الوقاحة. قررت الرحيل فلترحل . مهما كانت الظروف في الحياة لا نضحي بأحبتنا ومن تقاسمنا معهم عمرنا بهذه السهولة ابدا.
ربي يسامحها على قرارها المجحف في حقي وحق اسرتها ، فقد عصفت بكل شيء جميل في حياتنا ووضعنا العمري والاجتماعي لا يسمح لنا بأن نقف في المحاكم او حتى أن يسمع اصدقاء العائلة هذا . لا استطيع انهاء القصة فباقي فصولها تعرفينها جيدا ،و ما عساني اضيف على ما تعرفينه انت يا ملاك.
هي : لكن صديقي ، أنت قمت بحكي قصتك بشكل مؤثر وصنعت من نفسك الضحية ومن زوجتك المجرمة .انت لم تسمع بعد لوجهة نظرها هي كذلك .فأنت تصرفت نفس تصرفها حين ابعدتك في اتخاذ قرار الرحيل عنك ، مضحية بكل شيء من اجل ما سمته هي بدورها حماية كرامتها .
اتعلم اني استطعت أن اصل اليها وأحدثها عنك وعن ظروفك الصحية وطلبت منها امكانية العودة اليك . وهذا ما لم اريد اخبارك عنه منذ البداية .
قفز العجوز من مكانه غاضباوصرخ في وجهها.
قال : ومن سمح لك بذلك ؟ الم اقل لك إني أنا من اتخذ هذا القرار لأعيش بسلام .أنا الان على ابواب تقاعد رحيم لأتفرغ لحياتي وحوريتي.من سمح لك ان تتدخلين بهذه الطريقة يا ملاك ؟ انت فضولية كثيرا .
لم تجبه واستمرت بكل هدوء دون ان تكترث لردة فعله العنيفة وغضبه المفتعل لأنها تعلم ان عقله الباطن يريد عودة زوجته اليه. أنه لازال يحبها ،انما احس بجرح كرامته لأنها استطاعت ان تقول له اني قادرة على العيش بعيدا عنك و بدونك لأربع سنوات .لقد استطاعت أن تعيد ترتيب حياتها وتبنيها بشكل جيد بعيدا عنه .
هي : الم اقل لك انك سريع الغضب سابقا ؟ الم اقل إن الصقور تفضل الموت في صمت على ان تتوسل الشفقة ؟ الم تقل لي انت في اخر مرة لا تحكمي على المظاهر ..ولا تستهينين ببني البشر . فشرهم اروع من الخطر وكثيرون منهم يلبسون اٌقنعة الملائكة فتوخي الحذر ؟ ارجوك إننا نعرف بعضنا البعض أكثر مما نعرف أنفسنا يا طفلي المدلل .
زوجتك اليوم هي صديقتي إيميلي التي كنت أحدثك عنها بين الفينة والأخرى.لقد ذهبت اليها واخترقت عالمها واستمعت لوجهة نظرها .لقد اخترقت عوالم كل ابنائك وجالستهم وسمعت وجهة نظرهم دون ان يعلموا من أنا ؟ ثم اطلقت ضحكة خفيفة واستأنفت حديثها . انت الوحيد عزيزي الذي تعيش في قطيعة عن هذا العالم .أتعلم أن كل ما تقوم به في عالمك الرقمي يتفرج عليه أبناؤك و يتغامزون فيما بينهم و يعلقوني عليك في كل مغامرة لك "بابا مغرم ههههه" اتعلم انهم يتحاشون النظر في عينيك لأنهم يتتبعون جميع حكاياتك ومغامرتك العاطفية .
ألتفتت اليه وهي تبتسم. لا تخجل جميع البشر لهم نقط ضعف ونقطة ضعفك انت ، انك تعشق الجمال ومن مختلف الاعمار .يشيخ الجسم وتشيخ اعضاؤه لكن لا يشيخ القلب الذي يسكنه إن كان له تاريخ عريق في عالم النساء ،لا عليك اتفهم وضعك .أنت بشر ومن حقك ان تحب او أن تكره . من حقك ان تعشق من تشاء ومتى تشاء .لكن ليس من حقك ان تعشق في خفاء وتعيش مغامرات عابرة . في سنك هذا يجب ان تحقق استقرارا عاطفيا .انت تحتاج لشخص بجانبك ليحبك ويقدرك ويرعاك وترعاه .قد أكون قاسية في حديثي معك. لكن يا صديقي لا وضعك العمري ولا الاجتماعي يسمح لك بهذا الانزواء والخمول واللعب من وراء الستار .صدقت زوجتك ان قالت انت لن تتغير. فأنت يسكنك شاب مهووس بالحياة والنساء والمال والسهرات فما عساني اقول لك!
هو :اين تعرفت على زوجتي ؟ وماذا قالت لك ؟ وكيف ترى هي الموضوع ؟
هي : اخترقت عالمها كما فعلت معك ،كنت أحدثها بين الفينة والأخرى.جعلتها تفتح لي قلبها لتخبرني عن كل صغيرة و كبيرة عنكما .هي تقول انها عشقتك حتى الجنون. يوم تقدمت لخطبتها باتت تدعو الله ليستجيب لدعائها حتى يوافق ولي أمرها .وحين حاولت عائلتها منعها من رؤيتك ،كانت تبكي وتأتي خلسة للقائك بالغابة .تمردت على الكل لتكون الى جانبك انت لا غيرك .ألا تتذكر هذا يا طفلي المدلل؟
سكت العجوز واجما ولم يعلق على الموضوع لتضيف ملاك :لقد سألتها ان كانت لازالت تحبك ؟ فأجابت انها ما عشقت غيرك ولن تعشق احدا غيرك ابدا .
رفع عينيه الى ملاك ونطق بذهول وكبرياء : لكنها تخلت عني في اللحظة التي كنت في حاجة لدعمها النفسي اكثر . خرجت من بيتنا في لحظة ثورتي العصبية .رحلت دون أن تلتفت إلي .احسست بأنها تتحداني وأحسست بقمة الاهانة .كثيرة هي الاسر التي مرت من اسوء مما مررنا نحن به في تلك اللحظة ،لكنها حافظت على ابواب بيتها مغلقة ودفنت اسرارها عن باقي العائلات ولم تمنح الاخرين فرصة أن يشفقوا عليها أو أن يتلذذوا بألمها ومحنتها .
هي : ألم أقل لك إنك حساس زيادة عن اللزوم .لماذا تعتبر لجوءها لعائلتها في لحظة ازمة شفقة عليكم وتعتبر احتضان اسرتها لها والأخذ بيدها حتى تقف على رجليها من جديد نوع من الشفقة ؟ ألا يحتاج الانسان لعائلته لدعمه في لحظة ضيق او مشكل ؟ كان الأجدر بك أن تذهب لتشكرهم على ذلك خصوصا أن زوجتك كانت سيدة محترمة ومن الطبقة الراقية وتعودت على مستوى معيشي عالي . لكنها كانت لا تتوفر على مؤهلات علمية وشواهد لتخرج الى سوق العمل . أنا اعتبرها في قمة قوة الشخصية والتعقل لأنها ذهبت لتطرق ابواب سوق الشغل في مقاولة عائلتها وتعيد ترتيب اوراقها ولم تضع يدها على خذها لتندب حظها العاثر .اتظن انه كان من السهل عليها هي نفسها ان تتقبل فكرة ان تصبح بين عشية وضحاها أجيرة عند اختها بعد أن كانت تنافسها في تنظيم الحفلات والتسوق من اغلى المحلات المشهورة و شراء الماركات العالمية ؟ فرغم اني ألومها على انها هجرتك وأنت في تلك الظروف فاني احيي فيها هذه الروح القتالية وإصرارها على الوقوف من جديد . أحي فيها شجاعتها على تقبل الوضع والبحث بكل ثقة في النفس عن البديل لتغير وضعها . هي مثال جميل وحي لبناتها في قوة الشخصية والتحدي وأنت مثال سيئ لأبنائك في الانانية و حب الذات وا لغرور .أنت من دفعها الى الطريق المسدود في الحوار بينكما .متى كان الزوج يحتاج لوسيط للحوار والتفاهم مع زوجته مهما كانت الظروف و المواقف ؟ انت من بنى الحواجز بينكما ، فكلما حاولت مواجهتك انسحبت بكل هدوء من أمامها وتركتها تصرخ لوحدها ولا تسمع إلا صدى نفسها . فتسأل نفسها اهي تافهة الى درجة أن تتركها تصرخ لوحدها ؟ حين قررت ان تهجرك كانت على حافة اليأس والانتحار.هجرها لك كان انتقاما لها من نفسها قبل أن يكون عقابا لك انت .
التفت اليها بكل غضب وانفعال طفولي : انت تقولينها لي الان ،لقد هجرتني .أتعلمين ماذا يعني لك أن يهجرك أقرب الناس اليك في مفترق الطرق وفي أوج العاصفة ؟ فعلا أنت لن تعرفين ماذا يعني هذا ، لأنك لست من البشر .كيف لك ان تحسين بما احس أنا وأنت في عالمك تمرحين كما تشائين وتطوفين في عوالمنا كما تشائين ؟ أنت لا تعلمين ما هو إحساسي عند عودتي للبيت ووجدته فارغا من التي ضحيت بنومي وسعادتي وفرحتي من أجل ان تجعلها تعيش كملكة وبسلطان .دائما كانت تنظر الي كمجرد حقيبة نقود وممول لحفلاتها وسهراتها مع عائلتها . لن اناقشها ولن أرغبها في العودة. خرجت بإرادتها ويجب أن تعود بإرادتها دون تدخل أي كان .
هي : من أخبرك اني لا أحس بما أحسست به .من قال أني لا أحس بآلام الاخرين ، لو كنت كما قلت لا ما كنت اليوم الى جانبك الان . ألم اقل لك يوما أنك متسرع في أطلاق الاحكام ؟
نظرت اليه بشفقة وهي تنظر الى ردة فعله .عاد الى وضعه دون ان ينطق بكلمة ليسمح لها بان تستمر في الحكي .
هي : زوجتك بدورها تعاتبك على أنك اخرجتها من حياتك بكل سهولة .هي تقول "لو كانت الحياة الجنسية هي الشيء الوحيد الذي يمكنه ان يجمع بيننا فأنا قادرة على أن اعيش بدونها . لقد كنت اظن أني اهم من شهوة في حياته .لقد ادركت معنى أن تعيش عمرا طويلا الى جانب شخص تظن انك تفهمه ويفهمك ، لتأتي لحظة ونصبح فيها غرباء عن بعضنا البعض بسبب غروره وأنانيته. " اتعلم ما هي ميزة زوجتك الجميلة ؟ انها هادئة الى درجة السكون و ليست متسرعة في إطلاق الاحكام مثلك ،رغم انها غيورة الى درجة الاحتراق كعبوة ناسفة .ويبقى ذلك من حقها مادامت أحبتك بكل جنون .
. سألتها يوما : ايميلي لماذا تركت زوجك وأبنائك بعد ثلاثة عقود ونصف لتسكني بيتا غير بيتك ..وتعملين كأجيرة لدى الغير بعد ان كنت سيدة الخدم والحشم؟
اجابت : كنت الملكة المسجونة والأم المأمورة والسيدة الولود والزوجة الودود .وان غبت عن بيتي يوما ، اصبح مسرحا لليالي الحمر .تمنيت يوما ان اكون انسانة بسيطة فقط .عيش كريم وزوج حنون وبيت بسيط ،لكن لي رأي يحترم .الان كبر الابناء وانتهت المهمة التي وكيلت لي ولا اريد ان اصبح ممرضة لمن كان يوما معذبي .حين كانت النساء تنام بحضن ازواجهن ،كنت اطفأ الانوار حتى لا ينزعج ابنائي وانتظر عودته فجرا وقد يطول الانتظار اياما . كان يظن ان المبالغ المالية بالشيكات تشفع له جميع اخطائه .ونسي انه عندما يتكسر القلب داخل الانسان لا تصلحه اموال العالم بأسره.انه لم يترك بذهني ولا بصمة رحمة واحد تشفع له سوء معاملته لي .عاملني بغباء ، فكان كلما خانني مع واحدة من صديقاته حمل لي هدية او قدم لي مبلغا ماليا ليوهمني انه لم ينساني في بعده عني . كان يظن أنه ينظف مكان جرائمه العاطفية ونسي ان رائحة النتانة تنقلها رياح البشر الهوجاء مهما حاول اخفائها .كم كنت احس بنظرات الشفقة من صديقاتي وهن يتهامسن عني وعنه.كنت احس في كل لحظة أن بعض منافساتي في المجتمع يقذفنني بنظرات الشماتة فكنت اسرف في المصاريف والحفلات حتى اغطي النقص الذي زرعه بداخلي .
من يحب يسامح بدل المرة الالف لأنه اسير قلبه ....لكن في كل مرة كان يخونني فيها مع صديقاتي او صديقاته كانت بلورات قلبي تتكسر وشرايين قلبي تتمزق . جاء اليوم الذي وجدت نفسي اعيش فيه بدون قلب .أصبحت أعيش فقط من اجل النفاق الاجتماعي .أعيش فقط كدمية صنعت لتؤدي مهمة البروتوكول الاسري أمام أصدقائه وأسرته فأصبحت اخطر كائن في الكراهية...لأني ذقت مرارة الموت البطيء.على يده تتلمذت في تدخين حين كان يعتقد أنها نوع من الرقي الاجتماعي و من مظاهر البرجوازية .وألان يلومني على ذلك .
تستمر ملاك في الحكي وبين الحين والأخر تسرق النظر الى وجهه لترى ردة فعله .ثم تتابع حديثها وهي تتحاشى النظر الى عينه مباشرة .
تضيف : اتعلم يا صديقي ، حين تظلم احدا ويبكي .اعلم انه لازال هناك امل لان تصلح ما افسدت لان الدموع تغسل الكراهية. وإيميلي حين حدثها عنك بكت من اعماقها بدموع ساخنة .
فتعجبت كيف لبعض النساء ان تتحملن مثل هذا العذاب ازيد من ثلاثة عقود ونصف ...والأزواج لا يتحملون منهن ولا نوبة غضب واحدة في حياتهن ؟.
صحيح ان إيميلي كانت تصرخ لتحتج على افعالك ،لكن انت كنت تقتلها ببطء وهدوء بصمتك في دقيقة حين تنسحب من امامها دون أن ترد عليها . هي تقول أنها كانت تتمنى في كل مرة ان تصرخ وان تكسر الاثاث وتثور في وجهها حين كانت تواجهك بأفعالك لتنفي ما يحكى عنك من طرف صديقاتك .لكن انسحابك بهدوء من أمامها كان يثبت أفعالك .فهروبك من المواجهة دليل قاطع على ما كان ينسب اليك حتى ولو كنت بريئا . هي تقول ان في السنوات الاخيرة بعدما كبر الابناء ،اصبحتْ بالنسبة اليك مجرد كيس ملاكمة لإفراغ بركان غضبك كلما عجزت عن تفجيره خارج البيت .لم تصبح الحياة الزوجية حياة استقرار لكما كما كانت في بداية حياتكما الزوجية ، إنما حلبة صراع خفي بينكما تحركه مجزيتك ومرضك .كلما أرتفع ضغطك ازبدت وأرغدت في وجهها وأهانتها .هي تقول : هجرني في الفراش بدعوى اني لا استجيب له .كيف استجيب له بعدما يكسر كل ما هو جميل بقلبي بإهانته المتكررة لي ؟ فعدد عشيقاتك يتزايد كمتتالية رياضية في كل يوم بدون خجل .
التفت اليها العجوز وخاطبها بحكمة :
يا ملاك شيئان مؤلمان و ضروريان ومهمان في حياة الطفل ، هما الفطام والختان ذلك مثل العلاقات الانسانية يا صديقتي . الالام والفراق مؤلمان فيكفي ان يتحملهما الانسان لمدة ليتعود عليهما وينسى انه تألم يوما . فبعض الاشخاص يحبون التغيير في علاقاتهم وحياتهم كما يغيرون ثيابهم.يكفي ان لم تكن مقصرا يوما في حقهم أن تتركهم يغيرون ويبدلون.من اراد ان يطير في سمائه حرا ،ساعده على صنع اجنحة وأدعو له بالتوفيق.وهي كانت واحدة ممن احبوا التغيير في حياتهم .
ملاك : وأنا لحد الان ارى أنك لم تستوعب يا طفلي المدلل ما كنت احكي لك طول هذا الوقت .اتعلم ما هو موقف ابنائك من كل هذا ؟ ..مرة اخترقت عالم ابنك البكر لأعرف موقفه من وضعكما وهو لا يعلم حقيقة من اكون .اتعرف ماذا قال لي ؟
سكت العجوز ولم يسألها ليفسح لها المجال لتستمر في حديثها .
ملاك :لقد اخبرني بأنه سئم من خصامكما منذ ان كنتما شابين .سئم ان ينام في غرفته وهو يرى أمه تنتظر عودتك وهي تقسم بالله انك ستدفع ثمن أفعالك ولم يكن يفهم انذاك ماذا كانت والدته تقصد بأفعالك لصغر سنه. كان يدرك أن صراخها في وجههم صباحا لتوقظهم للذهاب الى المدرسة لم يكن إلا ردة فعل لصراع خفي بينكما .لكن كان يحبك الى درجة الجنون لأنك لم تتجرأ ابدا على عقابه كلما انفعلت مع والدته .كان يعجبه هدوئك .لكن يعتبر ما تعيشه الان من عزلة وظروف صحية هو من رواسب علاقتكما .هو الان يرفض ان يتزوج لأنه يستحي أن يخبر حبيبته بحقيقة وضع والديه .يخاف ان يخبرها بالحقيقة فتعتبركما المثل السيئ للأبوين. هو حائر في كل مرة تطلب منه حبيبته أن يأتي ليطلب يدها من والديها .هل يصطحبك ليطلب يدها ويخبر عائلتها ان والدته هجرتك ؟ ام يصطحب والدته وهي لن ترضى بوجودك معها ؟ انكما جعلتماه يتهرب من دخول عالم الحياة الزوجية لان المرأة في نظره هي كائن انتهازي يصعب الوثوق به .
اتعلم ماذا تقول ابنتك المتزوجة في وضعكما ؟ انها تبكي في كل لحظة لأجلكما . انها تتنازل على العديد من حقوقها في حياتها الزوجية ولا تطالب زوجها بأي شيء لأنها تخاف ان تكلمت وطالبت بشيء أن يقول لها :انك متمردة مثل والدتك.إنها ترى في عيوني حماتها نظرة الشفقة عليها .إن والدي زوجها يحاولان أن لا يتحدثان عنكما حتى لا يجرحان مشاعرها .كم تتمنى أن يجمعكما بيت واحد .تحلم ان تطرق باب بيت اسرتها لتفتح لها انت وتخبرها أن أمها بانتظارها بالداخل .إنها اصبحت زوجة وتعرف ما يحتاجه الزوج في حياته اليومية من رعاية ولا تمتلك من الجرأة ما يسمح لها بان تفاتحكما لكي لتعودان لبعضكما . إنها تكره أن تصطحب ابنها لزيارة والدتها عند جدتها هي بدل عند جدته هو .
اتظن ان المال يعالج آلام النفوس ؟ ابدا صديقي .إن الفرد يظل هو مشروع مجتمع بأكمله رغم ان الانانية والفر دانية اصبحت تقتل كل ما هو جميل فيه .الانانية قتلت روح التسامح والتكافل والتضامن بين الاسر .وبتصرفاتكما هذه تعلمان أبنائكما الانانية وحب الذات . إنهم في حاجة لان تقولا لهم إننا نحبكم ونتشبث بالحياة من أجلكم ،ليتشبثوا هم كذلك بكم ويخبروكم أنهم يحبونكم أكثر مما انتم تحبونهم .
سكتت ونظرت اليه بإمعان .
هو : كنت اعلم انك تعرفين كل هذه الاشياء عني ولهذا اصبحت أتهرب من الجلوس اليك مؤخرا.كل المسكوت عنه بداخلي كشفتي أوراقه امامي اليوم .أتظنينني لست مدركا لكل ما تقولينه ؟ انك اليوم عزفت على الوتر الحساس في قلبي . ولكن عذرا صديقتي ،لا أحب أن تشفقين على وضعي مهما كانت الظروف . وأنا ...
قاطعه ملاك بنبرة غضب قائلة : لماذا تطرد كل ما هو جميل في حياتك ؟ لماذا تعشق البؤس ؟ اتظن أن تبديل العشيقات يغير من وضعك ؟ اتظن أن الهروب من واقعك يساهم في حل مشاكلك ؟اريدك ان تعيش بقية حياتك بفخر وأنت تخرج بجانب زوجتك وأبنائك كما كنت تفعل ايام طفولتهم .اريدك ان تكون سلطان اسرتك وتتربع على عرشهم و يحسون بفخر حين يتحدثون لأبنائهم عنكما .اريدكما ان تقفا امام مدرسة حفدتكما ليخرجون بزهو ويجرون ليرتمون بحضنكما بكل اعتزاز. أريد أن تعيشا في سعادة وتحضرا حفل تخرج حفدتكما من الجامعات والمعاهد العليا وتصفقا لهما كما فعلتما مع آبائهم . أنت لا تعرف قيمة هذه الاشياء التي حرمتما نفسكما منها .قد تكون كلها بسيطة في نظرك أمام العلاقات الاجتماعية التي تعيشها .هي فعلا اشياء بسيطة صديقي صدقني ، لكن السعادة التي تجنيها من ممارستها يوميا لا تقدر بمال .قد تكون سعيدا لأنك تستطيع ان تربح اهم المناقصات المالية في سوق العمل لمقاولتك ،وقد تكون سعيدا للحصول على مشروع يدر عليك اموالا طائلة . لكن كل تلك السعادة زائفة أما السعادة التي تحس بها حين يسري الدفء الآسري داخل بيتك .ان سعادة ان تنام الى جانب زوجة تقدر وتحترمك وتسألك عن ما تشتهي في اكلك وشربك وتودعك عند باب البيت وهي تدعو لك بالسلامة وتستقبلك عند عودتك وتحمدك على سلامة عودتك شيء لا يقدر بثمن. اتعلم يا صديقي ما معنى ،إن مرضت ونمت لتفتح عينيك وتجد زوجتك تبكي الى جانبك خوفا من ان تفقدك ؟ اتعلم ما معنى ان تسألها عند خروجك من البيت عن ما ترغب في جلبه اليها ؟ فتجيبك انها ترغب في عودتك سالما . إني اعلم انها اشياء بسيطة للغاية ، لكن السعادة التي ستزرعها في نفسك ستجعلك تتشبث بالحياة بكل ما تملك من قوة .ستستقبل الموت وأنت راض عن نفسك ولا تفكر بحزن على مغادرتك لهذا العالم .لأنك ستكون مطمئن لانك عشقت الحياة حتى النخاع وتمتعت بكل ما كانت تزخر به .
انتفضت ملاك واقفة وهي تنظر الى صديقها .
هو :الوقت لازال مبكرا لترحلي يا ملاك .
هي : ابدا صديقي اعلم اني قسوت عليك في حديثي وأصبحت تتوق لان اغادر عالمك في اقرب وقت ممكن ،اشكرك على هذه المجاملة اللطيفة . أعلم أني حركت مواجع الماضي والحاضر بدهنك . لكن اعذرني لولا حبي لك لما فعلت كل هذا.مؤلم أن تسمع الحقيقة المرة من فم من تحبه ،لكن الحب الذي يجمع بيننا يجعلني مثل والدتك أو طبيبك الخاص ، أشخص لك العلة والدواء وادعوك لتحمل آلام العلاج .القرار بين يديك ،فلك أن تختار الحل الذي يتوافق ووضع . لا تقل لي مرة اخرى انك ارسلت أبنك البكر ليخبر والدته بأنك تطلب منها العودة الى الحياة الزوجية ،لأن ذلك اكبر إهانة تتلقاها الزوجة من زوجها حين يبحث الزوج عن وسيط لمعالجة مشكل عالق بينهما . إن ايميلي تنتظر منك أن تواجهها ولو مرة واحدة في حياتك .لأنك انت زوجها وأنت الوحيد المعني بالأمر .إن جميع اخطاء الزوج تذوب مهما عظمت أمام عيني زوجته حين يقف أمامها ويطلب منها الصفح والمعذرة لأنها تدرك انه يتشبث بها ويتمنى أن ينهي مشوار حياته الى جانبها . إن الحميمية الاسرية أو الاجتماعية لا يعوضها أي شيء في عصر الفر دانية هذه .
تسكت ملاك قليلا و العجوز ينظر اليها بصمت دون ان ينطق بكلمة .فأضافت قائلة :
أنت تعرف اين تجدني وكيف تستدعيني الى عالمك . لن أتطفل عليك بعد اليوم .أبواب السماء مفتوحة في وجهك فأدعو الله أن يهبك القوة لتذهب الى زوجتك وتقف امامها بكل فخر وتدعوها لشرب كاس شاي بمقهى عمومي بعيدا عن عائلتكما كأنك لأول مرة تدعوها لتتعرف عليها .ليس هناك وقت متأخر دائما لبداية موفقة في حياة الفرد مهما تقدم في السن. الوقت الذي قضيتماه بعيدا عن بعضكما كان كافيا لان تنسيا غضبكما . فالقرارات الصائبة لا تأخذ في حالة الغضب .وأنتما ها قد منحتما أنفسكما الوقت الكافي لتتحررا من موجة الغضب والشحنات السلبية . اجلس وأنصت اليها فهي لا تحتاج الى مالك او أي شيء منك ، اكثر مما تحتاج لان تنصت اليها باهتمام وحب وتقدير واحترام .هي تحتاج أن تقول لها إن حياتك تنتهي بتركها لك مرة أخرى . مهما تكن ردة فعلها عنيفة تقبلها ، لأن الفرد لا يغضب ولا يعنف إلا الذين يهمه أمرهم أما الذين لا يهمه أمرهم فإنه يغير الطريق التي ستجمعه بهم . لا أريدكما أن تكونا مثلا سيئا لأبنائكما. لا اريد أن يدخل يوما ابنك ليجدك ميتا في غرفتك وحيدا وحزينا .إن الموت حين تزور الانسان وهو ممسك بيد من يحب يهون عليه عناقها .
إني دائما انظر اليك يا صديقي حين انزل الى عالمك البشري بعين الام والأخت وكل النساء الأحب الى قلبك وأتمنى ان لا اكون قد أغضبتك .و لأول مرة منذ هذه السنين سأسمح لك بأن تعانقني لنودع بعضنا الوداع الاخير. فتخيلني اذن احدى بناتك حتى تستطيع الاقتراب مني ومعانقتي.
في ذهول وشرود من هول الخبر ، يتقدم العجوز نحوها. تعانقه ملاك الرحمة بكل حنان ورفق وترسم قبلة على جبينه كعادتها وتغادر الغرفة تاركة اياه واقفا لا ينطق بأية كلمة .وهي تعلم أن كلامها الاخير هذا معه كان قاسيا عليه .لكن من واجب الطبيب ان يؤدي مهمته على احسن ما يرام .تعرف انه مهما تقدم به العمر لن ينسى اهتمامها به ونزاهتها وشفافيتها وعفتها وطهارتها في تعاملها معه لأنها من عالم لم يتعود عليه من قبل .
تعلم ان قصتها معه ستظل من قصص الخيال التي سيرويها في كل يوم لحفدته قبل نومهم ولا أحد سيصدقه. لأنهم سيظنون انها من تخاريف الشيخوخة إلا الاكبر سنا منهم و الاقرب الى قلبه فهو من سيصدقها و سيتجرأ على تحويلها الى فلم خيالي قصير يحكي عن ملاك نزل من السماء الى الارض في مهمة طارئة تحت عنوان "ملاك الرحمة والعجوز المسن...... ".
...................................خيرة جليل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح