الطبيعة لا تعبأ بالعُلب / د. رابحي عبد القادر

عبد القادر رابحي

= الطبيعة لا تعبأ بالعُلب =

مشاركتي في ملف كراس الثقافة في جريدة النصر لهذا الأسبوع بمناسبة اليوم العالمي للشعر..

ثمة إشكالٌ يطرح دائما عندما يتعلق الأمر بالاحتفاء بإنسان ما ، أو بشيء ما، أو بفكرة ما لعله يتمثل في هذه المفارقة التي تقطع الطريق على المحتفي و على المحتفى به معا كأن كل واحد منهما يريد أن يتسلّل من أسر الآخر ليسكن في فرط الفكرة التي تتوجّ المناسبة على حساب ما يخفيانه من ألق خاص لا يردان أن يتسرب مفعوله إلى إطار المناسبة فينطلي العبق على ما تريد المناسبة أن ترسخه داخل الإطار.. تماما كما لوحة زيتية لا يريد لها الرائي حراكا غير الذي حدده الرسام و احتوته مساحة البياض.

هل يمكن أن نجعل للشعر يوما يحتفي به المحتفون؟ و هل الشعر مجرد صورة مشيّئة لوجه الانسانية المعاصر في قدمه و القديم في حداثته، و الآيل في جلّ تفكيراته الفلسفية و تحبيراته المعرفية إلى اعتبار ذاته مجرد قطعة تذكارية جميلة لا يمكن أن تخرج عن مكانها المحدد لها فوق المدفأة الشتوية، أو على مقربة من عين الطفل الباحث عن الشوق في أعلى رفّ من مكتبة الأب البعيد، أو في مرآة الروح المؤثثة بملّيمترات الدقة المتوفرة لحظة الانتقال من عالم الانسان إلى عالم الشيء الخالد؟
و إذا كان الشعر كذلك في معيار التصور الانساني في صورته الحالية، و الذي بلغه الحرص الكبير على تقنين مسافات الحلم، و ترويض حالات الفوضى النائمة في اللغة النائمة هي الأخرى في القواميس، فهل يمكن أن يرضخ الشعر لهذا المعيار بدعوى توقير ما لم يعد موقّرا من طرف الإنسان نفسه.؟

أمرٌ يبدو غريبا فعلا بالنظر إلى ما يمكن أن يلحق هذا الطائرالذي هو الشعر من أحكام مسبقة لا تستطيع حتى القصيدة أن تنصفه من أضرارها المتواصلة عبر ما يتيحه تصور كهذا من أحكام لا تنتهي إلا بترسيخ صورة الشعر الممعيرة في ذهن الانسان الآيل منذ مدّة إلى ما يحفره التشيؤ من أبنية وهمية في ذهنه و في أذهان العابرين أمثاله على القول كما تعبر الأبقار المنتبهة لتسارع ثباتها أمام القطارات الجميلة التي ترعى في حقول الزمن الهارب من سعادة محجّمة و ملقمة وفق ما تريده رمزية تخصيص يوم للإحتفاء بما لا يمكن أن يحتفى به في يوم، أو في شهر، أو في سنة، تماما كما الشجرة و الأم و الطبيعة الهارببين من أيدي مُنظّريّ السعادات المعلبة، و مُنتجي الفنون حسب الطلب، و مُسوّقي أغلفة العُلب المهيّئة للاستهلاك.

ربما كان الشعر مثل الطبيعة تماما لا تعبأ بمن يقطع منها مجموعة أشجار، أو يحرق غابة بأكملها، أو يحاول أو يعيد بناء الجنّة الخضراء التي تسكن رأسه الصغيرة لتنام في برج بابل المائل باللغة و بالشوق و بالوطن الحزين. ذلك أن الشعر كما الطبيعة يعرفان جيدا كيف يعودان إلى غيّهما الأبدي، لا لشيء إلا لرسم لوحة أخرى لم يرسماها من قبل. و هي اللوحة الأكثر دهشة دائما بالنظر إلى ما شاهده الانسان و حاول أن يشيّئه، غيرةً و ربما حقدا، من خلال وضع الوردة في الماء الجامد، و وضع الماء الجامد في جنّة بلاستيكيّة ليست أكبر من محبرة فارغة يتوق إلى جمالها الظاهر شعراءُ العصر المشيئون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح