إيقونات لزمن الصمت قراءة في أعمال عادل كامل الأخيرة / قراءة الفنان علي النجار
إيقونات لزمن الصمت قراءة في أعمال عادل كامل الأخيرة / قراءة الفنان علي النجار
.................................................
لم يجد الفنان عادل كامل سوى لغة الصمت مجالا لاشتغالات أعماله الأخيرة(وأنا هنا أحاول تجاوز صفته ناقدا فنيا إلى كونه فنان تشكيلي أولا), ليس لان الصمت مشحون بإغراءات استنطاق مخبوءاته, بل لكونه الملجأ الأكثر فاعلية للحفاظ على ما تبقى مما يمكن الحفاظ عليه لمواصلة العيش عبر سلوكيات محيطية غير سوية سلوكياتها. الصمت, نفي, ومنفى. هو أيضا مقاومة ناعمة. لكنها, وفي أحيان, تكون ابلغ من الصراخ. وبما أن الصراخ, وهو لغة هوجاء لم يعد يثمر في الزمن العراقي الذي أصمه الزعيق المرابي المتواصل. فانه وضمن اقتراحات عادل الفنية ربما يكون مجديا.
ما يغرينا في معاينة المومياء المصرية, هو ليس هيكلها الجنائزي, ولا حتى غرابة أو قسوة اهتراء ملامح أجسادها. هي لا تختلف بشكل كبير عما نشاهده أو ما شاهدناه من أشكال الجثامين المنبوشة عبر مساحة الأرض العربية المعاصرة الواسعة. التي أباحها أبناؤها(النجباء ـ الضالين). بل في ما تخبئه من أسرار مصائر نعتقدها غرائبية, وان لم تكن كذلك غالبا. فالتاريخ, والعربي منه لم يعد غرائبيا بأية حال, ما دام يجتر ويعيد وقائعه التي هي اغرب من الخيال وللحد الذي تجاوز فيه وقائع أزمنتنا الراهنة. نحن ننظر إلى المومياء بكونها صندوق أسرار يغرينا دوما لافتضاض حرمة مخبوءاته الإنسية, لا بصفة اناستها, بل لكونها معجزة زمنية من مخلفات عصور غابرة. لكن أن نتجاوز حتى على ما تبقى من أنقاض مخبوءاتها الصامتة ونفرغها من أحشائها المتيبسة, فهذا يعني أننا نحتفي بهيكل نعشها معادل لخواء محيط تشضت مفاصله. و عادل كامل يضعنا أمام محنة كهذه. ربما لا ندركها مباشرة في مشهديه إيقوناته (أختامه) الصلدة التي أنتجها مؤخرا.
إن تجاوزنا الصيغة الموميائية الاضمارية لأنصاب عادل المتقشفة. فإنها, ربما تبدو لنا كشواهد قبور, أو بعض من قبورنا(المتقشفة). أو أشخاص(أنصاب ـ علامات ـ شواهد) مقبرية. ربما يتبادر للذهن, وكأعمال فنية. أن هذه الأعمال, في صيغتها المتقشفة, ربما تنتمي لما اصطلح عليه بـ (الفن الهامشي). لكن أن تمعنا في صنعتها. نجد أن الفنان حاول جهده لان يصنعها بما لديه من إمكانيات الصنعة الفنية. على الضد من أعمال الفن الهامشي, التي تفتقد للتقنية الفنية بمستوياتها الأدائية المقعدة وللحد الذي يجعلها لا تختلف كثيرا عن الأعمال الفنية التقليلية المفاهيمية, إلا في مرجعية مصادرها البيئية. فهو لا يكتفي بصياغتها رسما ونحتا. بل بما استفاده من تجارب تلوين المنحوتات التي عرفت بها بعض تجارب النحت العراقية. لكن تبقى أنصابه هذه, بمثل ما استفادت من ذلك, فإنها نأت عن أن تكون منحوتات, أكثر من كونها علامات تعجب ظلت طريقها وسط متاهات الأمكنة.
ما بين الصمت والضجيج بون شاسع من مسافات الإيقاعات والسلوكيات واختلاف العوالم. وما يجمع كليهما في مسلك أو مسار واحد سوى الفن. ما اعنيه: هو تعادل كفتي الصمت والضجيج كأفعال تعبيرية قابلة لتبادل الأدوار. لقد اشتغل العديد من فناني الستينات الأوربيين على هذه المعادلة وأنتجوا أعمالهم التقليلة بهاجس اعتراضي رافض لكل ما لحق بالأعمال الفنية وعبر عصورها المختلفة من وهم التشخيص المثقل بتفاصيله وبحثوا عن جوهر الشكل حد انمحاء تفاصيله سعيا منهم للامساك بمادته الأولية, لا بتشكلاتها. وبالفكرة اللمحة والتي تجردها من الكثير من تفاصيل مادتها الفيزيقية. وعند ملاحظتنا لأختام عادل كامل المتوحدة التي تختزل الكثير من التفاصيل لحد انمحاء الملامح واختزال الشكل(جسد الشكل) لحده الأقصى, مما يدل على انه اختار, وعبر كل هذه الإجراءات الاختزالية إلا أن يسعى لاختيار عزلته ويعقم فضائها بإقصائه فوضى مؤثثاتها المعيقة لصفاء الذهن أو حتى توحده. لقد نصب ضريحه. أو إيقونات أضرحته, وأثثها بأنصاب عزلته وانتصب هو الآخر علامة ضالة وسط علاماتها المربكة الأخرى.
لقد اختار الفنان لخلفية أعماله اللون الأبيض معادلا لصمته الحيادي كما حيادية هذا اللون. وأيضا, لكي لا يشوش على وحداته الايقونية صرامة أشكال وحداتها الهندسية. ولكي لا تضيع حدود آثارها وسط متاهات الألوان الفائضة. في نفس الوقت جمع ما بين الكفن ولحده. بين الهشاشة والصلابة المهددة باندثار آثارها. ولم ينسى تضادات ملونتنا التراجيدية(البياض ـ السواد) لا كما النور والظلمة الكونية. بل كما هي في حيادية انعدام اللون وانمحاء آثاره التراكمية. فهل كان يقصد, أو يتراءى له, وهو في غمرة تنفيذه لهذه الأعمال, ان يتلصص على تواريخ بيارقنا التاريخية في دورة تحولاتها التراجيدية. وقد ملأت هذه البيارق حتى أضيق أزقتنا في زمننا الخرافي العراقي الجديد.
حينما يطرق سمعك اسم ـ دار السلام ـ يتبادر إلى ذهنك, مثلا, مدينة بغداد في عصرها الذهبي, أو رنين أسطورته. و كل ما تستدعيه هذه التسمية من جماليات الأمكنة وهنائها. لكن أن يدل ـ دار السلام ـ على دار للموتى, وأي دار!. فان الأمر لا يخلو من تورية نحتت حروفها أفعال(زمنية ـ ظرفية). لكن, في الحقيقة, ما اعنيه بدار السلام هو(وادي السلام).والدار جزء من الوادي. ووادي السلام هذا, هو مقبرة النجف التي افترشت رقعة خرافية في اتساعها من صحراء مدينة النجف, ورغم كل ما مر عليها من تجاوزات السلطة السياسة ونكباتها المتعددة عبر التاريخ الإسلامي, قديمه وحديثه, والتي لم يسلم منها حتى قاطنيها من الموتى, من أندرس منهم ومن لم يندرس. فإنها, ومع كل ذلك, بقيت محافظة على سلطة اتساعها الجوفية والظاهرة, و تجاوزت حتى رقعتها الجيولوجية, وعملت على اتساع ـ انمحاء ـ تراكم احفوراتها. لكن, يبقى ما يميزها, أو ما يدل عليها من علامات, هو نصب القبر بشاخصه الشعبي الإسلامي
المتقشف. وما هذا الشاخص إلا جسد مغروس بتربة مثواه ولا يتعدى في تجسيده الشكلي معادل أفق الثرى الموحش الذي يتوسده. ولكي لا يندرس تماما ويضيع أثره الأفقي, أنشأت رواميزه العمودية هذه كلافتات تحمل نصه التعريفي ـ التذكاري, ولو كتذكار لزمن محدود, قبل اندراسها هي الأخرى. وان دققنا النظر في أعمال عادل هذه فإننا نكتشف بأنها لا تختلف ولا تبتعد في نياتها عن كونها القبر وشاهده. ليس في حالة اندراسه. بل بما يدل على أنها مجرد شواهد تم جلاء مظهرها إيقونات لزمن قبر النيات الإنسانية
قبل تحقق نبوءاتها.
إن بدت أنصاب عادل كنسق معماري اثري تجرد من علاماته. فاعتقد انه تقصد أن تكون أنصاب مخادعة لا تحمل من ارثها المحلي الأثري(مقوساتها) سوى مظهريته الخارجية. لكنها وبشكل عام لا تتعدى كونها أفخاخ نصبها الفنان للإيقاع بتوقعاتنا والحياد عن مغزاها. ربما ادركناها(وكمشهديه صورية) أبواب افتضها حراسها. أو كهوف قذفت قاطنيها للمجهول. أو هي في بعض من أعماله رقع شطرنج لا تنوي مغادرة مواقعها خوفا من توقع خسارتها. أو هي لا هذا ولا ذك. بل مجرد حدس لمجهولة مغزى إقامتنا على حافة الزمن. والمجهول أصلا يضمر ضياع علاماته الدالة, بما أن الفنان يسعى لان يؤكد في أعماله هذه مفهوم الضياع صنوا لضياعاته ـ ضياعنا أو خساراته خساراتنا , أو الشعور بها.
غرابة هذه الأعمال تكمن في أمرين. الأول هو في تقاطعها والصيغة الأسلوبية لمجمل التشكيل العراقي الحديث, باكتضاض مفردات تفاصيله ومناطق أدائه. فلا هي تحمل سمات الإرث المتحفي. ولا ألحروفي. ولا حتى اثر من التجارب العراقية الحديثة المكتظة بتفاصيلها وسعة موشور ملونتها. ربما هي اقرب إلى تجربة الفنان سالم الدباغ, فقط, في بانتمائها للتقشف اللوني وانمحاء التفاصيل إلا ما يدل منها على خطوط كتلها التي هي عند عادل تجسيدية, وعند سالم تراكمية احفورية. وبالرغم من أن كلا الفنانين
حافظ على خطه الأسلوبي(والأسلوب هو أهم ميزتهم الأدائية) كما هو الحال في معظم أعمال الفنانين العراقيين الآخرين. لذلك لا غرابة حينما نكتشف أن ثمة صله وصل لأعمال عادل هذه بسابقتها. وهو الذي دوما ما يؤكد على وحدانية شخوصه المرسومة. سواء اكتملت تفاصيلها أم لم تكتمل. لكنه وفي هذه الأعمال يقدم لنا ملخصا لخطوط تجربته العامة وبالتوافق مع وحدة أو غربة نفسه التي لم يتبقى لها سوى خيار عزلتها.
إن خبرت الوحدة(الغربة الذاتية) سابقا. فقد خبرت وتمرست أيضا على انسداد منافذ ضجيج تفاصيل العالم الخارجي وديناميكية حراك عوالمه. ولم يكن لدي خيار سوى محاورة الفسحة الضيقة التي تفصل العالم الخارجي عن الباطني. ويبدو أن عادل كامل هو الآخر ولج هذه الفسحة مزودا بمعارفه النظرية والعملية وباغتراب تراجيدي لزمن من المفروض فيه أن يحمل جدته, لا عثراتها. فهل تعثر الفنان في مسارات أدائه. أم نصب لنا من هذه العثرة فخا للإيقاع بتوقعاتنا. سوف يظل هذا اللغز مرتبطا بمدى استيعابنا لدلالات أنصابه(اختام) المتقشفة هذه.
....................................................................................................
علي النجار
بوفالو ـ نيويورك 2011ـ 05 ـ 26
تعليقات
إرسال تعليق