عبد السلام عيد (الكولاج ..... ثنائية البناء والهدم) / د . أمل نصر


د . أمل نصر

عبد السلام عيد (الكولاج ..... ثنائية البناء والهدم)

عبد السلام عيد
■الكولاج .....
■ثنائية البناء والهدم


شق عبد السلام عيد الاتجاه الموازى لتجربة منير كنعان لفن الكولاج فى مصر ، وإذا كانت تجربة عبد السلام قد عرفت الكولاج بمعنى التلصيق لخامات وأشياء مختلفة وأطلق لخياله الرحب تلك السعة التى يحتاجها لتصبح كل الأشياء والخامات مادة لأعماله الفنية ، بعضها بارز عن السطح قليلاً و بعضها مجسم مع احتفاء الفنان بحضور الصلب المتماسك وكتلته النافرة عن السطح بل ويمهد لذلك الحضور المتميز ويؤكده ويؤطره ، والبعض الأخر من الأشياء المضافة يندمج وينسج ويلون ويغمر فى وسط جديد يديره الفنان بمهارة ويعبر به لمدار وجود جديد .


لكن الذى سأشير إليه هنا هو ذلك الكولاج الذى اعتمد على " الورقة " ، فقط الورقة وما تضفيه معاملات الفنان التقنية معها من كشوفات غير مسبوقة ؛ فبتمزيقه العفوى للورقة أثناء العمل وبوقوع الضوء على ثنايا حافة الورقة الممزقة وطبقاتها الرقيقة يكتشف حجم الورقة على الرغم من رهافته ، خاصة عندما يبدأ فى التعامل معها لونياً فتبدأ الورقة بالتقاط ذرات الفحم أو غلالات المادة المُلَوِنة فيبدأ فى كشف كثافة الورقة وكتلتها وكيف تستقبل الضوء كما تستقبل ذرات الفحم التى ينثرها فوقها ।





ويعالج الفنان الورقة بالدمج القوى للمادة الملونة براحة اليد حتى تلتقط ثناياها نبض اللون ، هنا تبدأ حواف الورقة فى التقاط أدق الخطوط إظلاماً وأحدها ضوءً ، ويبدأ فى الكشف عن الطبقات الداخلية للورقة فيصنع تدرجات وحجوم فى إطار الورقة الرقيقة التى قد تبدو شفافة نقية كاللؤلؤ ، أو خشنة خدشها بسن قلم قوى بخطوط متسارعة متدافعة يغير به حالتها المحايدة ويحيل صمتها صخباً ।





ثم يعود للتحاور مع الورق بالإزالة والإضافة والحذف والكشط والمحو والكرمشة وإعادة الفرد ، ثم إضافة ما يراه من أشكال من أجزاء أخرى لأوراق سبق تمزيقها فتكشف بعض هذه الأداءات وتحجب بعضها فيحدث التناقض الجميل بين المساحة البيضاء الصافية بلا تاريخ وبين المساحة التى اعتملت فوقها كل تلك الأداءات وما تنطق به من قيم بصرية أخاذة ।



وعن طريق إضافاته لأجزاء الورق فى أشكالها المختارة على مساحة اللوحة الأصلية التى يكون قد شغل أجزاء منها بالفعل فإنه يمزج عالمين مختلفين يديرهما الفنان باقتدار فى وحدة واحدة । وقد تكون تلك الأجزاء المضافة تمثل صورة سابقة تم تمزيقها وهدمها شروعاً فى بناء جديد يستطيع أن يفاجئه ، فهو شغوف بمغامرة الهدم والبناء ، يؤمن بأن كل الأشياء والأشكال يمكنها أن تكون على نحو أخر على غير ما اعتدناه ، ويمكن أن يكون لها حياة أخرى أكثر مفاجأة وطرافة وأبلغ شكلاً من حالتها الأولى . من هنا يصبح لكل قصاصة بمعالجتها الخاصة وجودها اللونى والخطى وكأنها جاءت من عالم مختلف فريد فى إيحاءاته وعطائه البصرى ، ويمزج الفنان بين تلك العوالم فى فضاء جديد فيخلق تراكباً بين رؤى عدة فى الطرح الواحد ، أو يسوق عالماً تشكيلياً جديداً داخل عالم تشكيلى أخر فيعطى مستويين للرؤية حافلين بالخيال فهو يرى الواقع لكن من فرضيات لامعقولة .





وعبد السلام عيد لايعتمد كما هو متبع فى تجارب الكولاج الأخرى على ما تضفيه الأوراق الملصقة متعددة الألوان والأشكال من تفاوت فى العطاء البصرى بسبب اختلاف مصادرها أو ما تتيحه من تناقض ينتج عن التقائها غير المتوقع والأبعاد الجديدة التى تنتج عن هذا التلاقى أو الوفاق الغريب الذى قد يخلفه هذا المزيج । لكنه يحقق كل هذا وأكثر بالورقة فقط .





ويحتفى عبد السلام عيد بحياة الورقة و حالات ظهورها وتمثلاتها المختلفة وموسيقاها الخاصة ، وأضوائها التى قد تكون نهارية أو ليلية قمرية ، ضوء خافت موحى ، ضوء قوى مبهر ، ضوء فَرِح ، وضوء شاحب حزين ، ضوء مبهج وضوء غامض كأنما أتى من فتحات مغارة قديمة ، ضؤ متلألىء كانعكاس الشمس على سطح مياه بحر الإسكندرية وقت الغروب ، وضوء نهارى حاد مشرق .

وفى أعمال الكولاج عند عبد السلام كثيراً ما يقتحم اللوحة على غير توقع من الخارج إلى الداخل أشكال غريبة ومجسمات لها امتداد خارج فضاء العمل تعطى إطلالات غير مألوفة ، أو أبنية ذات مناظير مستحيلة و نجد للعمارة حضوراً واضحاً ودلالة حضارية رمزية لممالك تشيد وممالك تنهار ، سفن غارقة وسوارى متكسرة ، زيقورات أثرية ، أبنية ومجسمات لها شكل الأطلال القديمة ، أعمدة محطمة وبوابات مفتوحة على لامتناه ، مراكب راحلة لايتبقى منها غير أشرعتها ، أبراج تنهار فتعكس تآكل الحضارة المعاصرة والتنبؤ بانتهائها لكى تصبح أثراً قديما وفقاً لدورات بزوغ الحضارات واندثارها التى رصدها لنا التاريخ فى درس ينبغى ألا ننساه .



ويحمل عبد السلام تلك الأبنية لأجواء سماوية زرقاء خالية من التفاصيل لكنها مشحونة بعمق وشفافية وفضاء لامتناه ، وأحياناً ما يعطى سمواته لوناً أحمراً دامى الوقع ، أو يمنحها عمقاً سحيقاً مأساوى الطابع أو يحملها على شعاع قزحى متعدد الألوان ... أو يغرقها فى صمت مترقب . إنه يرسم المدينة الخاوية التى بلا روح مرآة العصر الطموح بلا حدود والذى رغم ازدحامه فقد ملىء قلب إنسانه الخوف والإحساس بالعزلة والوحدة . وكثيراً ما يرسم أشكالاً فضائية تهبط بشكل عشوائى ، فضاءات مختلفة متباينة تنفسح لتكشف حروباً نووية ومصائر مجهولة لابد أن نخاف منها .

إحساس عميق بالمأساة والملهاة التى يعيشها الإنسان المعاصر تجعل الفنان يعطى حلولاً مباغتة ويقدم رؤية تنبوئية । إن أعماله فى الكولاج تذكرنا بطوف الميدوزا لجيركو ، ومأسى ديلاكروا ومدن ديكريكو المهجورة ، ومشاهد ترنر التى تمتزج في عواصفها الأرض بالسماء . أنه يقدم تجريداً لكنه حافل بالدراما والرومانسية .




من هنا ندرك أن الفنان لايقدم فقط إمكاناته الفائقة فى الأداء وتقنياته الخاصة بل يعتبرها وسائط يقدم من خلالها فكر جاد ، ولاشك أنه كلما ارتقت لغة الحوار كلما أصبحت الفكرة أشد جلاءً ، ولغة الحوار هنا هى مفردات التشكيل تلك التى خبرها الفنان واجتاز معها رحلة من العمل والمثابرة والبحث منحته تلك الطلاقة فى استجلاء أفكاره وتقديمها بروح مؤثرة . فهناك فكر مواز لكل عمليات الهدم والبناء تلك ، فكر منشغل بقضايا وهموم يلقيها بلغته الخاصة بل ويقدم أحياناً من خلالها إنذارات ونبؤات ، اندحار قيم وبزوغ قيم أخرى ، سقوط وأحداث وعواصف . فهو يتعامل مع الكولاج كخامة تستطيع أن تتفاعل مع الأبعاد الفكرية والإسقاطات النفسية التى يبثها الفنان إليها ، فتمزيق الورقة يعطى إحساساً بالهدم يتوافق مع حالة التناقض التى يعيشها الإنسان المعاصر الذى تتعرض حياته وقيمه لضربات عدة تسقطه أسير صراعات وتناقضات كثيرة تغرقه بها حياته المعاصرة التى قدمت له المعاناة ملتفة برداء الراحة والرفاهية .


عبد السلام عيد لايقدم الكولاج كتجميع وتلصيق لأجزاء وقصاصات متراكبة لكن يقدمه كحياة لعدة صور تتوالد من عشرات الصور الأخرى .

د . أمل نصر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح