وماتزال قضية التجريد على اسطح كل النقاشات / ثريا عامر


وماتزال قضية التجريد على اسطح كل النقاشات

الأعمال المعروضة من تجريد الفنانه التشكيليه آلاء نجم


ثريا عامر
يوم الانين 24/1/2011
Thouria Amer, lundi 24 janvier 2011



تعتبر مشكلة التجريد من المشاكل الفلسفية المعقدة التي لا تنال المساحة الكافية من الجهد الفلسفي للكشف عن الغازه ومضامينه رغم كونه من الأدوات الفلسفية الأساسية في معالجة معظم الإشكالات في مجال نظرية المعرفة والميتافيزقيا وايضا كعنصر أساسي لا يمكن للفلسفة الإستغناء عنه للتعبير عن مفاهيمها وأنساقها بل يمكننا أن نقول إن إستخدام التجريد في الفلسفة اصبح متلازما معها الى درجة يمكننا معها أن نقول عن التجريد مثلما يقال عن الرياضيات بأنها لغة العلم بأن التجريد هو لغة الفلسفة فاللغة الفلسفية ومع التطور الفلسفي وظهور المدارس الفلسفية المختلفة تحولت الى لغة متخصصة يسودها التجريد كما أصبح العلم بدوره ومع تقدم النظريات العلمية يعتمد اكثر فاكثر على ما يبتكره من مفاهيم تجريدية لمواكبة القوانين الأكثر تطورا

والتي لم يعد بالمستطاع التعبير عن مضامينها المعقدة سوى عن طريق معادلات رياضية أكثر تعقيدا وفي الوقت الذي تعد فيه الرياضيات من أكثر التجريدات إبهاما مثلها مثل العديد من المفاهيم الفلسفية الأكثر تجريدا وقبل أن نبدأ بالحديث عما هو التجريد علينا وعلى طريقة اللاهوت السلبي( وكان يستخدم من قبل فلاسفة العصر الوسيط ) الذي يستند على تجريد الذات الألهية من الصفات غير المتناسبة معها كأن نقول بأن الله ليس جسما ماديا مثلا، أن نحدد ماهو ليس بتجريد فالحصان الطائر مثلا ولأننا قادرون على تخيله ليس تجريدا كما يمكننا أن نؤكد أيضا بأن الأشباح ليست تجريدات فالتجريد قبل كل شيء عبارة عن مفهوم يشير الى أحد كيفيات الوجود اختبرناه على نحو ما يتسم بالغموض ويفتقر الى أسلوب الاتصال المباشر معه والغموض هو أحد السمات الأساسية للتجريد كما هو سمة أساسية للوجود الذي نحاول عن طريق بناء تجريدات أن نقترب منه ويكون الجزء الكبير من جهدنا في صياغة التجريدات هو محاولة إزالة هذا الغموض الذي يحيط بالوجود مثلما تحيط القشرة بالثمرة ولكننا كما سنرى في الفقرات اللاحقة بأن التجريد لا يساعد دائما في فك الغاز الوجود لكون بعض التجريدات هي في حد ذاتها ألغازا يعجز العقل الإنساني عن فهم مكنوناتها، فإذن يمكننا أن نضع كل الموجودات التي لها أشكال بما فيها الأشكال المتخيلة سواء كانت تطابق موضوعات في العالم الخارجي أم لا خارج دائرة التجريد فرغم أتسام التجريد بالغموض الا أن هناك حدودا واضحة جدا بينه وبين ما يمتلك الشكل أو الهيئة، ففي الوقت الذي نستطيع فيه بسهولة أن نتخيل الحصان الطائر أو نتوهم باننا أبطال ليست هناك وسيلة لتخيل ماهو المجال المغناطيسي مثلا أو ماهي الفضيلة او ماهو العدم واعني ما هو الشكل الذي يمكننا ان نتخيل فيه هذه المفاهيم الغارقة في التجريد والقدرة على تخيل الحصان الطائر أو تخيل المنضدة التي أكتب عليها عندما أكون بعيدا عنها وعدم القدرة على تخيل المجال المغناطيسي تؤسس الفارق النوعي بينهما .

كان العقل الإنساني وفي مسار تطوره من مرحلة التفكير الحسي الى التفكير التجريدي والذي أستغرق عدة قرون لم يكن يميز دائما بنفس الوضوح بين الألفاظ التي تطابق ماهوحسي ( ويشمل كل ماهو مدرك عن طريق الحواس) والألفاظ التي تطابق ما هو غير حسي اي ماهو عقلي يقتصر وجوده داخل العقل فقط سواء عن طريق الإدراك أو التخيل أو التذكر والإشكال المعرفي الأول الذي واجهه المفكرون هو كيفية التمييز بين لفظة دالة على ما هو مدرك حسي وبين لفظة دالة على ما هو مدرك عقلي وهذا التمييز بين المدرك الحسي والمدرك العقلي كانت الخطوة الأولى نحو التفكير التجريدي دون أن يكون الهدف تأسيس التجريد وإنما تأسيس نظرية في المعرفة ولكن التفكير التجريدي بدأ يخترق أفاق التفكير الإنساني وتحول إلى أداة لا يمكن الاستغناء عنها طالما كانت القضية متعلقة بنمطين مختلفين من الوجود أي كيف نميز بين لفظة المنضدة الدالة على منضدة حقيقية توجد أمامنا بشكل مباشر وبين لفظة المنضدة الدالة على المعنى العام كأن نقول المنضدة من إختراع الأنسان كما نقول الطائرات من إختراع البشر و بين منضدة نتخيلها ذات أجنحة .

تعني كلمة التجريد من الناحية اللغوية إنتزاع صفة أو شيء من شخص ما كأن نقول،جرده من أسلحته أو تم تجريده من أملاكه وهذا شطر من معنى التجريد مقابل الشطر الأخر عندما نقول عن شخص ما أنه مجرد من الضمير أو من الأخلاق ونعني أنه لايمتلك الضمير أو الأخلاق ولكن ليس بصفة ان هناك ملكية يفتقدها أو بددها بل نعني أن هناك صفة يفتقر اليها وهي منزوعة عنه وكلتا الجملتين متطابقتان بالمعنى ولكنهما مختلفتان في المادة فالإنتزاع يستوي بالنسبة لما هو موضوع مادي وما هو غير مادي، ولكن التجريد بمعناه اللغوي بعيد جدا عما يعنيه في العملية العقلية للوصول الى مفهوم مجرد، وهذا الأختلاف في المعنى اللغوي بسبب تداخل مسلكين مختلفين يبدو أوضح في اللغة الإنكليزية بسبب إستخدام كلمتين مستقلتين للتعبير عن نشاطين مختلفين فلفظة abstract و تعني تجريد الشيء من صفاته المادية أو من ملامحه الظاهرة للوصول الى ما سيبقى يرمزاليه والأسم منه هو abstraction مقابل عدة كلمات تعني ينتزع مثل deprive أو divest ولكن شفافية اللغة العربية تجعل من السهولة التمييز بين التجريد العقلي والتجريد بمعنى الإنتزاع رغم إن التجريد العقلي يتضمن شيئا من المعنى الثاني ولكن في سياق مختلف، ففي التجريد العقلي هناك إنتزاع متواصل لبعض الصفات والضروي لبناء مفاهيم لايمكن الإستغناء عنها في إنشاء لغة فلسفية سليمة ويكون عادة الخطوة الأولى لبناء تلك المفاهيم.

بعد إنتصار الثورة الكوبية وفي أول خطاب له يوضح فيه منهجه الثوري ذكر كاسترو بأنه ومع الشعب الكوبي سيشرع في بناء الأشتراكية ودون أن يضحي بالجيل الحالي من أجل الاجيال القادمة وقال بأن التضحية بالأجيال الحالية من أجل الأجيال القادمة هي نوع من التجريد وقد أدرك جميع المراقبين وخصوصا في موسكو مغزى هذه الكلمات، فهي على نحو ما كانت ردا على كلمات لينين بعد إنتصار ثورة أوكتوبر بأن الأجيال الحالية سوف لن تستفيد من ثمار الثورة مثلما ستفعل الأجيال القادمة وقد وضح كاسترو بكلمات بسيطة عن مدى خطورة التضحية بالأجيال الحالية والتي ترتقي الى مستوى التجريد وكانت تعني لديه تماما التجرد من النزعة الأنسانية (أي تجريد الأنسان من إنسانيته )التي بواسطتها تبرر الثورات نفسها، فالتجريد الذي يعتبر من أهم أدوات الفلسفة لتجعل نفسها مفهومة على الأقل من قبل الجمهور الفلسفي تحف به المخاطر من كل جانب في الوقوع في شرك التجرد من الإنغمار في مشاكل البشر الحقيقية والإنغماس في مشاكل وهمية حيث تعتبر منطقة التجريد اكثر أجزاء العقل هشاشة لإرتكاب أبشع ألأخطاء من خلال خلق مشاكل وهمية تضاف الى الأعباء الثقيلة للمشاكل الحقيقية وسوف نحاول في هذا المقال أن نعني بما حققه التجريد من منجزات في مجال نظرية المعرفة ودون الدور السلبي الذي لعبه أحيانا ليس بسبب نزوات بعض الفلاسفة بل بسبب محاولتهم تغطية الحقيقي بما هو وهمي عندما كان الوهمي وفي ظروف تأريخية معينة يخدم مصالح الطبقات الحاكمة. يميل العقل الإنساني وبسبب النشاطات المستمرة للحواس الى التفكير بما هو محسوس وواقعي بأشكالها المنظورة وبالمصطلح الفلسفي بما هو عيني والذي يعني حرفيا ما هو مرئي ومحسوس والعيني هو نقيض المجرد والخطوة الأولى في التفكير الأنساني يبدأ بما هو عيني ومحسوس وهو مستوى ساذج من التفكير وبسبب سهولته يقتصر مستوى التفكير لدى غالبية البشر على هذا المستوى وحتى أشد المفاهيم حاجة الى التجريد بسبب ماتضفيه هذه الغالبية أحيانا من قداسة عليها سواء كانت قوى طبيعية أو شخصيات أسطورية يتم ترسيمها بواسطة الخيال بصور مرئية كما يتم تخيل أشكال أكثر الشخصيات قدسية مثل الألهة اليونانية أو القديسين في المسيحية أو بعض الشخصيات في الأسلام بصور متخيلة إذا لم نرد أن نذكر الأعمال البطولية التي تعزى اليها، فالتفكير إنطلاقا من المحسوسات هي إذن الخطوة الأولى من نشاط العقل للوصول الى الفهم وكانت لهذه الخطوة وبسبب سهولتها ومباشريتها تأثيرات كبيرة على ظهور اللغات القديمة التي كانت في غالبها لغات تصويرية تعتمد على صور الأشياء التي يراد التعبير عنها وهذه المرحلة البدائية من اللغة كانت مرحلة أساسية لتطور اللغات الى أشكال أكثر تعقيدا تتناسب مع المستويات العليا من التفكير التي تعتمد على التجريد. وسوف نبدأ بنموذج مثالي من التجريد أستخدم في الحقول الثلاثة الأساسية للمعرفة، الدين والعلم والفلسفة ونعني به اللامتناهي. كان أنكسيمندر الذي يصنف من ضمن الفلاسفة ما قبل سقراط أول من أستخدم التجريد في مجال الفلسفة، فمن المعروف أن طاليس أول الفلاسفة ينسب اليه كما يقول لنا المؤرخون بأنه ذكر بأن أصل الكون هو الماء أما أنكسيمندر فقد جاء بفكرة غريبة وهي فكرة أن أصل الكون هو الأبيرون أي اللامتناهي في الزمان والمكان ومرت الفكرة في حينها مرور الكرام حيث تابع بقية الفلاسفة ذكر مصادر أخرى بدلا من الماء، ويثير هذا الظهورالمبكر للامتناهي أشكالات عديدة في تأريخ الفلسفة حيث يظهر اللامتناهي فجأة دون مقدمات ثم يختفي لقرون بعكس ما حدث في حقل الأديان حيث نلاحظ أن هناك تطور متسق في ظهور فكرة اللامتناهي، كانت الديانات القديمة بما فيها اليهودية ديانات شخصانية تتمثل الإله كشخص ذو سلطة وقوة هائلة ولكنها لم تتمثله أبدا كقوة لامتناهية وهكذا كانت شخصية الإله في الديانات القديمة ضائعة بين تصورات مختلفة تعتمد على المجموعات البشرية التي تضع العقائد المختلفة ولكنها كانت دائما ذات شكل متخيل ومع مجيئ المسيحية توضحت صورة ودورالإله أكثر وفي نفس الوقت أصبحت أكثر تجريدا أما مع مجيئ الأسلام أصبحت صورة الله ودوره أكثر وضوحا وبالتالي أكثر تجريدا بل يمكننا أن نقول أكثر تجريدا من أي وقت مضى، ففي الدين الإسلامي وصلت فكرة الله الى ذروة التجريد، فهو اللامتناهي القدرة واللامتناهي في الزمان والمكان، أما الكوسمولجيا فقد شهدت هي الأخرى تطورا متوازيا حيث أستغرق الأنتقال من تصورات الميثولوجيا القديمة حول الكون إلى نظرية بطليموس ثم إلى نظرية كوبرنيكوس عدة قرون وإستنادا الى الإكتشافات الحديثة فإن الكوسمولوجيا الحديثة ترى بأن الكون نفسه لامتناهي وكما توصل الفيلسوف البريطاني برتراند رسل ومن خلال دراسته لإصول الرياضيات وبتمييزه بين العدد والتعدد (العدد رقم ثلاثة مثلا مقابل ثلاث معدودات مثل ثلاث تفاحات)الى أن هناك أشياء لامتناهية في الكون مادامت الأعداد نفسها لا متناهية أما ديكارت فهو أول فيلسوف يشير الى اللامتناهي بصورة واضحة وصريحة عندما يقسم الجوهر الى جوهر متناهي وينقسم بدوره الى جوهر مفكر وجوهر ممتد وجوهر لامتناهي هو الله أما الفيلسوف الألماني هيجل فيرى بأن الأنسانية مقابل الفرد المتناهي هي لامتناهية فالفرد زائل والأنسانية أزلية. إذن يمكننا القول بأن العقل الإنساني شهد بزوغ أربعة أنواع من اللامتناهي الله، الكون،الأعداد وأخيرا الأنسانية والأخيران يتميزان بالتسلسل اللامتناهي الذي لايقف عند حد معين، فالانسانية مستمرة بالتوالد والأعداد بالأضافة والعقل الأنساني لايمتلك سوى الأقرار بوصف هذين النمطين من اللاتناهي بانهما أستمرار الى ما لانهاية أي دون أن يكون هناك حد في الزمان وهذا هو حدوده ويتعرف عليهما من خلال بعض مظاهرهما المدركة عقليا أما بالنسبة للطبيعة فهي أمتداد الى ما لانهاية دون أن يكون هناك حد في المكان ونتعرف أيضا على بعض مظاهرها من خلال الإدراك العقلي ولكننا نشعر بالإخفاق عندما نحاول التفكير بحدود الكون وقد أكتفى العقل الإنساني بقبول هذه النتائج بعد أن أدرك الأغلال التي تحيط بقدراته ..كان غموض العلاقة بين المدرك الحسي والمدرك العقلي الدافع الأساسي لاكتشاف الكليات التي تعتبر من التجريدات المهمة في مجال التفكير الفلسفي، ففي مقابل الموجود الفردي مثل هذه المنضدة أو هذه الشجرة هناك المعنى العام أو الوجود العام للمنضدة أو الشجرة وكان أفلاطون أول من تعرض لهذه المشكلة وحاول حلها عن طريق نظرية المثل، في نظر أفلاطون هناك مثال لكل الموجودات الفردية يتميز بالثبات من حيث كونه لايخضع لأي تغيير والكمال من حيث كونه يمتلك كل الصفات التي ربما يفتقد الموجود الفردي بعضا منها، والمثل موجودة في عالم أزلي لا يخضع هو الأخر لأي تغيير وكانت نظرية المثل هي الحل الذي ابتكرته المثالية لحل مشكلة العلاقة بين المدرك الحسي والمدرك العقلي ولا يعنينا هنا أن نخوض في تفاصيل نظرية المثل بقدر ما يعنينا الكلي في كونه من التجريدات الأساسية في الفلسفة، الكلي إبتداء هو لفظ دال على مجموعة من الموجودات تصنف في كونها من نفس النوع أو نفس الجنس، فعلى سبيل المثال البرتقالة ثمرة توجد كأفراد وجميع البرتقالات تدرج تحت اسم البرتقال هو لفظ دال على نوع ثمرة معينة والبرتقال يمكن إدراجه تحت لفظ أعم هو الثمرة التي تشمل بقية أنواع الثمار مثل التفاح والموز والكمثرى والثمرة بدورها يمكن إدراجها ضمن لفظ أعم هو النبات فجميع الثمار هي من صنف النبات، فهل توجد لدينا ثلاث كليات هي على التوالي البرتقال،الثمار،النبات، الإجابة طبعا هي نعم هناك ثلاث كليات، كلية أصلية هي النبات وكليتان فرعيتان هما الثمرة والبرتقال وهذه الطريقة في الوصول إلى التجريدات الثلاثة أي الانتقال من الخاص أو الفردي إلى العام هي نفس الطريقة للوصول إلى بقية التجريدات المتعلقة ببقية الموجودات وهذه الكليات كما نعرف ألان بالبداهة، توجد في عقولنا فقط ولكن أفلاطون كان يرى بأن لفظة البرتقال كوجود كلي له ما يناظره في عالم المثل هو مثال البرتقال والثمرة كوجود كلي له ما يناظره في عالم المثل وهكذا بالنسبة لبقية الموجودات وقد أحدثت نظرية أفلاطون إرباكا كبيرا في مجال نظرية المعرفة لم ينته سوى على يد الأسكولائيين في العصر الوسيط بنظرية الاسمية التي تقول بأن الكليات ليست سوى أسماء لا يوجد ما يناظرها في أي عالم أخر مفارق لهذا العالم، والكليات تستخدم على نطاق واسع في الدراسات الفلسفية والأبحاث العلمية، فالمجال سواء كان مغناطيسيا أو داخل نواة الذرة هو تجريد ينطبق على مفهوم عام يشير إلى ظاهرة طبيعية مثلما تشير لفظة الخير أو الفضيلة إلى سلوك تم استقراؤه عبر ألاف المسالك وخلال مئات من السنين ويساعدنا الكلي لفهم بعض مظاهر الوجود بينما يتقدم العقل الإنساني بخطواته البطيئة للوصول إلى فهم شامل ودقيق عن الوجود، سنخصص بقية المقال للحديث عن أهم تجريدين في تأريخ الفلسفة هما الوجود والعدم، كان الوجود جوهرة الفكر الفلسفي القديم أما العدم فهو جوهرة الفلسفة الحديثة بعد أن منحها نيتشه الامتيازات التي ستتمتع بها في القرون القادمة ..

في كتاب المنطق الكبير يقول هيجل بأن الوجود والعدم تجريدان خاويان وأحدهما خاو مثل الأخر، ويمكننا أن نفهم من هذه العبارة بأن الوجود والعدم خاويان من المحتوى أو من المعنى أو من كلاهما والخواء هنا ملازم لهما باعتبارهما تجريدين ويمكننا أن نفهم خواء العدم ربما بمعنى الفراغ الذي يتخلل الوجود كالفراغ داخل الذرة حيث تدور الالكترونات حول النواة أو الفراغ غير المنظور في حياتي عندما لا يكون لحياتي معنى أو تكون بدون هدف ولكننا نواجه صعوبة في فهم خواء الوجود فإذا كنا نشبه العدم بالفراغ مجازا فبماذا نشبه خواء الوجود، هل هو خواء من المعنى كما يقول سارتر أي ليس هناك أي تبرير للوجود،أم هو خواء الآنية التي يحيط بها العدم من كل الجهات كما لدى هيدجر؟، فلماذا يوجد الوجود وهذا يذكرنا بسؤال لايبنز لم كان الوجود ولم يكن العدم وهو سؤال يعتبر طفرة نوعية قياسا الى سؤال أرسطو والذي تأسست الميتافيزيقيا في المحاولة للإجابة عليه، ما هو الوجود بما هو وجود، إذن علينا أن نستنطق عبارة هيجل بالمزيد من المعاني، ونتساءل هل العدم المجرد يتساوى من حيث المعنى مع الوجود المجرد ولا يتساويان من حيث القيمة أم أن الوجود والعدم متطابقان ذاتيا أي هناك تطابق في الهوية، ولكننا نعرف وفق منطق أرسطو بأن قانون الذاتية يقول بأن أ هو أ ولا يمكن أن يكون( أ) و(ب) في أن واحد فالوجود هو الوجود ولا يمكن أن يكون وجودا وعدما في أن واحد ولا يمكن لفيلسوف عملاق مثل هيجل أن يتجاهل أحد القوانين الأساسية للمنطق، إذن لابد هناك تفسير أخر للعبارة، إن الوجود والعدم رغم كونهما تجريدان فهما نقيضان وأحدهما نقيض للآخر وهما بهذه الصورة يشكلان مرحلة من الديالكتيك لبلوغ المطلق وهو تجريد أخر لا يقل صعوبة عن بقية التجريدات ومعارضة الاعتراف به أدت إلى ظهور الوجودية فكيركغارد مثلا كان يعارض المطلق بالذات التي تحمل عبء الوجود واليسار الهيغلي كان يرى في المطلق اغترابا عن الوجود الذي ينبغي استعادته في حضن الوجود وليس بعيدا عنه إذن لا يمكننا أن ننظر إلى الوجود والعدم باعتبارهما لحظتان من الديالكتيك فالوجود كما يقول سارتر بحق في الوجود والعدم بأن الوجود هو والعدم ليس هو وسبيلنا إلى الوجود كما أثبتت الظاهراتية هو الظاهرة التي تتجلى في سلسلة من الظواهر أمام الوعي وإذا كان هذا هو حال سبيلنا إلى الوجود فما هو سبيلنا إلى العدم ؟كان اسبينيوزا أول من قال بأن كل تحديد هو سلب أي عندما نقول هذه منضدة نكون قد قمنا بسلب الموجود الماثل أمامنا من بقية أشكال الوجود ولكن ماذا يتضمن السلب إلى جانب التحديد، يقول سارتر وعلى خطى هيدجر بأننا محاطون بالسلوبات في كل مكان ويورد مثالا على السلب بقوله عندما أدخل يدي في جيبي للبحث عن المائة فرنك التي أحتفظ بها لا أجد سوى ثمانين فرنك أو عندما أدخل المقهى بحثا عن بطرس لا أجده، فهذا الغياب ما هو الا شكل من السلوبات الكثيرة التي نكتشفها من خلال سلوكنا في العالم ولكن من أين جاء هذا السلب، وما هو مصدره، عندما أقرر أن أكون مهندسا بدلا من أكون طبيبا، أين تنتهي إمكانية الطبيب التي ألغيتها،عندما أحدد نفسي أن أكون مهندسا أكون قد ألغيت بقية الإمكانات وسلبتها عن ذاتي فأين انتهت تلك الإمكانات، وقد أثار فرويد قضية مشابهة ولكن في مجال أخر ولهدف أخر، فعندما وخلال حديثي عن نجوم السينما أحاول أن أذكر أسم ممثل بعينه فلا أتذكره وأحاول جاهدا أن أتذكره لأثبت سعة إطلاعي في مجال ألأفلام ولكن دون جدوى وبعد ساعات طويلة أو ربما بعد أيام أتذكر أسم الممثل فجأة ودون الرجوع إلى أي مصدر، يبزغ الاسم في ذاكرتي بكل وضوح، فأين كان الأسم طوال هذه الفترة، يجيب فرويد ببساطة أنه كان في اللاوعي، يرى سارتر بأن بين الوجود لذاته وإمكاناته هوة يسميها العدم والوجود لذاته يمارس الحرية بسبب هذا العدم بالذات فالعدم كما يقول هيدجر هو أصل السلب في العالم بل يذهب هيدجر إلى منح العدم فاعلية أكثر من الوجود حيث أن العدم يزيح الوجود والوجود لا يزيح العدم لأنه معدوم، يعتبر نيتشه مؤسس العدمية كفلسفة وكسلوك أنساني والعدمية تعني ببساطة تفريغ القيم من محتواها أي من القيم التي تحويها أما هيدجر فهو الذي منحها البعد الأنطولوجي، في رواية الأخوة كرامازوف يقول إيفان (إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مسموح) أي أستطيع اقتراف أية جريمة دون أن أكون قد اخترقت أي نظام للقيم ولكن لأن الله موجود لا يمكن لي سوى الالتزام بنظام القيم الموضوع من قبله وخرق هذا النظام هو الذي يمنح الجريمة هويتها، فالله في الديانةالأرثذوكسية التي كان يتبناها دوستوفسكي كما في بقية الأديان هو مصدر القيم ويمكننا أن نتخيل نيتشه بعد إعلانه موت الله، يرد على دستوفسكي بالعبارة التالية (لأن الله غير موجود فكل شيء غير مسموح )لان ليس هناك نظام قيم يمكننا الاستناد عليه في سلوكنا وهذا يعني الشروع في بناء نظام جديد للقيم كبديل عن القيم التي تحطمت مع موت الله ولكن وبسبب إخلاص نيتشه لعدميته فإنه اكتفى بتأسيس العدمية وترك الفرصة لخلفائه لبناء مثل هذا النظام وعندما واجه هيدجر هذه المهمة لاحظ بأن الإنسان لا يمكنه أن يحافظ على أي نظام من القيم بعد أن خاطر بخسران القيم المجزية (وهي تلك القيم التي توعد بالخلود في حالة الالتزام بها ) فإذا كان الإنسان يخاطر وبشكل مستمر ومن خلال عدم التزامه بنظام القيم الموضوعة من قبل الله بخسران الخلود فكيف يتسنى له الالتزام بقيم غير مجزية، إذن المهمة بالنسبة لهيدجر سوف لن تكون تأسيس نظام قيم مثلما تكون في منح العدم أساسه الأنطولوجي والعدمية شرعيتها التي تتمتع بها في عالم اليوم من خلال تأكيده بأن وجود الآنية هو وجود من أجل الموت وأن العدم يزيح الوجود بينما لا يزيح الوجود العدم، ربما كان القرن العشرين أشد القرون تجريدا لأنه كان أشد القرون عدمية من خلال بشاعة التضحية بأجيال تلو الأجيال في الحروب والمجازر والإبادة الجماعية، فالعدمية إذن هي أشد التجريدات أصالة لأنها تكشف عن الوجه الحقيقي للإنسان،الصانع للموت الذي يفر منه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)