عندما تغني النخلة - قصة قصيرة / سوزان سامي جميل
عندما تغني النخلة - قصة قصيرة
سوزان سامي جميل
18/09/2011
قبالة شاطئ مغروسة على ضفافه أشجار النخيل المتدلية فروعها بالتمر، افترش الرمل الدافئ . تمتع بنعومة ملمسه . دغدغته أشعة الشمس الهاربة وراء التلال. نسمات من عبير خريف فضي تسللت الى رئتيه لتملآنهما بهواء منعش. جاءه صوت كشدو البلبل. أصاخ سمعه لبرهة. الصوت يعلو بغناء غريب مصحوب بنحيب. بحث بعينيه عن مصدر الصوت . لم يكن في المكان مايوحي بوجود انسان، لكنه صوت انثوي جميل. قرر اقتفاء أثر الصوت ؛ انه يرتفع كلما اقترب من تلك النخلة الباسقة الواقفة بشموخ هناك. انها تغني ؛ نخلة تغني ؟: تساءل مع نفسه. أوتار صوتها الفردوسي سادت على كل الأصوات الحيّة . تنهداتٌ ترافق الغناء. ياإلهي ، إنها تنتحب ! لكن غناءها يغري بالرقص: ناجته نفسه . تفاعلت أحاسيسه مع إيقاع صوتها، فقفز راقصاً على أنغام أغنيتها بينما يرتفع صوتها حيناً وينخفض كالهمس حيناً آخراً. رفع إحدى قدميه عالياً ثم هبط بالأُخرى على الرمل كحصان مأخوذ بناي عازف بارع. دار بجسده حول نقطة على الرمل افتعلها هو لدائرته الوهمية. مدَّ ذراعيّه بتناوب نحو اليمين واليسار في حركات راقص باليه محترف. انحنى الى الاسفل واستقام بتمايل للأعلى . تبختر بخطوات الى الامام والى الخلف حتى أحس بجسده خفيفاً يسابق الريح ليبدأ بالطيران . خارتْ قواه فرمى بجسده على الرمل المبعثر جراء خطواته الراقصة.
دوى صوت تصفيق حاد من الجمع المنتشر على ضفاف النهر. استغرب لأنه لم يشعر بهم أو يراهم يلتفون حوله تدريجياً مأخوذين برقصه الساحر . اقترب منه أحدهم ليسأله : كيف ترقص بتناغم هكذا دون موسيقى أو غناء ؟ اكتفى بالتحديق في وجه السائل . استغرب وكبت رغبة واتته للصياح. النخلة لازالت تشدو لكنه منهك القوى. تجاهل وجود الآخرين وبدأ يدفع الرمل بيديه على جسده كمن يدفن نفسه.
ارتفع غناء النخلة مصحوباً ببكاء رضيع. أصغى الى الصوت. أتراه صوت نخلة أخرى؟: حاورته نفسه. نفض الرمل عن جسده. نهض ليبحث عن الصوت. ابتعد قليلاً ثم كثيراً فوجد بين النخيل امرأة ممددة ، مزرقة الجسد ؛عليها لباس فضفاض زاهي الألوان كحال النساء في حلبجة ورضيعها ملقى الى جانبها يبكي والحلمة المزرقة في فمه. تأمل الرضيع .التقت عيناهما. ابتسم له فتوقف هذا عن النشيج. رفعه بهدوء. مسح دموعه. قبله في خده . ففتح الرضيع فمه بحركة تلقائية نحو الجهتين باحثاً عن الحليب.
لازال بعض المصفقين ماكثاً في مكانه في انتظار رقصة أخرى. قدم اليهم حاملا الرضيع بين ذراعيه، صاح بهم لاهثاً: انظروا الى جمال هذا الطفل. انه يبتسم. هيا قبّلوه. تعالت الضحكات بينهم. سأله صوت: أي طفل تعني؟ فأجاب آخر : أنه ممثل بارع ، يتقن أداء الدور. صرخ بهم : ألا تروني أحمله ؟ مابالكم ، هل عميتم؟ أم أنكم تتجاهلونه ؟ ضم الرضيع الى حضنه ، رقص به. رفعه الى الهواء. النخلة لازالت تغني . أسرع بحركاته الراقصة. ضحك الوليد. ازداد ضحكاً ظل يضحك ويضحك حتى انبثق نورٌ من السماء أحاله الى يمامة بيضاء حلقت عالياً فوق رأسه. ابتعدتْ اليمامة وهو لازال يرقص ويدور حول نفسه . النخلة لازالت تغني . ظل يرقص ويرقص حتى انفرجت الأرض عن شق كبير. ابتلعه الشق. انزلق إلى رحم الأرض . ثمة آخرون يرقصون في الجوف. عانقهم، الواحد تلو الآخر. لماذا ومنذ متى أنتم هنا ؟: سألهم فضوله . اكتفوا بالنظر اليه وتابعوا رقصهم الغريب. النخلة لازالت تغني . ابتلع الشق راقصين آخرين . امتلأ الجوف (مكرهاً ) بهم، وأحبَّتهم فوق الأرض لازالوا ينتظرون عودتهم من مقابر جماعية مجهولة الأمكنة.
سوزان سامي جميل
تعليقات
إرسال تعليق