عبارة " صوت من السماء " مصطلح مسيحي الأصل والمصريون أحسن مَن رتلوا القرآن بزخم من أصوات ملونة كثيرة / عبد الباقي قربوعه*




عبارة " صوت من السماء " مصطلح مسيحي الأصل والمصريون أحسن مَن رتلوا القرآن بزخم من أصوات ملونة كثيرة / عبد الباقي قربوعه*


كثيرا ما يوصف من يرتل القرآن بصوت جميل بأنه صوت من السماء، فيقبل على نفسه ذلك وينسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من تغنى بالقرآن ومع ذلك لم يَرِد في الأثر أن صوته من السماء. والمصريون أفضل مّن رتلوا القرآن بزخم من أصوات ملونة كثيرة، خلاف ما يُشار إليه بكل هذه الضخامة في صوت السديس، المروجون لهذا الرأي لم يحسنوا توفير فسحة من التريث والتأني للانتهاء برأي يخدم الدعوة الإسلامية بشكل موضوعي، بدليل أن هذه الحملة المندفعة تتزامن دائما مع شهر رمضان المعظم، مما يؤكد أن هذه الآراء محاطة بعدة ضغوطات نفسية أكثر منها روحية للعقل ارتباط في إبدائها! ، فالسامع الذي تختلط عليه مشاعر شعائر الحج، ومشاعر الابتهال برمضان المعظم بما يشمله من صلاة تراويح التي أخذت هذه الأيام أهمية أكثر من صلاة الجمعة، ومن جهة المدة الزمنية للصوم المحصورة في شهر، مما يفضي أحاسيس متدافعة ومتراكمة مزدحمة، ومن جهة أخرى مخاض التنصل من تراكم الذنوب المفترضة، أضف إلى ذلك قداسة المكان وبعد المسافة لأغلب الوافدين إلى مكة لأداء فريضة الحج، فهي فرصة عظيمة تنقضي بفوات الثلاثين يوما، فكل ذلك مجتمعا يدفع صاحب الرأي إلى عدم الانتقاص من المناسبة شيئا، حتى صار البكاء وراء السديس شعيرة من شعائر الحج.
السديس وُصف صوته بأنه من السماء، فأعجب بهذا وشكر الصحافي الذي أدار معه الحوار في إحدى الجرائد، ماذا يعني الواصف بعبارة " من السماء ؟" هل يعني أنه من الغيب؟ في العقيدة أن الإيمان بكتب الله وحيا من الغيب: (إِنْ هو إلاّ وَحْيٌ يوُحَى)، ولا صوت يعلو على صوت جبريل في الغيب (السماء) وفي الأرض، كما لا صوت يعلو على صوت محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض كإنسان، ولا في السماء أيضا كإمام للأنبياء، وقصة الإسراء والمعراج معروفة. ومن جملة ما كان الرسول مطالبا بالتحلي به الصوت الحسن كأداة من أدوات نشر القرآن وتحفيظه، وكحكمة أيضا تقتضيها فلسفة الدعوة الØ! �سلامية قال تعالى:(.. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..) ، ولعلّ الصوت الحسن حالة من حالات الابتعاد في تلاوة القرآن عن صفة الغلظة، ونلاحظ أن الناس ينفضون من حول القارئ إذا كان صوته قبيحا، والانصراف ليس فقط بالشكل في أن يغادر المرء الذكر جسدا، وإنما الانصراف يعني أيضا نفوره عقلا بما يتطلبه الموقف من إنصات وتأمل وتتدبر، ومن بلاغة الرسالة الإسلامية أن يندرج صوت النبي صلى الله عليه وسلم ضمن صفاته الخُلُقية والخَلْقية كالصدق والأمانة ولا يمكن أن نقول أنه من السماء، فإذا عملنا بذلك تدرجنا نحو نفي أن النبي عليه Ø! �لصلاة والسلام بشر مثلنا كما هو ثاØ! �ت في الكثير من الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية الشريفة.
فهل أُوحى الله الصوتَ للسديس ولآخرين غيره؟ أليست هذه المسألة التي تواطأ فيها الواصف والموصوف ثغرة خطيرة للإدعاء بنبوة الصوت؟ والعبارة نفسها تفتح جدلا كبيرا وتثير أسئلة كثيرة وخطيرة، هل هذه الأصوات جاءت وحيا من الغيب (السماء) مباشرة، أم أن ملكا منزلا أوحى له هذا الصوت؟ أم أن هذا يدخل كله في سياق الغلو في الدين، والخلط بين ما هو روحي وبين ما هو انفعالي طربي لا يخرج عن نطاق النشوة التي تشتهيها النفس ولا تتوافق مع ما تصبو إليه الروح كما يريدها الدين الإسلامي.
عبارة "صوت من السماء" هي عبارة مستعملة كثيرا في الفكر المسيحي؟
وكتاب " قانون الإيمان " للبابة شنودة الثالث يشرح عبارة (نزل من السماء) يقول: (ليس أحد صعد إلي السماء، إلا الذي نزل من السماء: ابن الإنسان الذي هو في السماء".
ويعلل: (.. سكناه في السماء أولا، دليل على لاهوته.)، وفي الأرض يواصل تعليله: (.. أي تنازل أخذ شكل العبد، وصار في الهيئة كإنسان..) وفي ضبط الحالتين حالة السماء (المصدر) وحالة الأرض (هدي البشر) يواصل البابا شنودة الثالث في كتابه "قانون الإيمان" شرح عبارة "نزل من السماء": (.. تعني إخلاءه لذاته من ناحية، وظهوره لنا من ناحية أخرى.).
ولو أنه يُفترض أن يُنزل الله صوتا من السماء ثم يهبه إلى أي بشر سواء قي قراءة القرآن أو في الخطاب الدعوي العام، لالتمسنا الدليل على ذلك في القرآن الكريم، نقرأ في قوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم3/4.
وفي مجال الصوتيات الطبيعية التي يشير الله فيها إلى مظاهر الكون لم يشر إلى أن هناك صوت يمكن أن يُبعث من جوف الإنسان سيان كان حسنا أم قبيحا، وفي السُّنة ورد ضرورة الاجتهاد في التغني بالقرآن: (تغنوا بالقرآن..) والتغني بالقرآن نِسبٌ ودرجات، وليس الذي يتغنى بدرجة أقل من حيث حُسن الصوت أن ليس له أجر التغني.
لأجل كل ذلك وجب رد هذا الوصف لما يمكن أن ينتاب القارئ من خطأ أو ارتباك، لأن القراء من دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينطقون عن الهوى، وجاز أن يُضاف الصوت الحسن في تلاوة القرآن إلى منحى من مناحي الحكمة فيما يتعلق بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما هو معروف، والحكمة سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الجمعة: 2
ـــــــــــــــــــ
عبد الباقي قربوعه
روائي وكاتب جزائري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي