العمق المنهجي في: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا / د. جميل حمداوي


الدكتور: جميل حمداوي يحصل على جائزة الإبداع لموسم 2011م في النقد والدراسات الأدبية




حصل الدكتور جميل حمداوي ( إبن مدينة الدريوش ) على جائزة الإبداع لموسم 2011م في النقد والدراسات الأدبية، تلك الجائزة التي تسلمها مؤسسة المثقف العربي بأستراليا للمبدعين والمفكرين المتميزين .
وبهاته المناسبة نتقدم باحر التهاني للدكتور ّ جميل حمداوي" ومزيدا من التوفيق
والنجاح

३४" href="http://driouch24.net/index.php?news=http://driouch24.net/index.php?news=३४
نتمنى للدكتور كل الصحة ودوام العافية لاثراء مكتبتنا وذاكراتنا الابداعية التشكيلية في شتى الميادين الفنية / بوكرش محمد
ـــــــــــــــ



العمق المنهجي في: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا / جميل حمداوي

توطئة: يعتبر كتاب:" شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا" للباحث التونسي عبد الدائم السلامي من أهم الكتب النقدية التطبيقية التي قاربت القصة القصيرة جدا في ضوء علم السرديات।
وقد ركز عبد الدائم السلامي على القصة القصيرة جدا في المغرب، من خلال مجموعة :" الكرسي الأزرق" لعبد الله المتقي، ومجموعة :"مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري. وتعد هذه الدراسة – في رأيي- أعمق ما كتب إلى يومنا هذا في مجال القصة القصيرة جدا؛ لأنها تغلغلت بشكل جيد في ثنايا القصة القصيرة جدا، واستطاعت استقراءها سبرا وغورا وتقسيما، وذلك من أجل الوصول إلى خبايا هذا الجنس الأدبي الجديد، بغية تبيان المميزات التي تنماز بها شعرية القصة القصيرة جدا في المغرب، وذلك في علاقتها بواقع المعنى أو معنى الواقع .
وإذا كان الدارسون قد انكبوا على دراسة الواقع في ضوء منهجية الانعكاس كما عند جورج لوكاش مثلا، أو في ضوء نظرية التماثل كما عند لوسيان كولدمان مثلا، أو في ضوء أسلوبية اللغة والأسلوب كما عند ميخائيل باختين، فإن عبد الدائم السلامي يدرس الواقع في ضوء الشعرية أو البويطيقا (poétique)، أو ما يسمى كذلك بالبنيوية السردية، حيث يسائل القصة والخطاب من أجل اقتناص المعنى الواقعي أو تصيد واقع المعنى. وبهذا، تكون هذه الدراسة الأولى من نوعها في العالم العربي عمقا، وحداثة، وتجديدا، ودقة، وتجريبا، وتركيزا، وطرحا للأسئلة الجوهرية المؤرقة.

1- المنهج النقدي في التعامل مع المتن المدروس:
يتبنى عبد الدائم السلامي في دراسته القيمة: " شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا" البنيوية السردية التي تدرس الخطاب في علاقة بالقصة، حيث يركز الباحث في تعامله مع قصص عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري على مجموعة من المكونات البنيوية السردية، كالأحداث، والشخصيات، والفضاء، والوصف، والمنظور السردي، والزمن السردي. ولكنه يغفل عنصرا بنيويا أولاه جيرارجنيت (Gérard Génette) أهمية كبرى، ألا وهو عنصر الصيغة( (Mode. ويقصد به الأسلوب واللغة. وقد استلهم الدارس في هذه الدراسة القيمة والعميقة آراء البنيويين السرديين، والشكلانيين الروس، والسيميائيين، كما عند تودوروف، وفيليب هامون، ورولان بارت، وطوماشفسكي، وجيرار جنيت، وألان روب غرييه، وجان ريكاردو. كما استفاد من بعض النقاد العرب الحداثيين، مثل: حميد لحمداني، وصلاح فضل، وحماد صمود، ومحمد الباردي، والصادق قسومة، ومحمد برادة. بيد أن الدارس لم يقارب القصة القصيرة جدا في ضوء منهجيتها الخاصة، تنطلق من مكوناتها وخصوياتها الداخلية، بدلا من مقاربتها بمنهج يصلح لكل الأجناس الأدبية والفنية التي تتضمن عنصر السرد. ومن هنا، كان دفاعنا مستميتا على المقاربة الميكروسردية، وذلك من أجل إثبات خصوصية القصة القصيرة جدا، وتأكيد استقلالية جنسها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.

2- معنى الواقع أو تشخيص الواقع :
يتناول عبد الدائم السلامي قضية التشخيص في القصة القصيرة جدا في المغرب، مبينا بأن غاية التشخيص في القصة القصيرة جدا:"ليست التماثل بين النص المكتوب والنص الدنيوي، وإنما هو إبداع عالم لغوي مواز تمحي فيه المسافة بين الأدبي والواقعي، بين الحقيقة والتخييل. وبذلك، يتحقق ذاك التحول الذي يجعل من العالم المتعدد المبعثر واحدا موحدا، عالما تصنعه إستراتيجية فنية تسعى إلى تقويض المنمط والمألوف، لتجعل الكتابة القصصية فنا منفتحا على التأويل، باحثا عن شكل له جديد، وعن رؤية متجددة تصبح مجالا لمحاورة الإيدولوجيات، ووضعها موضع تساؤل من خلال التقاط المعيش والمستجد، واستثمار العلامات والرموز واللغات الملتصقة بفضاء المجتمع الجديد: فضاء الصراع والتجابه والتعدد في الرؤى.
ولن يستقيم حديثنا عن التشخيص القصصي إلا متى حاولنا تحديد البناء الفني للقصة القصيرة جدا، بما يحمل منها محملا فنيا لمضامين قضوية، يتخيرها الكاتب من محيطه المعيش لتعركها ذائقته، بما تتوفر عليه من قدرة على خربقة خيوط نسيجه القولي، وإخراجه في إهاب سردي يقوم على التلميح والاختزال والتكثيف."
وهكذا، يقارب عبد الدائم السلامي القصة القصيرة جدا في المغرب في ضوء مقياس التشخيص . ومن المعروف أن التشخيص أنواع عدة، التشخيص الذاتي (القصة الرومانسية)، والتشخيص الواقعي(القصة الواقعية)، والتشخيص الميتاسردي(القصة الجديدة تفكر في أدواتها التقنية). بمعنى أن القصة القصيرة جدا تعبر عن ذات المبدع، أو تشخص الواقع، أو تشخص عملية الكتابة نفسها. والظاهر أن التشخيص يقول - عبد الدائم السلامي – :" موضوعة أثيرة لدى أغلب كتاب القصة القصيرة جدا، مهما تنوعت مشاربهم الثقافية، ومهما اختلفت تياراتهم الفكرية، وتمايزت أساليبهم الكتابية، إذ نجد جل نتاجاتهم القصصية القصيرة جدا، تمتح من عناصر الواقع مادتها، وتغترف من أحداثه رواءها ومغامرتها.
وسيحاول عملنا هذا إماطة اللثام عن كيفية من كيفيات تعامل النص المكتوب مع نص الدنيا للعينة التي اخترنا من القصص القصيرة جدا، سواء من حيث تشخيص المرويات بما هي أفعال وشخصيات وزمان ومكان، أو من حيث تشخيص الراوي، ونمط رؤيته باعتباره الواسطة التي عن طريقها تحصل معرفة القصة، وقناة لتواصل القارىء مع المقروء، إذ هو الذي يضطلع بالسرد، ويحدد نظامه بضبط المقاييس الكمية والكيفية المستعملة في إيراد المغامرة."
وهكذا، ينطلق عبد الدائم السلامي في المقارنة بين " الكرسي الأزرق" لعبد الها المتقي و" مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري، وذلك على مستوى تشخيص الأفعال، وقد توصل الدارس إلى أن:"التشابه بين قصص الكتابين تجلى بخاصة في مستوى الشكل العام لها: تشابه من حيث عدد القصص، وعدد الصفحات والعناوين الداخلية، وهو تشابه يكاد يرقى إلى مستوى من التماهي بين الكاتبين من حيث العلاقات المتبادلة بين قصصهما، بما ينبىء عن تفاعل أسلوبيهما الكتابيين على مستوى العلاقات التناصية، بما في ذلك الإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوعات أو بالبنية أو بالتحويل أو بالمحاكاة أو بالاقتباس، وحتى على مستوى أسماء الأماكن الواردة بكل كتاب مثل: البيت، والسرير، والسماء، والمحطة، والشرفة، والغرفة، والرصيف... وكذا، بعض المضامين الفكرية والاجتماعية والفنية المحمولة في بعض القصص، وهو مايؤكد لنا أنهما يمتحان من سجلات واحدة قد تكون نفس الواقع المعيش، وقد تكون نفس مصادر التثقيف، وقد تكون أيضا نفس الملامح التي تسم هذا الجيل الشاب من كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب."
وعلى الرغم من علاقات التشابه بين الكاتبين، فثمة مجموعة من الاختلافات التي تميزهما على مستوى المناصات والعتبات (الإهداء، وعلاقة البداية بالنهاية، ونوع المتن بالغلاف). وقد عملت الأضمومتان معا على تشخيص الواقع المغربي بصفة خاصة والواقع العربي بصفة عامة، وذلك بتصوير مآسي الإنسان، وتجسيد بشاعة الحياة التي يعيشها الكائن البشري، وتشخيص الواقع التراجيدي المحبط، ولكن لم يكتفيا بالتقاط الواقع المرئي فقط، بل تجاوزاه إلى نقل عوالم سردية تخييلية محتملة وممكنة. وتنماز المجموعتان أيضا بخاصية التكثيف وخاصية الاختزال والاقتصاد في الأحداث. وتتضمن كذلك مجموعة من الثنائيات القائمة على التضاد والتقابل الدلالي والخطابي والجمالي. ويعني كل هذا أن عبد الله المتقي ومصطفى لغتير ي يشخصان الواقع، ويعكسان اليومي عبر شعرية الأفعال والوظائف والأحداث المروية. وإذا تأملنا هذه الأفعال:" وجدناها أفعالا يومية عادية مسطحة مفصلة لاتحفل ببلاغة اللغة ولا بتنميق الجملة، ولا حتى بإغنائها بالمتممات، بل تنحو إلى التفصيل الدقيق." بمعنى أن الجمل الموظفة في قصصهما تكتفي بالعمدة والتركيب الإسنادي، وتستغني عن الفضلات والمكملات، وكل ذلك من أجل نقل الواقع بطريقة مباشرة، بدون تزويق أو زخرفة مبالغ فيهما، وذلك على حساب الصدق والحقيقة الواقعية.
وعلى مستوى الشخصيات، يرى عبد الدائم السلامي أن التنكير خاصية تتحكم في شخصيات عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري:"إن قراءة متأنية لقصص الكتابين تظهر لنا أن شخصياتها تتنوع كثرة وأفعالا ومآلا، فقصص" الكرسي الأزرق" تتوفر على مائة وتسع عشرة شخصية منها مائة وتسع شخصيات لاتحمل اسما علما، وأغلبها معرف بالإضافة أو بالألف واللام، ولكنها فاعلة في المغامرة، مشاركة فيها، ونسبتها 91.6%، وعشر شخصيات عينها الكاتب بأسماء معلومة، غير أنها في الغالب الأعم جاءت باهتة عرضا في المغامرة، قليلة الفعل فيها، ونسبتها 8.4% . وتتضمن قصص " مظلة في قبر" مائة وإحدى عشرة شخصية منها اثنتان وتسعون شخصية غير معرفة، ولها فعلها في المغامرة، ونسبتها 82.9%، وتسع عشرة شخصية تحمل اسما علما، وهي على غرار شخصيات قصص" الكرسي الأزرق" يوردها الراوي دون أن يسند إليها أفعالا في الحكاية إلا نادرا، بما يسمها بميسم المساعدة في سيرورة الحكاية لاغير، ونسبتها 17.1%. إلا أن خلو أغلب الشخصيات من اسم لها يعينها، لم يمنعها من التعريف إما بالإضافة أو بالألف واللام مثلما ذكرنا سابقا، فإذا خلت شخصية ما من التعريف، اجتهد الكاتبان في أن يقرباها إلينا بالإحالة، عبر أفعالها أو أقوالها أو علاقاتها أو أحوالها، فأظهرا القليل منها في نواتات سردية مفردة، وأسندا إلى البعض الآخر وظائف سردية تغلغلت داخل المتن الحكائي، واخترقت جل الوظائف فيه. وهو أمر يدفعنا إلى القول: إن الكاتبين لايحفلان بالأسماء احتفالهما بالأحداث."
ويتضح لنا، مما سبق، أن الكاتبين معا يهتمان بتفاصيل الأحداث أكثر مما يهتمان بالشخصيات. ومن هنا، فقصص الكاتبين معا قصص الأفعال والأحداث الواقعية، أكثر مماهي قصص الشخصيات. وعلى الرغم من ذلك، فهذه الشخصيات مأخودة من الواقع الاجتماعي، ومختارة من الطبقات الاجتماعية المقهورة والمنهارة. كما أوجد الكاتبان معا لقصصهما الحبكة السردية، وبطلا فاعلا ينجز المغامرة السردية.
وهكذا، يعمد كل من عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري إلى تنكير الشخصيات، وتكسير النمط البلزاكي في أنسنة الشخصيات، والاعتماد على التلميح دون التصريح بأوصافها وباختلاجاتها النفسية. بمعنى أنها شخصيات سطحية ساكنة غير معقدة ولامركبة ولاديناميكية، تنقل الواقع بكل صدق وصراحة. و" لكنها غير محايدة في سلوكها السردي، فهي حمالة مواقف إيديولوجية من الواقع، ومن المجتمع بعاداته وبسلوك عباده. مواقف، اجتهد الكاتبان في تقديمها بشكل تبدو فيه جديدة الإهاب، كثيرة الماء، وفيرة الملحة، لكنها في الأصل محيلة على مفردة من مفردات نص الدنيا المعيش، بما فيه من مغالطات، ومن فوضى، ومن أقنعة بشعة، ومن زيف عام تحكمه الشعوذة، وعوالم عجائبية غريبة لم يقدر المجتمع على تخطيها، على الرغم مما صار إليه من اندراج طوعي أو قسري في عالم التقانة، والانفتاح على الآخر بمجلوباته العلمية."
ويلاحظ عبد الدائم السلامي أن الأفعال المرتبطة بالشخصيات هي أفعال حدثية وحركية وديناميكية:" تنبىء عن الأشياء، وتوصف أغوارها، وهو ماعوض الشخصية تنكيرها، وأغناها بكم هائل من التفاصيل التي جعلتها تساهم في نسج الحكاية/المشهد، وتثبيت أحداثها في المكان بكل تفاصيله."
هذا، وتتضمن قصص عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري أمكنة متنوعة، من بينها: المكان التشكيلي (تشكيل بياض الورقة، أو مايسمى أيضا بالمكان الطوبوغرافي)، والمكان التخييلي( الأمكنة المتخيلة في ذهن المتلقي)، والمكان التأويلي ( فعل القارىء في تأويل المكان ببعض القصص الخالية من الإحالة عليه لفظا أو معنى). وتتأرجح أمكنة هذه القصص بين أمكنة مغلقة وأمكنة مفتوحة، أو بين الأمكنة الحميمية والأمكنة العدائية. ومن ثم، فإن رواة بعض القصص القصيرة جدا:" ينحون نحو تنكير الفضاء المادي، وأحيانا نحو تغييبه، بما يفسح في المجال لظهور الحدث صافيا في ذهن القارىء، وما ذاك الصفاء سوى نوع من الشعرية التي تسم الفضاء في القصة القصيرة جدا، وترتقي به من مجاله المادي إلى مجال تخييلي، فإلى مجال تأويلي، ما منح أمكنة الواقع المعيش صفة الشعرية."
وقد تتحطم وحدة المكان في هذه القصص، فتتنوع لتصبح أمكنة معروفة عادية غير نموذجية،كما في الرواية الكلاسيكية عند بلزاك وستندال وفلوبير...وتتوافق الشخصيات مع الأمكنة التي توجد فيها، فالشخصيات التي توجد في الأمكنة المغلقة أو فضاءات العتبة، تكون شخصيات عدوانية غريبة تعاني من الوحدة والكآبة والقلق والحدة والتململ والضيق . في حين، نجد أن شخصيات الفضاءات المفتحة شخصيات حوارية ومنفتحة ومتسامحة.
أما على مستوى بنية الزمان، فالظاهر:" أن تعامل المتقي ولغتيري مع عنصر الزمان في قصص كتابيهما " الكرسي الأزرق" و"مظلة في قبر" كان تعاملا مخصوصا، إذ نراهما يفصلان فيها الأحداث حسب نمطين من الزمن: موجود (زمن الراوي)، ومفقود (زمن القارىء)، وحسب ثنائيتين زمنيتين: ثنائية النهار والليل(مثلا: إضاءة الغرفة والتوجه إلى السرير فعلان يدلان على زمن الليل)، وثنائية الماضي والحاضر."
ونستنتج في هذا الباب بأن مصطفى لغتيري وعبد الله المتقي يستعملان العادي من الأفعال والشخصيات والفضاء، بغية التقاط الواقع لفهمه بشكل جيد، دون الاكتفاء بعملية الرصد. ومن ثم، فمهمة الكاتبين معا هي تشخيص الواقع اليومي بكل تفاصيله الجزئية . بمعنى أن التشخيص في قصصهما :" يعتني بأدق التفاصيل والهموم الواقعية اليومية المعيشة، يقدمها رواتها دونما زخرفة ولا تنميق، بحيث يتمرأى للقارىء الواقع المشخص في وضوح تام، لايغشاه ضباب التخييل، ولا تهويمات اللغة، وضوح يقوم على تسمية الأشياء بأسمائها، أو بما يحيل عليها، وعلى تفكيك بناها، بغاية تركيز النظر على كل جزيئاتها تركيزا يأتي على كل التفاصيل فيها.وبذلك، تتحول القصة عند لغتيري والمتقي إلى مسعى آخر من بين عديد المساعي المتباينة للإمساك، عن طريق الأدوات المتاحة، وعلى أساس من مزاج وتكوين منفردين، بذلك الهدف المستعصي دائما عبر العصور...ألا وهو الواقع."
وعليه، تتفكك القصص في مجموعتي عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري إلى مجموعة من المقاطع السردية ذات وظائف أساسية في شكل نوى إسنادية بعيدة عن المكملات والزخارف والتنميق اللفظي. علاوة، على تشغيل جمل قصيرة خالية من التنميق اللغوي والزخرفة البلاغية؛ لأن الغرض الأساس هو تصوير الواقعي على حقيقته. كذلك كان الأمر :" مع شخصيات القصص القصيرة جدا، ففي غياب مفهوم البطل، بدت مألوفة عادية عابرة خالية من الانفعالات، تكتفي بأدوارها اليومية بشكل سطحي، لايتوفر على كثير خيال، ولا على عمق نفسي ووجداني، إلا أن سطحية الشخصيات لم تمنعها من الظهور في المتن الحكائي حمالة لإيديولوجيا ما، ذلك أن الرواة قدموها في القصص مصورة تصويرا مفصلا من حيث أحوالها وأقوالها وأفعالها."
هذا، وقد التجأ الكاتبان معا إلى تكسير خطية الزمن السردي، وذلك بواسطة مجموعة من الانحرافات الزمنية كالاسترجاع على سبيل التخصيص. ويعني كل هذا أن الكاتبين قد شغلا كل مالديهما من تقنيات سردية، وآليات كتابية، لخلق شعرية الواقع رصدا وتشخيصا وتصويرا وفهما. ولكن بقيت هذه القصص عند حدود فهم الواقع، ولم تتجاوزه إلى تغييره بشكل أفضل وإيجابي.

3- واقع المعنى أو تقنيات الخطاب:
يبدأ عبد الدائم السلامي فصله الثاني بدراسة المنظور السردي أو وجهات النظر. ومن ثم، يرى الباحث بأن كثيرا من رواة قصص عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري غير حاضرين في قصصهم، حيث يتوارون وراء الرؤية من الخلف القائمة على ضمير الغائب، والمعرفة المطلقة، والحياد الموضوعي. ومن هنا، " يقدم لنا عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري في أغلب قصصهما الواردة بالكتابين موضوع الدراسة مروياتهم بطريقة محايدة، لانلحظ فيها تدخلا من الرواة إلا ما كان من باب التفصيل في تقديمها، إذ يلحظ القارىء أن رواة القصص يتبعون الشخصيات في تنقلها في مساحة النص القصصي، ويرصدون أفعالها وأحوالها وأقوالها، دون أن يزيدوا فيها أو ينقصوا منها، ما جعلهم رواة خارجين غير مشاركين."
هذا، ويقوم الراوي بعدة أدوار ووظائف، كالسرد، والرصد، والإخبار، والوصف، والتعريف بالشخصيات، وتقديم الحبكة السردية، والتنسيق بين الفواعل السردية، وتبليغ المتلقي وتنبيهه تأثيرا وإقناعا، وتوصيل الرسالة الإيديولوجية.
كما أن :" رواة قصص لغتيري والمتقي مضطلعون غالبا برواية المشهد، إلا في أحيان قليلة نادرة بالنسبة إلى مجموع قصص الكاتبين، إذ نراهم يضطلعون فيها بالفعل في متن القصة المحكية، وهذه التقنية هي ما سهلت على الكاتبين التحكم في ترتيب الأحداث وفي تفصيلها وفي تقديمها بأشكال متنوعة، بحسب ما يخدم بناء القصة الفني والجمالي، ويرتقي بالمشهد المروي من خام مادته إلى تصنيع معناه."
وتأسيسا على ماسبق، فرواة الكاتبين معا رواة محايدون يهتمون بالتشخيص الموضوعي، ولايشاركون الشخصيات في بناء الأحداث، كأنما :" هم أفرغوا من كل أحاسيهم وعواطفهم، وهم ينقلون لنا المشاهد المحكية.لابل هم لايتدخلون في تشخيص مايرون من حركة الموجودات البتة، حتى ما تعلق في ذلك بأمر علاقاتهم بالشخصيات أو بأفعالها في القصص.ذلك، أنهم يقدمون الشخصيات وأفعالها للقارىء بطريقة محايدة، تقوم على التشخيص الموضوعي لها، دون أن يصبغوا عليها شيئا من عواطفهم أو من أحاسيسهم، حتى وإن كانت بعض المشاهد تستدعي نوعا من الإحساس والتعاطف والانفعال على غرار مانقرأ في قصة:" مات الكلب" من كتاب الكرسي الأزرق ص:47، حيث يبدو لنا راويها غير مبال بما حدث أمامه، فاكتفى بتصوير المشهد دون التعليق عليه، على الرغم من أن الحدث يستوجب تعاطفا ما."
هذا، ويحضر الوصف في العملين معا لرصد الأحوال والهيئات والكيفيات،كما أن الوصف يوقف الزمن لتحقيق استراحة ما – حسب جيرار جنيت-. وهنا، يمكن الحديث عن وصف الحركة السردية، وتشخيص الواقع، ونقل تفاصيل المعيش اليومي، والتقاط هموم الإنسان المقهور. ويؤدي الوصف في هذه القصص المدروسة وظيفة جمالية، ووظيفة تفسيرية تفصيلية شعرية. والآتي، أن:" ميزة قصص لغتيري والمتقي تكمن في كيفية بناء الوصف فيها، إذ تبين لنا أن الوصف لم يعد عند الكاتبين تقنية توقف الزمن لتقدم معارف جديدة تعضد السرد، وإنما صار بدوره نوعا من السرد داخل السرد، إذ توفر على أشراط البنية، من حيث اقتصاره على محور وحيد للوصف، ما مكنه من تدقيق تفاصيل الموصوفات، وزاد من شعرية معناها، ومن حيث توفره على فواتح وخواتم تعلن عنه، وتدل على انتهائه."
ويلاحظ كذلك أن الوصف يتمازج بالسرد في قصص المتقي ولغتيري (الوصف باعتباره سردا داخل السرد)؛ مما يضفي هذا نوعا من الحركية الديناميكية على الحبكة السردية، وتسريع الحكي. ويتأرجح الكاتبان معا بين الوصف العام والوصف الجزئي التفصيلي. وفي هذا، يقول عبد الدائم السلامي:"يحرص رواة قصص المتقي ولغتيري على تقديم الشخصيات إلى القارىء، تقديما يقوم على وصف أحوالها وصفا دقيقا، ينحو إلى التفصيل في هيئاتها، إذ هم يصورون حال الشخصية في جزئياتها، وبأدق تفاصيلها، معتمدين غالبا الوصف الذي ينطلق من العام إلى التفصيلي، وهو الوصف الذي يتدرج بالمتلقي من معرفة كل الشخصية إلى معرفة أدق أجزائها، أو الوصف الذي يكتفي بالجزء من الموصوف، فيفصل فيه القول تفصيلا، ما يقربه إلى القارىء قرب الرؤية، أو يكاد يلمسه، فتخرج الحال الموصوفة من الإمكان إلى حد الممكن."
كما يستند الوصف عند الكاتبين معا إلى استخدام مقاطع وصفية مبنية على الاستهلال بمعلنات، تتجلى إما في دوال لغوية صريحة حاضرة في نسيج الخطاب، تذكر الوصف صراحة، أو تحيل عليه من قبيل أفعال(وصف، رأى، نظر، شاهد...)، وإما في مؤشرات ضمنية غير صريحة تعلن عن ولادة المقطع الوصفي، وإما باستعمال علامات طوبوغرافية وتركيبات لسانية تعلن بدورها عن ورود الوصف وإن بطريقة ضمنية، أومبنية على الاختتام بخواتم متنوعة ومتعددة.
زد على ذلك، يتضح لنا بأن قصص لغتيري والمتقي: ليست:" سوى استعارات صغرى لمفردات واقع يومي يعيشانه، يمثل بدوره استعارة كبرى لايمكن تحديد مكوناتها، لتشعبها، إلا بتجزئتها على غرار ماجاءت عليه قصص:" الكرسي الأزرق"، و" مظلة في قبر"، استعارات قامت على تفصيل المرئي إلى مشاهد تفصيلا، لم يغفل أدق الأجزاء فيه؛ ماجعلها تضفي، متضافرة، شعرية شفيفة على الواقع، حولت فيه مرارة الحقيقة لذة في التأويل."
وعليه، تتميز قصص المتقي ولغتيري بطابعها الواقعي، وتشغيل كل التقنيات السردية قصة وخطابا لالتقاط الواقع رصدا وفهما. ومن ثم، نلاحظ: " تماهي رواة قصص لغتيري والمتقي مع واقعها، تماه نراه يمتح من الواقع الصورة الخام، فينكب عليها الكاتب يعرك تفاصيلها حتى يخرجها في إهاب قصة قصيرة جدا لها ميزاتها، من حيث تخير اللفظة في الجملة، والجملة في التركيب، والتركيب في المقطع، والمقطع في نسيج الحكاية، يفعل ذلك دون تكلف ولا إجهاد، بل يفعل ذلك بما له من قدرة على تحويل الأحداث المعيشة إلى أحداث تخييلية، يشيع فيها المعنى بينا من خلال ماتوفرت عليه هذه القصص من حبك سردي، سانده حبك توصيفي، بلغ في مجمل القصص محل البنية الوصفية التي تتحوط في ثيابها المعنى، تخفيه حسنا، وتكشفه أحيانا حسب قدرة المتلقي على تعرية المكتوب."
وينهي الدارس عبد الدائم السلامي كتابه بطرح مجموعة من الأسئلة والإشكالات التي تتعلق بواقع القصة القصيرة جدا، وكذلك بآفاقها المستقبلية. كما يطرح أسئلة تتعلق بقضية التجنيس والاستقلالية والتميز والخصوصية. والآتي، أنه يشدد على تشظي الرواية في الرواية الجديدة إلى محكيات صغرى لها استقلالية معنوية خاصة بها، فهل يمكن إدراجها ضمن القصة القصيرة جدا؟ وهل ما يكتبه المبدع العربي هو من جنس القصة القصيرة جدا؟ وهل القصة القصيرة جدا جنس أدبي خالص؟ وهل لها مكانة داخل العائلة السردية الكبرى؟ وكيف يمكن للقصة القصيرة جدا أن تمنح لنفسها حق التأسيس في غياب التراكم وكثرة الإنتاج ؟
" هذا بعض من أسئلة- يقول عبد الدائم السلامي- انهمرت بأجسامنا علينا، ونحن نباشر القول في أجناسية القصة القصيرة جدا، أسئلة ارتأينا أن نطرحها دون تهيب فيها ولا تهويل منها، حتى نحصن عملنا من كل انزياح قد ندفع إليه سهوا أو عمدا. ذلك، أن مجموعة من الكتاب هائلة راحت تنضوي تحت لافتة القصة القصيرة جدا، فصدرت لأصحابها كتب في هذا النمط السردي، وامتلأت الدوريات واليومية والمجلات المختصة بقصصهم التي يلحون على وصفها بالقصيرة جدا، ماجعلنا نعيد النظر في تصوراتنا عن الكتابة النثرية عامة، وعن الكتابة السردية خاصة، وكذا في أشراطها الفنية المألوفة، وفي نوع تعالقها مع الواقع/المرجع.وقد نعود إلى هذه الأسئلة في موقع آخر لنفصل فيها القول، بما يمكننا من الخلوص إلى استنتاجات، نرجو أن تساهم في تسليط الضوء على الإشكاليات التي سبق ذكرها حول أجناسية القصة القصيرة جدا."
ويلاحظ على هذه الدراسة أنها أغفلت عنصرا هاما في علم السرديات وهو الصيغة أو الأسلوب، حيث لم يدرس عبد الدائم السلامي الصيغة التي ركز عليها جيرار جنيت كثيرا في أبحاثه السردية، كالتمييز بين الأسلوب المباشر وغير المباشر والأسلوب غير المباشر الحر، أو التمييز بين السرد والعرض، وبين الحوار المباشر والحوار الداخلي، ودراسة اللغة وأنواعها، وكيف تلتقط الواقع المعيش، ويمكن للدارس في هذا السياق الاستفادة من فلسفة اللغة عند ميخائيل باختين. وبتعبير آخر، كان من الأفضل للباحث أن يخصص كتابه بدراسة مفصلة حول الخصائص اللغوية والأسلوبية في قصص عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري.

تركيب واستنتاج:
هكذا، نصل في الأخير إلى أن كتاب:" شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا" كتاب نقدي مغاربي بامتياز، حيث يقارب عبد الدائم السلامي مجموعتين مغربيتين لعبد الله المتقي ومصطفى لغتيري، تندرجان ضمن جنس القصة القصيرة جدا، يكتبها صحافي و ناقد تونسي له خبرة بهذا الجنس الأدبي الجديد، وله معرفة كذلك بمبدعيه المغاربة بشكل دقيق وواع. ومن ثم، تتمثل قيمة هذه الدراسة في كونها دراسة حداثية تستعين بالبنيوية السردية تارة والسيميائيات تارة أخرى.بمعنى أن الكاتب يدرس بنية القصة (المعطى السيميائي)، وبنية الخطاب والشكل( المعطى السردي). كما تمتاز دراسته بالعمق المنهجي، والتحليل الدقيق القائم على الاستقصاء الحجاجي، والتفصيل التشريحي، والتوصيف العلمي الموضوعي. وبذلك، تكون دراسته النقدية في مجال القصة القصيرة جدا هي الأعمق والأجود عربيا، تليها دراسة الباحث العراقي جاسم خلف إلياس التي عنوانها:" شعرية القصة القصيرة جدا"، لكن الدارس يهمل أهم عنصر في شعرية السرد، ألا وهو عنصر الأسلوب واللغة. كما لم يبحث الدارس عن منهجية خاصة بالقصة القصيرة جدا بنية ودلالة ومقصدية، بل استعان بمنهج يتلاءم مع جميع الفنون والأجناس والأنواع الأدبية سواء أكنت صغرى أم كبرى.


.........................
الهوامش:
1 - عبد الدائم السلامي: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا، منشورات مجلة أجراس، دار القرويين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2007م.
2- عبد الله المتقي: الكرسي الأزرق، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة، الطبعة الأولى سنة 2005م.
3- مصطفى لغتيري: مظلة في قبر، منشورات القلم المغربي بدون توثيق للطبعة.
4- هناك دراسة جامعية أخرى قد تبنت الشعرية السردية في مقاربة القصة القصيرة جدا، ولكنها لم تكن دراسة عميقة في استكشاف مواصفات المتن الفنية والجمالية، واستكناه أعماقه الثاوية بنية ومرجعا، كما هو حال دراسة جاسم خلف إلياس: شعرية القصة القصيرة جدا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2010م.
5- د.جميل حمداوي: (من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا(المقاربة الميكروسردية))، موقع دروبDoroob، موقع رقمي،
www.Doroob.com/p=36535.16/08/09.11.35


6- عبد الدائم السلامي: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا،ص:12-13.
7- عبد السلام الدائم: نفس المرجع، ص:13.
8- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:16.
9- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:28.
10- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:30-31.
11- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:35.
12- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:40.
13- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:51.
14- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:53.
15- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:60.
16- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:61.
17- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:65.
18- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:68.
19- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:69.
20- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:85.
21- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:77.
24- عبد الدائم السلامي: نفس المرجع، ص:90.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي