أيّ "فصلٍ في الجحيم" تعدنا به اللغة/محمد الأمين سعيدي


أيّ "فصلٍ في الجحيم" تعدنا به اللغة/محمد الأمين سعيدي

"...وكان للصيغ الشعرية العتيقة نصيب كبير في كيميائي اللغوية.." (رامبو)

بهذه الكلمة المأخوذة من كتاب:"فصل في الجحيم" لآرثر رامبو أنطلق في حديثي عن اللغة، هذا الكائن العجائبي، وهي تتشكَّل مما تجود به نفوس المثقلين بهمّ البحث، في سبيل الحقيقة، عن مغامرة جديدة تبحر فوق الاحتمالات الكثيرة التي تنبتُ في عيون الكادحين من البشر ومن الطير، الطير التي تأكل من رؤوسنا آخر فتاتِ اليقين والدوغمائية العمياء. ومن كلمة "رامبو" هذه أستطيع أنْ أنظر إلى جسد النص لا منفصلا عن روحه وعن جميع السياقات الحضارية والنفسية التي تجعل منه أرقى مخلوق يعيد ترتيب أفكارنا بجنون على فوضى العالم، وعلى جنون الكوكب بالدوران.

الأمر إذن يا صديقي"رامبو" متعلِّق بالكيمياء اللغوية التي لا نحتاج فيها إلا لقدرة المعنى على التمازج والزيغوغة دون استقرار على صيغة لغوية ثابتة، ولا دخل للـ"فهلنج" إطلاقا في الكشف عن أسرار هذه الخلطة، فكلّ صياغة جديدة لتشكّلات اللغة تحتاج إلى مادّة واحدة هي اللا يقينية التي تضمن لها عدم الرسوخ على قالبٍ ما، وعدم الجمود مثلما حدث لـ"المرزوقي" وهو يُحاول فاشلا أنْ يفرض على شاعر مثل "ابن الفارض" أنْ يكون وفيا للمقاربة في التشبيه التي جعلتْ الشاعر العربي، ولقرون، يُشبّه المرأة، دون حياء، بالظبية، وهو يعرف في داخله أنه يكسّر قاعدة المرزوقي ويُباعد في التشبيه، إذ لا علاقة، أبدا، بين المرأة والظبية ولا حتى في المنام.

هذه هي الكيمياء التي تضمن للغة بريقها، وتجعلها أقرب إلى استيعاب هواجسنا أو عدم استيعابها، لأنّ العبارة الحسودة-على ملَّة النفري- تضيق كلما اتسعتْ الرؤيا، لتصبح أصغر قليلا أو كثيرا من خرم الغياب الـ يتّسع فقط لمفتاح أكبر قليلا من كوكب الأرض الصغير جدا جدا جدا، وأنا هنا، لا أتحدّث عن لغة بعينها، ولكنْ عن الروح التي تجعلني أستمتع بالمتنبي وتغرقني في الدهشة وأنا أقرأ للويس أراغون، ومثلما أحترق داخل "فصل في الجحيم" لرامبو، أتلذذ في"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، وهذه الروح هي نفسها التي تجعلني أتمتّع بكتابات محمد ديب ومولود معمري ومولود فرعون، ومالك حداد، وكاتب ياسين، وآسيا جبار وغيرهم من الكتاب الجزائريين سواء بالعربية أو بالفرنسية، وبها أيضا أحلقِّ أعمقَ في الشعر وأنزلُ أعلى في النثر، ومثلما تغويني إيقاعية العربية تغريني الفرنسية والإنجليزية وغيرهما بالرقص.

روح اللغة إذن ليستْ في الألسنة القومية المختلفة، وإنما هي في القدرة على تشكيل عالم مغايرٍ للواقع وهدمِه من أجل مراقبة الكائنات العجيبة التي تخرج من أنقاض الدلالة وتتناسل من أعين الحسرة الواقفة في وجه فرحة الشاعر بالبناء وجنونه أكثر بالتخريب.

أعودُ إلى كلمتك يا صديقي "رامبو"، بالضبط، إلى علاقة الصيغ اللغوية العتيقة بكيمياء لغتك المتجددة، ولا أدري إنْ كنتَ تعرف، وأنتَ المولع بالشرق، أنّ لفظة"عتيقة" تشبه إلى حدٍّ كبير لفظة "معتَّقة" التي تدلّ عادة على ما يُترك بين أيدي التقادم حتى يزداد تركيزا وتأثيرا، ولا أظنّ أنّك لا تعرف قصائد أبي نواس المجنون بالمعتّق/العتيق من بنات العنب. (لقد فهمتك) يا "رامبو"، روح اللغة لا تؤمن بالحدود بين عذاباتِ برومثيوس وهو يتلقى أسرار الألم من هجمات النسور على كبده، وبين الرصاصة التي بثقل جبلٍ، ذات سبتٍ، غاصتْ في رأس الشاعرة البرازيلية "آنا كريستسنا سيزار" المولودة عام 1952، وروح اللغة أيضا لا تغلق الباب بين شعوري، أنا العائد إلى بيتي البارحة في الطائرة، وبين "لوكيوس أبوليوس" وهو يحلمُ بالطيران حتى تحوّل إلى حمار ولم تقدر أذناه الطويلتان أن تخلصه لثانية واحدة من قيود الجاذبية المقرفة.

أيّ حداثة تبعد مجاهل التاريخ يدّعيها بعض الكتّاب/القارئين غير الجيدين لـ"طرائق الحداثة" لرايموند وليامز، ولـ "الثابت والمتحوِّل" لأدونيس، بل أيّ نصٍّ يريدونه أنْ يغلق بوابات التلاقي بين الأبعاد الزمنية والامتدادت التاريخية للمعنى وبين حاضر اللغة المتشكل من حكمة الطين منذ بدأتْ الحياة. حقيقة، النص أضيق من الأراضي المحررة في فلسطين، لكنه أوسع منْ أنْ يكون مساحة مستعمرة من طرف اليوميّ والعاديّ، وأنْ يكون مغلقا على نفسه كالمرضى الذين أتعبوا "فرويد" وهو يُحاول تحطيم الباب الذي أغلقوه بينهم وبين بشر يحسبون أنفسهم عقلاء.

(لقد فهمتكَ) يا صديقي "رامبو"، فالنص ينفتح كلّ مرة على معاني جديدة وأساليب مختلفة، واللغة أكبر من الصراعات البشرية، فآدمُ في البدء كان واحدا، واللغة أيضا كانت، في البدء، واحدةً، فأيّ "قابيلٍ" يختار هؤلاء الحمقى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي