خُلِقتُ أَلوفاً / سامي العامري


خُلِقتُ أَلوفاً
ـــــــــــــــــــ

Sami Mohsin Alamiri

سامي العامري
ــــــــــــــــــــــ

البكاء على الأطلال حالة وجدانية عرفتها وتعرفها كل ثقافات الشعوب 
ولم تكن وقفاً على عربِ ما يسمّى بالجاهلية 
والأطلال حين نتوسع بمعناها فإنها تتخذ مداليل تختلف باختلاف الفرد ولكنها تبقى تعني كل ما هو جميلٌ في الماضي وحارٌّ وحميمي فإذا قال امرؤ القيس : 
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... 
فأنه بثَّ الحياة في ماضٍ متمثٍّلٍ بحبٍّ جعل من نفسه كل ما يتعلق به من مادياتٍ موضوعاً روحياً خالصاً كمنزل الحبيب وغيره
ومن ناحيتي فقد كتبتُ الكثير عن ماضيِّ الشخصي وتقتُ له إلا أن التوق أو الحنين هذا ـ حين أتأمَّله بحيادية ـ لا أجده يعني الحنينَ إلى ذكريات عزيزة فقدتها او افتقدتها أبداً فطفولتي مثلاً لم تكن سعيدة رغم أنها لم تكن تعيسة أيضاً ولكنْ كأية مرحلةٍٍ زمنية كانت رحلةً في الزمان عابرة لم تترك في الكيان صدىً ملفِتاً وفترة مراهقتي كانت متعثرة وشبابي الأول توزعَتْه الحروبُ والمخاوف والجروح النفسية 
فلماذا أذكرها وأشير لها بكثرة في كتاباتي كمَن فقدَ جِناناً !؟
مِمّا أتذكره في تسعينيات القرن الماضي أني كتبتُ السطور القليلة التالية : 

شراعٌ راجعٌ بالغَمْر نحو بدايةٍ أُخرى 
قِفا نَمضِ ... 
وكان دمي الدليلَ بعتمة المسرى 
ــــ
وفي هذه السطور الشعرية التي ( تحرَّشتُ ) فيها بصياغة امرىء القيس في قوله ( فقا نبكِ ) قلتُ في سطرها الأول : 
( نحو بدايةٍ أخرى ) 
وفي هذه العبارة يكمن السر 
فالإنسان لا يسعه إلا أن يتمنى ، والشاعر لا يسعه إلا أن يحلم ولكن ياللمعاناة حين يتعرض الشاعر ، وهو الشديد الرهافة ، إلى تجربة حياتية أو روحية قاسية وكافية لجعل الحياة تَلوح أمامه وكأنها مكان للعقوبة لا للتأمل والعيش والإستمتاع بأشيائها البسيطة ومن هنا يبدأ الإضطراب في النفس والذهن أو دعنا نسميها الحيرة والإرباك فلا حاضرك رؤوف ولا في ماضيك ما يغري بالعيش فيه إضافة إلى أن غدك مجهول وهوائيٌّ وفضفاض ولا تعرف ما سيجلبه لك أو بتعبير أدق لستَ متيقناً بأنك ستعيشه 
لذا فلا خيار أمامك من أجل الإحتفاظ بمنسوب مقبول من الهدوء والسكينة إلا الخيال فرحتُ أتخيل لو باستطاعتي العودة للماضي والبدء بحياة جديدة ! 
وهذا هو السر أي المخيال المحال !
وفي نفس السياق قال المتنبي في كبَره وهو من عادته مشاكسة القناعات المألوفة : 

خُلِقْتُ أَلوُفاً ، لو رجعتُ إلى الصبى
لفارقتُ شيبي موجَعَ القلبِ باكيا (*)
ـــ
فهو هنا يريد أنه يعيش لحظته بكاملها ويتشرَّبها حتى تصبح جزءاً حياً من كيانه وصميمه وإن كانت في مرحلة كهولته ،
فإذا عُرِضَتْ عليه العودةُ إلى صباه أو إذا كُتِبتْ عليه فإنه سيبكي على فقدانه شيخوختَهُ !
أما أنا فلا أستطيع ادِّعاء ذلك غير أني يمكن أن أتمنى هذا .
ـــــ
(*) الألوف : من الألفة وهو الإنسان الذي يألف الأشياء والأماكن والشخوص
ــــــــــــــ
برلين
حزيران ـ 2013

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح