البلاغة: حمد وذم.. / الدكنور حبيب مونسي
البلاغة: حمد وذم../ الدكتور حبيب مونسي
إذا كانت الصفة الأولى للبلاغة العربية تتأرجح بين الصدق والكذب في تعيينها العام، فإن صفة البليغ التي تلحق المتكلم تحمل هي الأخرى تأرجحا بين الحمد والذم. ذلك أننا حين نصف شخصا بالبليغ قد لا نفعل ذلك حمدا ومدحا، وإنما نلجأ لهذه الصفة تعبيرا عن قيمة غير أخلاقية تستعمل قدرتها القولية في غير محلها، فتخرج لنا الكذب صدقا والصق كذبا، وتدفع المستمع إلى اعتقاد مشين. لأننا إذا تأملنا: « لفظ البلاغة من الناحية التاريخية كان دالا في بعض الأحيان على ما يمكن أن نسميه باسم جمال الشبهات. وكان وصف المرء بأنه بليغ يمكن أن يقصد منه وجهان. أحدهما أقرب إلى الحمد والثاني أقرب إلى الذم والاحتراس.» فقد أخرج ابن حبان في صحيحه قال :« أخبرنا أبو يعلى، حدثنا خليفة بن خياط، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين قال، قال رسول الله ¬¬¬¬¬¬¬ ثَمََّ أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان » والحديث من باب التحذير الواقع في مستقبل الأيام. وكأن الآتي سينفتح أمام طائفة من الناس تستعمل "علمها اللساني" في الجدل بغية إخراج الناس عن جادتهم. وسيكونون خطرا على الناس في استنادهم إلى طاقاتهم اللغوية وأدائهم البليغ من أجل تزييف الحقائق والتدليس على الحق. ومن ثم يحذر الرسول أصحابه وسائر المسلمين من هذه الطائفة التي ستكون لها صولات وجولات في حاضر المسلمين وفي مستقبلهم.
لقد أدرك علماء العربية منذ القدم هذا الشرط الخفي في البلاغة وإن سارعوا إلى تمجيدها، ودفع الناس إليها حمدا وتعلما، غير أنهم ذكروا بما يعروا من دخن. فهذا صاحب "الإمتاع والمؤانسة" يقول في ليلته السابعة:« هي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف، وأغراض تأتلف، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر، وإباءٍ وإذعان، وطاعةٍ وعصيان، وعدلٍ وعدول، وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل.»
ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القولَ بطُول الإسهاب والإكثار
إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَعنىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ
تعليقات
إرسال تعليق