عن الحداثة والضدّ في غياب الشهادة المكتوبة / عبد القادر رابحي
عن الحداثة والضدّ في غياب الشهادة المكتوبة
عبد القادر رابحي
الاثنين, 24 يونيو 2013
أثار مقالي عن (المثقف المهيكل والحداثة المطيونة) المنشور في (الأثر)، ردودا وتعليقات عديدة إثر نشر رابطه على صفحتي في الفاسبوك، ومن بينها ما تفضل به الأستاذ محمد نور الدين جباب، من ملاحظات تعلقت أساسا بما ورد في المقال من فكرة انتهاء الحداثة بوصفها مذهبا فلسفيا، ومن فكرة (الضدّ) وعلاقتها بالمفهوم الهيجيلي.
وإذ أقدّر للأستاذ الفاضل محمد جباب نور الدين اهتمامه بما ورد في مقالي المتواضع، فإنني أشكره على إطرائه وأثمن في مداخلته القيمة هذه الروح النقدية المتفتحة على المعرفة والملاحظة لما يمكن أن يُبنَى عليه من أجل الإضافة. وسأحاول أن أعقب على ما ورد في تعقيبه من أفكار، وهي محاولة أبعد ما تكون عن كونها ردّا، لأنه ليس في ما ورد في مقاله ما يستوجب ذلك. فهذه السطور هي إثراء لما قاله أستاذنا الفاضل تحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.
أما عن مفهوم الحداثة التي يفهمها الكثير على أساس أنها ضد القدم (من حديث وقديم)، فهي مستمرة في الممارسة الحياتية لكل فرد ولكل حضارة بالنظر إلى ما يمكن أن تحمله اللحظة الآنية من مستحدثات تضفي على ما سبقها طابعا قديما متجاوزا وتعطي للجديد المستحدث نكهة حديثة. أما عن (المودارنيزم) أو ما حاول أن يترجمه كثير من الباحثين بـ (الحداثوية)، فهو كما هو معروف مفهوم متمركز وواضح تماما مثل الرومنتيزم (الرومانسية) أو الكلاسيسيزم (الكلاسيكية)، أو الرياليزم (الواقعية). والمودرنيزم بهذا المعنى هو مذهب فلسفي مرتبط بالتصورات الفكرية والمعرفية التي أنتجتها مجمل المذاهب الفكرية الغربية السالفة الذكر وغيرها من التيارات الفرعية الأخرى، والتي تحولت إلى فعل حداثي في ما أنتجته من قيم تخالف مرحلة الانحطاط الأوروبي التي سادت في القرون الوسطى، حيث كان العقل الغربي متوقفا تماما عن التفكير وعن الانجاز وعن العمل بفعل عوامل تاريخية وحضارية أرجعها الدارسون إلى سيطرة الثلاثية المشهورة المتمثلة في الكنيسة والإقطاع والملوك الأوروبيين على الفعل التفكيري وحصره في ممارسة وصفها الفكر الحداثي بـ(الظلامية) نظرا للانحرافات الرهيبة التي مارستها هذه الثلاثية على الإنسان الغربي في مرحلة تاريخية عميقة في تسلطها عليه، وظالمة له بما هو إنسان قبل أم يكون متديّنا أو غير متديّن.
وليس خافيا على أحد ما أحدثه الكوجيطو الديكارتي من مغامرة معرفية مدعومة بالفتوحات العلمية واكتشافاتها التطبيقية التي فجرت الثورة الصناعية في أوروبا، من صدمة في الوعي الغربي وهو يستعيد ابتداء من العصر الكلاسيكي المنطق الأرسطي ويعيد فهمه وتطبيقه في مجالات الحياة الفكرية والأدبية، ثم يعيد إنتاج قيمته العقلانية في العصر الرومانسي المتزامن مع نشأة التجربة العلمية النافذة في تحديد اتجاه كفّة العقل بالنظر إلى ما كانت تحمله كفّة الممارسة القروسطية من مظالم محفوفة برهبانية كاذبة ورؤية متحجرة وفعل متسلط. ومن ثمة كانت قوة الفعل الحداثي الذي استمد صيرورته من رجحان الكفة العقلانية في القرن الثامن عشر خاصة، وكذلك من خلال استمراره على مستوى الممارسة الفلسفية في دحض المقولات القروسطية وتثبيت الفعل المُنتج للمعرفة المُسيطرة على العالم والداعمة للمركزية الأوروبية خاصة قيد التأسيس ببداية شعور الغرب بقوة شوكته.
غير أن هذا الفعل سيجد نفسه في بدايات القرن العشرين أمام حالة تشبه حالة انغلاق الدائرة التي أدت إلى دخول الفكر الغربي في نوع من المتاهة الفرانكشطانية التي بدأت تحطم كل ما بنته الحداثة طيلة أربعة قرون من المكابدة المعرفية خلال الحربين العالميتين، نظرا لانزواء المعرفة داخل القوالب الأيديولوجية المتصارعة مما بلور مفهوم الضدّ وخطورة تكريس فعل الندّية على السلم العالمي بسبب اتخاذ المعرفة الحداثية أداة للغلبة والتسلح، مما عجّل بانكماش الفكر الفلسفي الحداثي بوصفه بحثا متجددا يوسع آفاق الذكاء الإنساني وأسس لبداية طرح المساءلة الفلسفية عند فلاسفة غربيين جدد ممن سيُسمّون بـ(ما بعد حداثيين)، والذين دقوا آخر مسمار في نعش الفكر الحداثي نظرا لانحساره في السبعينيات في القرن الماضي، وانطلقوا في رصد قيم فلسفية جديدة لم تكن من ضمن القيم الأصلية للفكر الحداثي، ومن ضمنها طغيان الاهتمام بالنص كسبيل وحيد لتجاوز التفسير الأيديولوجي، ومأسسة مفهوم المنتوج بوصفه بديلا عن مُنْتِجِهِ، وسيادة القيم الاستهلاكية المطبوعة بالرؤية المشيّئة جراء انتهاء عصر الأيديولوجيات وما كان يحمله من صراعات نديّة منذرة بهلاك الإنسانية، وبداية حالة الفكر المُعوْلم الخاضع في عمق طرحه الفلسفي إلى ما أصبح يسمى بالأنسنة التي أصبحت هي الأخرى مرحلة من مراحل الوصول إلى التشيّؤ حسب نقاد الفكر الحداثي وما بعد حداثيّ.
غير أنه لا يجب أن نتصور أن ما بعد الحداثة هي ضد الحداثة حتى وإن بدت في بعض أفكارها على هذه الصورة. إنها كما يلاحظ العديد من الدارسين استمرار طبيعي للفكر الحداثي الغربي ودليل قاطع على قدرته على تجديد دواليب ماكِنَتَهُ المنتجة للأفكار الجديدة نظرا لما لحقها من صدأ، ليضمن مواصلته لمجمل الأطروحات التي تخدم المركزية الأوروبية في الخطاب المابعد حداثي المؤنسن الآخذ صورته التطبيقية في سيادة القيم المعيارية المعممة واندراجها في بساطة الحياة لدى الشعوب المُستهلِكَة للبضاعة الغربية الأصيلة. وربما وجب القول إنه بإمكان البضاعة الآسياوية المطيونة التي طالما لعبت دور النسخة المزيفة للبضاعة الغربية الأصيلة أن تحل محلّ هذه الأخيرة بوصفها منتوجا ماديّا أو ثقافيّا مرغوبا فيه نظرا لمحاولة التمركز الآسياوي الآخذ شيئا فشيئا في غزو مجالات التأثير التي تبقى في نظر الغرب حكرا على الغرب وعلى الفكر الغربي خاصة، وذلك نظرا لحدّة التنافس الشديد من أجل الاستحواذ على مجال الاستهلاك الذي تمثله الشعوب الموصوفة بالمتخلفة الساعية بكل ما تملك من مال إلى استيراد بضاعة مُطيْونَة لاتخاذها تقية لحداثة مزيفة تواجه بها الممارسة الحداثية وما بعد الحداثية الأصلية التي لا طاقة لها بموجهاتها إلا ما توفره لها البضاعة المُطيونة.
ولعلنا نلاحظ مدى انحسار القيم الحداثية (وليست الحديثة) في منظومة الخطاب الفلسفي الغربي، وشيوع وجهة النظر المابعد حداثة عند مفكريها الجدد كما هو الحال عند بول ريكور وجون فرانسوا ليوتار وغيرهم. ولعل هذا ما لا حظه هابرماس، كما تفضلتم، من أن الحداثة تجربة لم تكتمل.
ثمة تداخلات بين هذه القيم من حيث استمرارية حضور تاليها في أولها ومن حيث انغراس أصولها المركزية التي لا يمكن الاستغناء عنها بأية حال من الأحوال في راهنية الممارسة الفلسفية الغربية. فالغرب يُرَسْكِل جيدا أفكاره من أجل الإبقاء على ما يخدم مستقبل الممارسة الفلسفية وما يحقق إجراءاتها التطبيقية. لا شيء يُرمى ولا شيء يُترك، وكل شيء قابل للاستعادة. إذ لا يمكن أن نتصور ممارسة فلسفية دون إجراء تطبيقي ينعكس على واقع الممارسة الحياتية للإنسان الغربي. ولعله من هنا، تكمن المفارقة الكبرى في واقع المثقفين العرب خاصة، والجزائريين الذين يعنينا حالهم بصورة أخص. وهي مفارقة اتخاذ البضاعة غير الأصلية ( المُطيْونة) تقيّة من أجل إيهام الذات بممارسة حداثة حقيقية أصيلة بالمفهوم الغربي وبالمنتوج الغربي، في حين أنها لا تحقق لنا غير حداثة وهمية منفصلة في فهمها وفي تطبيقاتها عن حقيقة الحداثة الغربية (مثَلُ الهاتف النقال الأصيل والهاتف النقال المزيف مثل صارخ في تحديد انتكاسة الفعل الواعي بالحداثة الزمنية بوصفها منتوجا تطبيقيا لمعرفة ما بعد حداثية).
أما عن معنى (الضدّ) فهو فعلا كما ذكرتم أستاذ جباب بالمعنى الهيجيلي، وربما تجاوزه عند مثقفينا إلى (الجحيم) السارتري حتى وإن كان (الآخر) الذي عناه سارتر لا يعني بالضرورة الضدّ. غير أن النفي بمعنى ( Négation)- وليس النفي (Exil) بمعنى ( القولاق) (بالقاف النفخّمة) السيبيري الذي هو صورة تطبيقية له وجزء منه فقط -، ربما كان أدق في التعبير عن التعامل الذي يميز المثقفين الجزائريين فيما بينهم. وهو تعامل ليس وليد اليوم في كل الأحوال وإن ازداد تجذرا، بل هو قديم قدم الممارسة الثقافية عند النخبة المثقفة منذ بداية تكوّنها في بدايات القرن الماضي، وذلك على الرغم من أن المدونة الثقافية الجزائرية لا تمتلك سجلا إيجابيا مدوّنًا لهذه الممارسة، لأنها كانت دائما خارج نصية، أي شفوية وغير مسؤولة ربما في أحد أوجهها، أي أنها كانت خارج ما يمكن أن يسجله النص من توافقات أو تناقضات معرفية بإمكانها أن تؤدي إلى عمل ثقافي بناء في حالة كتابتها. ومن هنا، غياب النموذج التاريخي الذي يستطيع المثقف الحالي أن يحتذي به من أجل إرساء حوار متمدن قادر على تجاوز الإكراهات الذاتية التي تحول دون تحققه. وهي إكراهات تتحول عادة إلى عداوات شخصية ملفوفة بالحدة الشفوية وبالصمم الكتابي، التي نراها في تركة المثقفين والمثقفين الفاعلين المارين بوقع بصماتهم الثقيل، عندما يختفون من الوجود، وما يعتري إرثهم الفكري من مغمضات موقفية تزيد من حدّة صعوبة كتابة التاريخ الآني وتدوين أحداثه بطريقة واقعية وصحيحة، وتضيف، من ثمة غموضا جديدا على الغموض المتراكم الذي يلف التاريخ القريب أو البعيد للمدونة الثقافية الجزائرية.
ربما احتفظت الذاكرة الشفوية بالقليل القليل مما يخاف المثقف أن يدوّنه، أي أن يُسجَّل له أو عليه. وربما، لهذا السبب، تولدت مقولة أن الجزائري يصنع التاريخ ولكنه لا يكتبه. ومن هنا كذلك صعوبة حضور الشهادة المكتوبة بوصفها عاملا حاسما في تحديد المواقف التي تستلزمها اللحظة التاريخية، ومن ثمة غيابها الفعلي في المدونة الثقافية الجزائرية وكذلك في المدونة التاريخية، مما حوّل العلاقة بين المثقف وتاريخه إلى علاقة عرفية تحضر فيها الشهادة الشفوية وتغيب الشهادة المكتوبة، وقد تغيبان معا بطريقة متعمدة لتغييب ما لا تستطيع المدونة تحمّل حضوره المكتوب، مما يعطي دورا فاعلا للنميمة في ملء الفجوات التي تزخر بها هذه المدونة، فتتحول بمرور الوقت إلى خطاب ثقافي أو إلى جزء منه، لا يصدقها أو لا يكذبها إلا صاحبها. ولذلك فهي في كل الحالات نوع من النميمة المعرفية، تغذي الفجوة الثقافية بين المثقفين وتتغذى منها. وقد لا تظهر بصورة واضحة في الخطاب الثقافي، بل في صورة هجاء مقنع في الرواية أو الشعر مما يجعل المواجهة المعرفية بين المثقفين غير موجودة تماما في هذا الخطاب على شكل نقاش أو حوار أو خصومة كما هو الحال في التجربة المشرقية أو التجربة الغربية. وهي تتعدى الخصومة مباشرة إذا ما وقعت، إلى السباب العلني والتهم المجانية وإلصاق الطوابع الأيديولوجية في جبهات الآخر (الضدّ) الافتراضية والواقعية. ولعله لهذا السبب، وربما لغيره كذلك، يندرج (الضدّ) مُكوِّنا أساسيا في تعريف الذات الثقافية الجزائرية كما تتجلى لنا في كتابات مثقفيها الحاليين.
عبد القادر رابحي
تعليقات
إرسال تعليق