نص سمير قسيمي العجيب... يطرق بعدا فنيا واجتماعيا جديدا / د . حبيب مونسي
هل نحن أمام شكل جديد للسرد؟
نص سمير قسيمي العجيب... يطرق بعدا فنيا واجتماعيا جديدا
سمير... اسمح لي أولا بتهنئتك على هذا النص "العجيب"..كنت بالأمس قد قرأت نصا آخر نشرته أنت لشاب مشرقي لا أذكر اسمه يتحدث فيه عن "هاتفه الجوال وعلاقته بفتاته".. وكنت -صدقا- حينها قد نفرت قليلا من النص لم فيه من جرأة في الحديث عن خصوصيات لا يمكن استثمارها في السرد الأدبي.. ولكنني لم أنتبه إلى شكل النص حينها.. قلم يكن قصة قصيرة بالمعنى الذي أرساه النقد وجرت عليه الأقلام، ولم يكن أقصوصة كذلك.. وتوقفت أبحث له عن تسمية يمكن أن يدرج تحتها حتى نتمكن من فهم آلية اشتغاله.. وتذكرت نشاطا أدبيا كان الغرب قد رفضه في ستينيات القرن الماضي لارتباطه بالحركات الهيبية والمخدرات وسمي بالأدب الهامشي para-littérature لأنه لم يلتزم أية طريقة مطروقة في فن الكتابة.. وهاهو نصك اليوم ..الذي لا يحمل عنوانا، ولا يبدأ بداية أدبية، وإنما يتوسل البداية الإدارية، والتي يقترب من شكل الرسالة الإدارية، غير أنها الرسالة الخالية من الطلب.. والذي ينصرف سريعا إلى الاعتراف.. ويسير في سخرية تبطنها سذاجة الراوي التي يرتديها عن عمد إمعانا في إبراز عنصر الطيبة فيه.. فهو الجامعي الذي انتهى به المطاف إلى الاشراف على "دورة مياه عمومية" ذلك المكان الذي تعارف الناس على تسمية ب"بيت الراحة" وكأن الانسان لا يشعر بها إلا إذا ضايقه البول او الغائط مضايقة حرجة، ثم يجد في هذا المكان الذي يستر عورته أولا ويمكنه من افراغ شحنته ثانيا شرطا يحقق له المعنى الحقيقي للراحة..
شيء ما في نصك سمير "يصفع" القارئ ليقول له انتبه.. أنت أمام مفارقات كبيرة ما كان لها أن تكون لولا الوضع المتردي الذي يعيشه الشباب المتعلم هذه الأيام.. فحضور الوزير الذي يوصي بتشغيل الشباب الجامعي في دورات المياه العمومية والذي تقابل فكرته بالاستهجان يحوله السرد الساخر إلى صاحب حل عجائبي اجتماعي.. يتحول معه القرف الذي كان يملأ نفس السارد إلى رضا بل إلى سرور بالوظيفة الجديدة التي يجد لها امتدادات نفسية وفكرية واجتماعية في العامة من الناس، لم تكن تخطر على بال.. إلى درجة التفكير في نشر فضائلها في مقال صحفي.. مفارقة تلو الأخرى تتجاذب النص من أطرافه وأعماقه فلا تتركه يستقر عند عتبة من العتبات المألوفة في الحكايات...
ها أنت تقول:"أنا كالرجل الكبير الذي يقرر كل شيء في هذه البلاد، رغم أن لا أحد يراه، ويكتفي بالاعتقاد أن من يقرر حقا، هو الرجل الأنيق الذي نراه كل يوم على التلفاز". فتكشف السر في كل تركيبات الحكم التي تسوس العالم شرقا وغربا، وتعلنها صراحة بأن الرجل الوسيم الذي يطل من زجاج التلفاز لا يمثل وجوده إلا الواجهة التي يؤمن بها السذج من العامة.. أما الواعون من أمثال المشرفين على دورات المياه العمومية فيعلمون أنهم هم من يمكن العامة من الراحة العملية بعدما تمتلأ بطونهم بسموم الحياة ونفاياتها..
هنا يضعنا نصك أمام القبح وقناع الوسامة... فالقبح أصل وهو يحب ذاته كونه قبيحا لذلك لا لبس قناعا ولا يظهر إلى العلن.. أما الوسامة فمجرد قناع للمخاتلة والخداع.. حتى هؤلاء الوافقين في الطابور أمام دورة مياهك ، وهم يتقافزون مثل فئران التجارب يعيشون لحظات القبح في أشد ساعاتها حرجا.. وحينما تَفتح لهم الباب يتسابقون إلى الحجرات لاستفراغ ما فيهم من قذارة أولا. فإذا شعروا بشيء من الانتشاء تحولوا إلى مبدعين يخطون على الأبواب والجدرات عبارات العشق والهيام والجنون.. أو عبارات الرفض والتمرد والثورة.. أو عبارات الكفر والإلحاد.. فهم لا يفكرون ولا يبدعون والحاجة تضايقهم.. ثم ها هم يشعرون بالراحة.. ومنها .. بالحاجة إلى التعبير عن دواخلهم في إطار تغفل عنه عين الرقيب ولا تصل إليه كاميرات التجسس.. ثم يخرجون وقد عادوا كما كانوا من قبل عرضة للمضايقة، وهم يصلحون هندامهم ويلبسون أقنعتهم.. فيهم المحامي والمعلم والطبيب.. والتاجر والفاجر والحرفي... فيهم البائع والمشتري.. والسمسار والقمار.. فيهم الحاكم والمحكوم والنخاس.. إنهم نحن.... ثم إنه آخر مكان يُغلق ليلا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق