الثقافة، المثقف..الحرية، الفلكلور / الحبيب السائح


الثقافة، المثقف..الحرية، الفلكلور
جريدة صوت الأحرار: 06 فيفري 2014
Habib Sayah

الحبيب السائح
هل يمكن الحديث عن إنتاج فكري، في صلته بحرية الإبداع؛ أي ممارسة فكرية من المركز لا من الهامش، تنتج المتن لا الحاشية، في مجتمعات، أغلبها واحدية التصور، أحادية الممارسة، كشرط لبقائها، تأسيسا على شرعية من الشرعيات الإلهية أو التاريخية أو الدستورية نفسها وكممارسة سياسية وثقافية تلغي مصالح الإنسان وحقوقه الفردية في الاختلاف، وتصادره كمثقف ينتج خطابات مغايرة، إلى أن يعلن:
. هجرته إلى داخل ذاته ـ وهي الموت غير المعلَن ـ لأنه ينقطع عن الممارسة لصالح جماعته التي تمثّل شرطه التاريخي، وتنقطع عنه جماعته في إمداده بوعي وجوده.
. هجرته إلى الخارج؛ وقد يكون خيارا أو نفيا أو هربا..
. معارضته المنتظمة، في تداخل وجوده، كمثقف، مع السياسي الذي يمارس عليه الإقصاء، يصادر إنتاجه، يمنع نشره، ويحظر عليه الاتصال والتنقل، ويقمعه جسديا.
. انسجامه وفي يده لائحة نوايا، هي مجموعة خطوات المشاركة المعبر عنها فنيا أو أدبيا أو فكريا، لتسويغ خطابات القائم.
فليست الدولة بأجهزتها الردعية، في الأحوال كلها، هي التي تلزم المثقف بنوايا مماثلة، فهناك مجموعات الضغط والشرعيات الموازية، في داخل الأجهزة وفي خارجها، هي التي تأتي فعل الإقصاء ـ فخلال المحنة الوطنية تم إلغاء المثقفين بأساليب دموية همجية من خارج أجهزة الدولة.
فحرية الإبداع هي قدرة ممارسة فعل قراءة الواقع ـ الذي تحرسه عين الديني والسياسي ـ بما يفسح للعقل أن يصوغ أسئلة جديدة تزعزع الاطمئنان السائد لتجاوز ممكن.
غير أن النظام السياسي القائم غالبا ما يستبق فيفرض قراءة يدمجها في مؤسسات الدولة وينفذها في الحياة اليومية بواسطة الأجهزة القائمة؛ في مقدمتها الإعلام والتعليم والتشريع..
ومما تسعى إليه هذه القراءة هو إضلاع المثقف في المشاركة؛ فكثيرا ما يفلح النظام في استجلاب مثقفين، لتأسيس وجوده، لدى ما يسمى "الرأي العام"؛ باعتبار المثقفين، في نظر الفئات الاجتماعية الأخرى، هم المجس في التعامل مع أطروحات النظام القائم.
فأكثر ما تكرسه الأنظمة العربية، ليبقى عقبات أمام التطور الاجتماعي والإنتاج الفكري الحر، هو تخلي المثقف ـ لأسباب لا يسعها هذا الفضاء ـ عن حسم مسألة المناهج التعليمية المصوغة بتوفيقية لغوية ومنهجية؛ بدل إضفاء الطابع العلماني على علوم الحياة التجريبية خاصة، وأنسنة التعليم عامة؛ بإعطاء الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، في مستويات المنظومة العليمية، الحجم الذي يسمح بتوليد أسئلة تحرك مجتمعا سلبيا منتظرا مطمئنا إلى خوفه، وتفتح مسارات نحو تطوير مؤسسات الدولة: الاقتصادية، المالية، التعليمية، النيابية... فإن بناء الممكن بالثقافي، كمرتكز، هو رهان التحول.
فإنه لا تخفى على أي سياسي، بهذه الصفة، أهمية الإبداع الثقافي "على رأسها مساعدة الجماعة في تحصيل الوعي الجمعي، وفي الوعي بمشاكلها وتطلعاتها.. وحدهم الفلاسفة والكتاب يتمكنون من ترجمة الحد الأقصى من الوعي الممكن للجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها". (عيون المقالات، المغرب، ع14- 15، سنة 1990، ص 125).
تحصيل الوعي الجمعي يستدعي إنتاجا فكريا، كميا ونوعيا مؤملا توافرت له شروط إبداعه: حرية تصوره، إنتاجه، نشره، وصوله إلى مستقبليه؛ وفي هذه الحال فهو لا يحوز تزكية، فحسب، ولكن قبولا وتمثلا.
على أن صلة الإنتاج الفكري بحرية الإبداع تبقى موسومة " بالغموض الذي يسود علاقة المثقف بالسلطة؛ سواء أكانت هذه العلاقة علاقة مشاركة أم علاقة نزاع أم علاقة خضوع " (أمين خان، المثقفون بين الهوية والحداثة. الجزائر والحداثة، سلسلة كتب كوديسريا، فرنسا، 1989، ص 267).
يصبح نوعا من الأوتوبيا الحديث عن علاقة الثقافة بالحداثة في غياب قراءة نقدية لمراجع ثقافتنا نفسها، وفي ظهور ارتباك قدراتنا لمواجهة القراءة الأحادية، الانتقائية، المقصية؛ انطلاقا من شرعية ما مهيمنة، بدعوى مواجهة " الآخر "؛ كونه عدوا تاريخيا متربصا: التسويغ الذي لا يخلو من حقيقة؛ غير أن هذا " الآخر " لا يمكن صد "خطره" بالانكفاء في صحن ماض، لا يمكن أن يسري مجده زمنا بديلا عن زمن الإخفاق الممتد فينا منذ أكثر من خمسة قرون؛ بل بتطوير آليات قراءة الذات، وبالتزامن الانفتاح على منجزات "الآخر" الفكرية والعلمية وتجاربه الإنسانية، بقراءته للتمكن من محاورته "فإنه ليس من الخطإ القول: إن الجنوب خيّب الأمل، وإن شيئا ما فيه تهرشم، وإن ديناميته الحديثة انتثرت بسرعة، وإن إعادة التوازن إلى العالم أصبح مرتهنا. فمنذ القرن الخامس عشر إلى بداية القرن العشرين كان الغرب هو الذي يصنع التاريخ، فالمستجدات كلها، تقريبا كلها، كانت من فعل الغربيين". (روبير بونو، نجاحات الفشل، إلى أين يتجه التاريخ؟ منشورات أركانتير، باريس، ص 155).
فالانتقال إلى أسئلة الحرية هي شرط نهضتنا من كبواتنا ومعالجة إخفاقاتنا لتكريس وجودنا؛ إذ الحرية لم تعد هي، فقط، تلبية الحاجات البيولوجية ـ كما تستثمر في ذلك الأنظمة الشمولية ـ بل صارت مطلبا أساسيا في الحياة الخاصة والعامة وفي الممارسة السياسية والدينية والفكرية.
فالثقافة، في علاقتها بالديمقراطية في بلادنا العربية، محكوم عليها بأن تتخلص من مظاهرها الفلكلورية وبأن تقطع مع تسويغ خطابات الشرعيات؛ للإسهام في بناء الدولة المدنية الحديثة: الضمانة الوحيد للحرية كقيمة اجتماعية وروحية تُمارس في الاختلاف وبالتعدد.
فإن الثقافة كانت وستظل بحثا دائما عن حقيقة، قول حقيقة، دفاعا عن حقيقة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح