منذ تخرجت من الجامعة وعملي "باحث عن وظيفة". / سمير قسيمي



الإسم: أحمد.
اللقب: مولاي.
السن: خمسون عاما.
الشهادة: مهندس دولة في الميكانيكا العامة.
اللغات: العربية، الفرنسية، الأمازيغية، الانجليزية.

المهنة الحالية: ....
Samir Kacimi
سمير قسيمي
سيكون رائعا لو ملأت الفراغ وكتبت "المهنة الحالية: رئيس ورشة"، أو حتى عامل في ورشة. ولكنها لن تكون الحقيقة، فأنا منذ تخرجت من الجامعة وعملي "باحث عن وظيفة".
لم أعد أتذكر كم من ملف أودعته وكم عدد المسابقات التي اجتزتها. الأكيد أنني لو احتفظت بكل تلك الملفات لاحتجت أن أؤجر عمارة بكاملها لأتمكن من تكديسها، أو ربما لاحتجت لسنة كاملة لأقدر على حرقها.
المهم، منذ سنتين استقلت من وظيفة الباحث عن وظيفة والتحقت بعمل حقيقي، وصار من الممكن أن أضيف شيئا إلى سيرتي المهنية التي لم تتغير منذ تخرجي.
يمكنني الآن أن أكتب بكل فخر: "المهنة الحالية: مشرف على مرحاض عمومي".
سأضع سطرا أحمر تحت كلمة "عمومي"، وبذلك أضمن ألا يسخر مني مُستخدِمي المستقبلي، لأنني أعلم بحسب التجربة أو ربما قرأت ذلك في جريدة ما، أن "العمومي" وصف هام وخطير، قد تؤدي السخرية منه إلى السجن.
ومع هذا، يمكنني أن أكتب مهنتي بكل فخر دون أن أضيف إليها وصف "العمومي" هذا، لأن الذين لم يشتغلوا في هذه المهنة لن يعرفوا أبدا أي فخر تكسيه صاحبها، وقطعا لا يعرفون مصاعبها التي لا تنتهي، حتى أنني أفكر أن أكتب موضوعا حولها وأرسله لأية جريدة لتنشره. ربما بعدها يتوقف المتبجحون في الصحافة عن وصف مهنتهم بمهنة المصاعب.
تضحكون؟!.. من حقكم أن تضحكوا. ولكن دعوني أحدثكم عن مهنتي هذه أولا، وبعدها ستدركون حتما أنكم تسرّعتم في الضحك.
في البداية، كنت مثل الجميع أعتبر مهنة المشرف على مرحاض عمومي، مبعثا للسخرية أو التقزز. ولعلني قبل أن أصبح مشرفا، دخلت مرحاضا عموميا مرة أو مرتين، دون أن ألاحظ حتى وجه المشرف عليه. رغم أن أهم ما في المراحيض العمومية هو المشرف بالتأكيد. ربما كنت في ذلك كجميع زبائني الذين رغم تغيرهم وتباينهم، لا ينتبهون إليّ، رغم أنني أنا من ينظف خلفهم.
أنا في ذلك كالمخرج السينمائي، لا أحد يلاحظه رغم أنه كل شيء. وما دمت أعرف أنكم طيبون ولا خطر منكم، لأنكم طيبون أيضا، سأهمس لكم "أنا كالرجل الكبير الذي يقرر كل شيء في هذه البلاد، رغم أن لا أحد يراه، ويكتفي بالاعتقاد أن من يقرر حقا، هو الرجل الأنيق الذي نراه كل يوم على التلفاز".
إلا أنني لن أنكر أن من بين زبائني من لاحظني، ومن بينهم أيضا من فهم الغايات الكبرى من مهنة المشرف على مرحاض، كما أن بينهم من يقدر الجهد الذي أبذله كل يوم لأوفر خدمة هي الأشرف والأهم في كل الخدمات التي يمكن تقديمها على الإطلاق. ولكن من الصعب أن تجعل جميع الزبائن كذلك، فما بالك بالذين لم تطأ أقدامهم أرض مرحاضي الأعرق في كل العاصمة.
أذكر مثلا حين نصح أحد الوزراء الشباب الجامعيين من أمثالي بإنشاء مشاريع لمراحيض عمومية، تخلق لهم ولسواهم مناصب شغل قارة. جميع من سمع تصريحه أو قرأه على الجرائد وصفه بالمجنون والمعتوه، حتى أنا قبل أن أشرف على مرحاض سوق كلوزال، سخرت منه وتمنيت أن يقال من الحكومة وتقال الحكومة معه بسبب تجرئه على الجامعيين. الآن أدرك فداحة حكمي عل هذا الوزير الطيب، حتى أنني أتمنى أن يشرفني ذات يوم ويدخل مرحاضي، وآخذ معه صورا فيه.
لن أنكر أنني أحيانا يتملكني الإحباط من كل ناكري الجميل هؤلاء. صحيح أنني آخذ مقابلا عن دخولهم، ولكنه لاشيء مقارنة بما أوفره لهم من راحة جسدية وعقلية وعاطفية لا توفرها لهم كل خدمات العالم. فبمجرد أن يدخل الزبون إلى مرحاضي يدرك أنه في بيته، يفعل في قمرته ما يشاء. المهم أن يلتزم الهدوء فيما يفعل. لا أقصد بالطبع التبول والتغوط أهم غايات المرحاض، بل كل تلك الأفعال التي قد تمارس في مرحاضي وتكون ممنوعة في أماكن أخرى.
أنا كشاب، أو أقول ككهل ما زال يعيش شبابه، أعرف كل ذلك الكبت الذي يعيشه الشباب، لذلك أسمح لهم بالترويح عن أنفسهم بأية وسيلة يرونها مناسبة، حتى أنهم بمجرد أن يخرجوا من عندي، أدرك كم أن دوري مهم في التنفيس على الجميع.
وحين أقول الجميع، فأنا أعرف ما أقول. تكفيني زياراتي المسائية للحجرات حين أغلق المرحاض في الثامنة ليلا، وأرى تلك الكتابات على الجدران في القمرات النسائية والرجالية لأشعر بالامتنان لذلك الرجل الطيب الذي مكنني لأكون مشرفا على هذا المكان الرائع، وحين أهم بقراءتها أشعر بالرضا على نفسي، لأنني اخترت عملا، يسمح لكل المكبوتين من رجال ونساء أن ينفسوا عن أنفسهم، وأحيانا أن يتصلوا ببعضهم دون واسطة، بفضل إعلانات الحب التي تزين جدران مرحاضي.
بهذا أخبر أحيانا المشككين بنبل وظيفتي فيتضاحكون ويقهقهون وكأنني أسرد عليهم نكتة، ولكنني سرعان ما أتوقف عن محاولة إقناعهم، لأنني موقن أن الأيام كفيلة بذلك. تماما كما فعلت، حين مرضت يوما وفتحت المرحاض متأخرا عن موعده. وجدت زبائني يقفون طوابير طوابير أمامه، دون أن يعلموا إن كنت سأقدم أم لا. للحظة شعرت بالغبطة وأنا أراهم يمسكون بطونهم ويتقافزون كفئران تجارب ويترجونني أن أفتح لهم، حينئذ أدركت أنهم رغم تنكرهم لنبل وظيفتي، يعلمون أن لا غنى لهم عني وعن المرحاض الذي اصطفوا أمامه، كما يفعلون عادة في كل موسم حين تندر أو تختفي سلعة ما. ولكنني على خلاف التجار الذين يقدرونهم بدون سبب، لم أعمد مثلهم على رفع مقابل الدخول. فكما قلت، أنا أقدم خدمة أشرف من كل الخدمات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح