تجربة الروائية سارة حيدر..../ حبيب مونسي



شخصيات الرواية... حضور واقعي أم ورقي باهت؟؟
الروائي .. وشخصياته؟ طبيعة العلاقة وتشنجاتها...

تجربة الروائية سارة حيدر..../ حبيب مونسي 
===========

بعيدا عن التنظيرات النقدية... كنت أبحث عن الكيفيات التي يتعامل بها الروائي مع
شخصياته في النسيج السردي، وعبر الأحداث القصصية التي يرويها، وضمن المخيال الذي يبني به عالمه الروائي، ويؤثث به كونه السردي.. كانت النظرية النقدية تصنف الشخصيات بحسب قيمتها وأولويتها في السرد هيمنة وضعفا، ولكنها كانت تغفل دوما تلك العلاقة التي تنشأ بين الروائي وشخصياته من حيث الانفصال والاتصال، ومن حيث الاتفاق والاختلاف، ومن حيث الرضا وعدم الرضا... وتلك حالات دقيقة لا يكاد التنظير النقدي يصل إليها لأنها لها من الخصوصية ما يجعلها تختلف من روائي إلى آخر.. فهم يتوزعون كما يتوزع سائر الناس في علاقاتهم بالآخرين سلبا وإيجابا، حبا وبغضا وازدراء... ومن ثم كانت عملية ضبط هذه العلاقة من أدق العمليات التي يريد النقد أن يكتب عنها شهادته.. فكانت الروائية الشابة "سارة حيدر" ممن استوقفني حديثها العاصف عن عوالمها الروائية، وعن شخصياتها المتقاطعة، وعن جو الغضب الذي يسود نصها من أوله إلى آخره.. فكانت فكرة البحث عن تلك العلاقة مما يثير الاهتمام النقدي.. فهي تقول بكثير من الغضب والحب، في حوار لها مع الصحفي الروائي الخير شوار:"أنا متفقة مع شخصياتي على كل شيء حتى وإن كانت إحداها على النقيض مني تماما. قد أكتب عن أشخاص يثيرون احتقاري أو رغبتي في التقيؤ ولا يوقظون في سوى الرغبة في قتلهم وسلخهم تحت الشمس إن تمكنت من ذلك على أرض الواقع، لكن عندما تتحول هذه الشخصية إلى كائن حبري، تكتسب شيئا من القدسية وحالما تولد روحها من جديد بين أحضان الورق يصير لحياتها وكلماتها ومعتقداتها ذوق إلهي أرتشفه بكل حواسي." ولا يفهم الاتفاق - هنا- بمعنى الرضا عن المواقف والسلوك، وإنما الاتفاق معناه أن يكون للشخصيات حريتها في اختيار ما تشاء من موقف وفكر.. غير أن هذه العتبة من الخطورة بمكان، لأنها في النهاية لا يكتب فيها السرد سوى فكرة الروائي التي أرادها ومهد لها التمهيدات المختلفة.. بيد أن الذي يهم القراءة هو أن يأتي هذا الموقف في سياق المحتمل الذي تبرره الأحداث العامة للرواية وفلسفتها وخطابها.. ومن ثم ينجو الروائي بجلدته، ويُمكنه أن يدعي أخيرا أنه يتيح لشخصياته الحرية كلها في القول والفعل. وتظهر الصورة كما وصفتها "سارة حيدر" صورة الاتفاق التام الذي لا يشجب موقفا ولا سلوكا...
إن السر الذي يدفعنا إلى استجلاء هذه العلاقة الحميمية بين المبدع وشخصياته لا يمكن تفسيره من ناحية أخرى إلا عبر سبر الفعل الكتابي الذي يدفع المبدع إلى مواجهة رُهاب الصفحة البيضاء.. تلك اللحظة التي تتردد فيها الذات كثيرا في اختيار كلمتها الأولى التي ستنزع السداد أمام سيل الكلمات المتدفق.. إنها لحظة لا توزن بميزان الوقت، ولا تُقوّم بمعيار القيمة.. تقول "سارة حيدر" عنها فيما يشبه الاعتراف الصوفي:"الكتابة بالنسبة لي هدف في حد ذاته تماما كالحياة. سوف أسخر من نفسي حتما إن كنت أنتظر من الكتابة شيئا ما. أنت كاتب وتعرف حتما هذه الرعشة التي تولد في مكان ما من داخلنا حين نخط أول حرف من الرواية. هذه الرعشة بالنسبة لي أغلى وأجمل وأنقى من كل ربح مادي أو شهرة قد أجنيها من الكتابة. رعشة تفسر لك في ظرف ثلثي ثانية معنى حياتك وتقنعك بمدى اختلافك عن الآخرين عندما تكتب. كل ما أرجوه من الكتابة يا صديقي هو أن تبقى منقوشة على جدران الذات وألا تتبخر مع كل ما يتبخر بداخلنا. " ثم تضيف في حوار آخر قائلة:". هناك لحظة وحده الكاتب يعيشها، هكذا فجأة، دون سابق إنذار، دون تمهيدات، دون أسباب. لحظة يقتنع فيها بأنه قام بشيء عظيم، أضاف فاصلة أو حرفا أو نقطة غبار في كتاب الأدب العالمي.. أو على العكس من ذلك، يقتـنع بمرارة لا توصف بأن كل ما فعله هو خربشة طفولية تافهة على آلاف الأوراق التي تُطبع وتنشر وتوزع على قراء أبرياء ونقاد أغبياء... "
إنها لحظة الخلق التي يرتفع من ورائها بناء شامخ يسمى الرواية.. ذلك العالم الذي تضطرب فيه الحياة بصخبها وضجيجها وأحلامها وآلامها.. بما فيها من خير وشر.. لتقوم بديلا إبداعيا عن الواقع.. تتركز فيه النظرات على ما هو إنساني في الإنسان تاركة للحياة سيلها الهادر المتخم بالجزئيات التي تنهار سريعا في غياهب النسيان..
لذلك تراها تؤمن بالفعل الكتابي في توحده وترفض أن يجزأ إلى أدب ذكوري وآخر نسوي فتقول:"الكتابة النسوية»؟؟ هل يغيظكم إلى هذا الحد أن تكتب المرأة وتدخل عالم الأدب بعدما كان طويلا مخصصا لكم؟ (أنا أمزح). تعرف أنني أرفض هذه التقسيمات لأسباب لا أكف عن شرحها للجميع. الكتابة معجزة لا تحدث لأي كان (رغم ما يبدو على ساحتنا الأدبية المكتظة هذه الأيام) ولذاك فإن الكاتب يكف عن أن يكون رجلا وامرأة عندما يواجه بياض الصفحة بل يتحول إلى كائن أندروجيني يمكنه أن يكتب عن المرأة كما لو أنه رجل وعن الرجل كما لو أنه امرأة."...من شأن هذا التوحد في ذات المبدع أن يعطيه القدرة السحرية لأن يكتب عن المواقف كلها، وأن تتعدد وتيرة الكتابة لديه بتعدد توترات المواقف.. غير أنها لدى "سارة حيدر" كما وصفها سعيد حطيبي :"تحكي متاعب شخصيات الرواية بنبرة يشوبها الغضب. حملت الرواية عنفاً لفظياً في بعض أجزائها، وفظاظة يبررها الواقع العام الذي يدفع الفرد إلى انتهاج العنف كملجأ أخير للتعبير عن نفسه. ولكن في ظل حالة اليأس والإحباط والسوداوية التي تكاد تكون «حتمية» بين مختلف شخصيات الرواية، كان لا بد أن يظهر على النص بريق أمل، نافدة حلم، وشعرية متقطعة، تفاجئنا من حين إلى آخر. "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح